رسُوله
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry
لم يكن الموسم أو الساعة بالذي اعتاد المنتزه استقبال زبائنه فيه! من المحتمل إذاً أن تكون تلك السيدة التي اتخذت لها مقعداً بمحاذاة أحد الممرات قد خضعت لنزوة عابرة تستشرف من خلالها أطياف الربيع الآتي وغلالات حزن شفيف تلقي بظلالها عليها.
وظلت قابعة لا تبرح مقعدها ... كانت قتامة ذلك الأسى الدفين الذي صبغ محياها حديثه عهد، إذ إنها ما غيّرت من جمال ملامحها ورونق بشرتها الفتيّة وذلك التقوس العنيد الذي يحدد شفتيها!
واقتربت منها خطوات شاب اخترق الممر المرصوف المؤدي إليها. كان فارع الطوب يتبعه صبي يحمل حقيبته، وحالما وقع نظر الشاب على المرأة اصطبغ وجهه بلون الأرجوان، ثم ... عاد إلى شحوبه ثانية ... وكان وهو يحث الخطى إليها ينعم النظر إلى وجهها ومزيج من الألم والأمل والقلق يعتمل في فؤاده كبركان يوشك أن يقذف حممه ... كانت ياردات قليلة تفصله عنها، على أنه ما قرأ في ملامحها ما ينبئ بأنها قد أحست بمجيئة!
وجلس هو الآخر على كرسي تفصله عنها خمسون ياردة ... فجأة. أما فتاه فأسقط الحقيبة وشرع يحدق في سيدة بعينين لماحتين ... تطل الدهشة من أهدابهما! وأخرج الشاب منديلاً مسح به جبينه الوسيم ... كان المنديل أنيقاً وصاحبه كان بهي الطلعة وسيماً لا تمل العين مرآه، وقال لفتاه:
- أريدك أن تحمل رسالة لتلك الشابة التي تجلس هناك، قل لها: إني في طريقي إلى المحطة كيما أغادر إلى (سان فرانسيسكو) حيث أنضم إلى بعثة صيد متجهة إلى (ألاسكا) ... وقل لها بأني قد حرّمت عليَّ التحدث أو الكتابة إليها ما وجدت وسيلة غير هذه استشير بها ما عرف عنها من عدل وإنصاف عطفاً على ما ربط بين قلبينا من وشائج سامية في رغد الماضي وسلسبيل زلاله الذي طالما أترعنا به أقداحنا ما سمحت لنا الأيام، قل لها ... قل لها يا فتى بأن اتهام إنسان ونبذه دون إعطاء سبب لذلك أو سماع حجته هو أمر مناقض تماماً لطبيعتها التي ما تطرف إليَّ يوماً شك في كمالها ونبلها، قل لها إني قد أُرغمت على إيصال كل ذلك أملاً في إحقاق الحق ... هيا وانقل لها ذلك.
ووضع الشاب في يد الفتى قطعة نقدية من فئة النصف دولار، فنظر الصبي إليه نظرة ماكرة شعت بين ثنايا وجه ذكي متّسخ، ثم انطلق يعدو. ودنا من الشابة يعثر الوجل والشك خطوه، على أن الإحراج كان عنه بمنأى. ولمس قبعة امتطاء الدراجات التي يرتديها، فرمت الشابة إليه بنظرة خالية من أي معنى.
- سيدتي! - قال لها الفتى - ذلك الفتى الجالس على الكرسي الآخر حمّلني رسالة إليك! إن لم تكوني تعرفيه وكان ذلك تطفلاً من جانبه فما عليك سوى إخباري، ولسوف أستدعي الشرطة في غضون دقائق ثلاث، أما إذا كنت تعرفينه فسوف أفضي إليك بالرسالة التي حملني إياها.
- رسالة؟ قالت الفتاة بصوت عذب رخيم غلّفته رنة سخرية - وتابعت: سطر جديد في ملحمة الفرسان، لا شك لقد كنت على صلة بذاك الذي بعثك وبذا تنتفي الحاجة إلى استدعاء الشرطة ... أفصح عما بعثك به وحاذر أن ترفع صوتك خشية أن تلفت الانتباه إذ ليس في المنتزه سوانا!
- أوه! - قال الفتى هازاً منكبيه - تعلمين سيدتي ما أرمي إليه، طلب مني أن أخبرك بأنه يزمع التوجه إلى (سان فرانسيسكو) لينضم إلى بعثة صيد تغادر إلى (الأسكا) - ويقول بأنك قد أمرته بألا يبعث إليك بخطابات وردية، وألا يدنو من سور حديقتك ... وبأنه قد أضطر إلى هذه الوسيلة - بإرسالي إليك - سعياً وراء نيل عدلك ومرضاتك ... بأنك قد أدنته دون إبداء سبب لذلك ... بأنك قد ألقيته في اليم مكتوفاً وحذرته من الابتلال بالماء.
وأذكى ذلك الأسلوب شيئاً من الاهتمام الذي شع كوميض الأمل في عينيها، وطفقت تنظر إلى أعلى نصب تذكاري احتل إحدى زوايا المنتزه ثم قالت:
- قل لسيدك الجالس هناك بأنه لا حاجة لي بأن أعيد على مسامعه سرد المثل والمبادئ والأخلاقيات التي أؤمن بها، فهو على علم بذلك، ولم يتغير شيء في هذا السياق ... على أن ما يعنيني في قضيتنا هذه جملة وتفصيلاً هو مبدأ الإخلاص والصدق ... قل له بأني قد درست قلبي، بأني قد سبرت غوره فألممت بنقاط القوة و... الضعف فيه، وذلك ما دعاني إلى عدم الاستماع إلى رد سيدك في هذا السياق، سواء أكان ذلك كتابةً أو مشافهةً ... أنى كانت طبيعة ذلك الرد التبريري ... إنني أم أُدنِه استناداً إلى كلام سمعته عنه أو شك حام حوله؛ ولذا لم أوجه له أصابع الاتهام جهاراً فهو أدرى منى بما اقترفت يداه ... على أنه إذا كان مصراً على سماع طبيعة ما ارتكب - رغم علمه به - فسوف أسمح لك بنقله إلى أسماعه.
قل له بأني قد دخلت البيت الزجاجي من الخلف لتلك الليلة كيما أقطف وردة لأمي، فوقعت عيناي على مشهد غريب! ... رأيت سيدك والآنسة (آشبورين) في وضع مريب جعلني أترك المكان ... والوردة ومُثلي وغاياتي طرّاً ... قل له ذلك!
وطوى الغلام الأرض طياً، حاملاً الرسالة إلى مولاه حتى حاذاه، فرمقه الأخير بنظرات شوق وترقب وفضول. وشعت عينا الفتى بفخر مَنْ أثبت كفاءةً في أداء ما أنيط به.
- قالت الفتاة بأنها قد ضبطتك متلبساً بالجرم المشهود ممسكاً بإحداهن في المُستنبت الزجاجي ... بأنك قد صدمتها ... وإن عليك الآن أن تسارع إلى وجهة سفرك!
وندّ عن الشاب صفير خافت فيما لمعت عيناه بخاطر مفاجئ، وأدخل يده في الجيب الداخلي لمعطفه فأخرج منه مجموعة خطابات اختار منها واحداً سلمه إلى الفتى ونقده دولاراً كاملاً أخرجه من جيب (صديريته) وقال له:
- أعط السيدة هذا الخطاب وقل لها أن تقرأه ففيه تفسير يوضح ما التبس ... قل لها: إنها لو مزجت مبدأ المثالية الذي تؤمن به وتدعو إليه بشيء من الثقة لأمكن تجنب الكثير مما كدر الخواطر من معاناة وشك وألم ... أخبرها بأني لم أخن العهد ... بأن شعار الإخلاص والولاء الذي طالما رفعته علياً ما تغير أو تبدل، وبأني ... أنتظر ردها!
ومرة أخرى ... شخص الرسول أمام السيدة:
- يقول سيدي بأنك قد أخذته بجريرة لم يرتكبها، وتسرعت في الحكم عليه ... الك بما يثبت براءته لا شك! اقرئي هذا الخطاب!
عزيزي الدكتور (أرنولد),َ
جمّ الشكر أزجيه لك على مبادرتك الإنسانية المتمثلة في إسعاف ابنتي إبان الضائقة الصحية الطارئة التي ألمّت بها مساء الجمعة الماضي حين فاجأتها تلك الأزمة القلبية بمشتل السيدة (والدرون) ... ولو أنك لم تكن هناك للإمساك بها حين انهارت، وتقديم المساعدة الطبية لها لربما كانت في عداد الأموات لا قدر الله.
لسوف أكون مسروراً إن تفضلت بزيارتنا والإشراف على حالتها.
المخلص"،
(روبرت آشبورتن)
وبرفق طوت الشابة الخطاب ثم أعادته إلى الغلام الذي قال:
- إن سيدي ينتظر الجواب! ما عساه يكون؟
وشعّت عيناها فجأة بريق ساحر ... أخّاذ ... نديّ:
- قل للجالس هناك على المقعد الآخر - قالت ضاحكة مستبشرة - بأن فتاته لا تزال تريده زوجاً.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا