قصة جريدة
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry
في تمام الثامنة صباحاً ... كانت تحتل مكاناً بارزاً على أحد أرفف الصحف في "كشك" السيد (جوسيبي) والذي كان بدوره وبكل ما جبل عليه من مكر ودهاء يتسكع في الزاوية المقابلة تاركاً لزبائنه حرية اختيار ما يروق لهم من مطبوعات، متبنياً - دون شك نظرية الإناء المكشوف.
وكانت تلك الصحيفة - على وجه الخصوص طبقاً لسياستها وتصميمها - تقوم مقام المربي والدليل المرشد والمؤشر الاقتصادي والمستشار العائلي والمرجع والرفيق الملازم. ومن بين مقالاتها الافتتاحية الممتازة كانت هناك ثلاث انُتقيت بعناية، صيغت إحداها بلغةٍ سهلة وأسلوب نيّر سلس ... وكانت موجهة إلى عموم المعلمين والآباء تستنكر فيه بشدة ظاهرة إيذاء الأطفال والمتمثلة في تطبيق أسلوب العقاب البدني على أجسادهم الغضة البريئة!
فأما الافتتاحية الثانية فكانت اتهاماً وتحذيراً شديد اللهجة وُجّه إلى زعيم عمالي متهور يوشك أن يوقع أتباعه في متاهات إضراب مقيت لن يؤدي إلا إلى مزيد من المتاعب والهموم!
أما المقاتلة الافتتاحية الثالثة فقد كتبت بأسلوب لبق بليغ تحث الشعب فيه على تقديم الدعم الكامل لأفراد الشرطة كيما يتمكنوا من أداء الدور المنوط بهم، والمتمثل في حماية أفراد المجتمع والحرص على راحتهم وسلامتهم.
وكانت هناك إلى جانب ذلك العديد من الزوايا الشيقة كعمود: "من القلب إلى القلب" والذي قدم المحرر عبره نصيحة قيّمة إلى أحد القراء، وكان قد طلب المشورة بعد أن أضناه البعد وتركه جفاء الخطيبة دامع العين كسير الفؤاد معنّى، أمضه الوجد، ولوعة الفراق! بين له المستشار العاطفي كيف يداوي الجراح ويعيد إلى ضفافه مَنْ كانت له الداء والدواء!
أما صفحة (جمالك) فقد حوت رداً على سؤال وجهته شابة رغبت في إجابة شافية تستطيع من خلالها أن تنعم بعينين براقتين وخدين في جمال حديقة ورد وبشرة صافية في رقة الحرير!
وكانت هناك أيضاً فقرة خاصة تحوي إشارة مميزة وجهت من قارئ إلى آخر ... كانت رسالة قصيرة جاء فيها:
عزيزي (جاك),َ
سامحني، لقد كنت على حق. قابلني في زاوية (ماديسون) في تمام الثامنة والنصف من صبيحة يومنا هذا - سنغادر ظهيرة اليوم ذاته.
التوقيع: تائبة
في الثامنة صباحاً أتى إلى ركن الصحف شاب مضنى معذّب ... شارد النظرات تائه الفكر وضع قطعة نقود وسحب نسخة من الجريدة ذاتها ... من (كشك) (جوسيبي) ... وبدت عيناه لطول السهر الذي أخر استيقاظه كبئر أحزان ليست تنضب. ثمة مهام كثيره كانت تثقل كاهله ... مكتب يتعين أن يصله قبيل التاسعة ولحية تنتظر دكان الحلاقة وكوب قهوة فيما بين هذا وذاك.
وخرج من دكان الحلاقة فحث الخطى كمطارد، ثم ألقى على الجريدة نظرة سريعة قبل أن يحشرها بسرعة في جيبه. وفي الشارع التالي سقطت منه ساحبة معها قفازيه الجديدين. ولم يلحظ اختفاءها إلا بعد ثلاثة شوارع فعاد ثانية وأبخرة الغضب تخمد ما تبقى في ناظريه من جذوة الحياة.
في الثامنة والنصف تماماً كان يمر بجانب الجريدة والقفازين لكنه تجاوزهما بشكل غريب، وأمسك فجأة براحتين صغيرتين، وظل يحدق في لوعة وهيام - في عينين عسليتين - فاض من أحداقها بحر من الأشواق - والسعادة تعزف في فؤاده أروع السيمفونيات: بعد إذ التقى زوجة المستقبل.
- عزيزي "جاك" - قالت - كنت أعلم أنك ستكون هنا في الموعد المحدد.
- ليتني أعرف ما رمت إليه - قال في نفسه - لكن ... لا شيء يهم ... لا شيء يهم.
وهبّت من الغرب فجأة ريح قوية حملت الجريدة ففتحتها وأطارتها مسقطة إياها على فرس جفول في شارع جانبي - رُبطت إلى إحدى العربات - وكانت معقل آمال ذلك الشاب الذي كان يتمنى الظفر بمثلها كيما يقدمها هدية إلى مَنْ فتنته وزرعت في قلبه مرّ الآهات والتنهدهات مقنعة إياه بدخول قفص الزوجية طواعية.
وسقطت الجريدة الطائرة على وجه الفرس الجفول، فدب في قلبها الذعر وعدت لا تلوي على شيء، ثم علا صهيل وصليل حديد عربتها، وزادت في عدوها المحموم حتى اعترضتها حنفية إطفاء الحريق بعد أن اجتازت أربعة شوارع فلعبت الأخيرة دورها في تلك المسرحية الهزلية .. ارتطمت العربة بها فتكسرت أشلاء انتثرت، واستقر الحوذي على الرصيف إلى جوار بيت شيد من طوب بنّي.
على أنه يجب ألا ننسى في خضم تلك الأحداث جريدتنا الغراء وما كان من أمرها، إذ إنها عندما أُجفلت الفرس واصلت تحليقها حتى مرت بجوار شرطي اعتقلها بتهمة تهديد سلامة المرور وأمن المواطن ... وبأصابعه الكبيرة البطيئة سوىّ صفحاتها المبعثرة فقرأ عنواناً جاء فيه:
(حملة تقودها الصحف لدعم حماة الأمن)!
وثنى الشرطي (برايان) الجريدة فدسها في يد صبي كان يعبر الطريق. كان اسمه (جوني) وقد حمل الجريدة معه إلى منزله، وهناك كانت أخته (جلاديس) والتي سبق وأن بعثت إلى صفحة جمالك في الجريدة نفسها منذ أسابيع عديدة طالبة موافاتها ببعض اللمسات الجمالية ولما تأخر الرد داخلها اليأس فتوقفت عن شراء الصحيفة. كانت (جلاديس) ذات بشرة شاحبة وعينين معتمتين أطفأ اليأس فيهما جذوة الحياة، وعكست تعابيرها كل معنى للإحباط. لكنها بعد قراءة الجريدة استحالت فتاة أخرى ... ربطت أجزاء من الصحيفة التي جلبها أخوها إلى فستانها فأحدثت حفيفاً رقيقاً، كذلك الذي يحدثه مس الحرير الدمشقي إما خطت غانية مياسة القد به ... واتجهت (جلاديس) صوب مصففة الشعر، وفي طريق عودتها التقت بإحدى صديقاتها ... سمراء تقطن في الشقة السفلى فتميزت الأخيرة غيظاً وكمداً ... كان الحفيف الرقيق الذي أحدثه سير (جلاديس) لا يصدر إلا من قماش باهظ الثمن من أرقى الأنواع ... وعندما غادرتها ... كانت الغيرة تقرض أطرافها ... وتمتمت جراء ذلك بكلمات تفيض حقداً وحسداً وكمداً قارصةً بأسنانها شفتيها دون وعي.
وسارت (جلاديس) في خيلاء بعد إذ أمدتها خبيرة زاوية جمالك بلمسات جمالية لا تقدر بثمن - ليتها تراني - قالت في نفسها.
كلمات خبيرة الزاوية كانت تتضمن نصيحة خلاصتها أن غرس المشاعر المضمخة بعبير المحبة وصدق الأحاسيس تجاه الآخرين يزيد في جمال المرء، ولا عجب في ذلك، فإن ما يسكب في القلب تعكسه الملامح، وتلك كانت الوصفة السرية.
أما ذلك الزعيم العمالي المتهور فكان والد (جوني) و(جلاديس), وأما ما كان من أمره فإنه لمح الجريدة التي ألقت بها ابنته ولم يلحظ لسوء الحظ تلك المقالة التي تندد باعتزامه قيادة تلك المظاهرة.
إلا أنه كان شغوفاً بحل الكلمات المتقاطعة، فاقتطعها وانتحى جانباً فاستل قلماً شرع يحل به رموزها.
بعد ثلاث ساعات من الانتظار الممل قرر بعض أصحابه الذين أمضهم ترقبه في المكان المحدد لانطلاق المسيرة التظاهرية - أن يطرحوا فكرة المظاهرة جانباً فيلجؤوا إلى التحكيم، وهكذا كُفوا شرها.
عندما عاد (جوني) من المدرسة اتخذ ركناً قصياً وأخرج من ملابسه بعض قصاصات من الجريدة كان قد أخفاها في الأماكن الأكثر تضرراً من العقاب البدني الذي تلقاه ذلك اليوم في مدرسته. كان طالباً في إحدى المدارس الخاصة، إلا أن ثمة مشكلة كانت لديه مع أحد مدرسيه، على أن تلك المقالة المنددة بمشكلة الضرب في المدارس قد أحدثت بعد ذلك تأثيراً كبيراً في النهج التربوي المتبع بمدرسته.
وبعد ذلك كله فهل يتأتى لأحد إنكار أثر الصحافة في حياة الفرد؟!!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا