حفار القبور 5 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-11-16

الفصل الرابع

كان مستلقياً في غرفته في أحد الأيام عندما رن هاتفه النقال ليخرجه من أحلام اليقظة التي كان غارقاً فيها. نظر إلى الرقم ونفخ بسأم فقد كانت زوجته، ترك الهاتف يرن للحظات حتى سكت ثم أرغم نفسه على الاتصال بها وأخذ يستمع بضجر إلى شكواها التي لا تنتهي.

عندما حصل على الهاتف في البداية كانت أسعد أوقاته هي التي يتمكن فيها من الاتصال بزوجته أو والديه، كان يستمتع بالإصغاء إلى كل صغيرة وكبيرة تحدث لهم فقد كان مشتاقاً لأي صوت يحدثه بلغة بلده، وخاصة أنه لم يكن عليه أن يقلق بشأن فواتير الاتصالات إذ تولت تلك الساحرة العجوز ومن بعدها الساحرة الأخرى مسؤولية دفعها، ولكن مع الوقت أصبح المال هو كل ما يتحدث عنه أبوه، كان يختطف الهاتف من يد والدته ليجد نفسه مرغماً إلى الاستماع إلى طلباته الكثيرة..

لم يحاول والده ولو مرة سؤاله كيف حصل على كل تلك الأموال، التي مكنته من سداد كل ديونه وديون والديه، وإرسال ما يكفي إلى أهله ليصبحوا أغنى من كل جيرانهم ويشتروا كل ما تشتهيه أنفسهم، فقد كان كل همه هو المطالبة بالمزيد والمزيد. وكان مضطراً لتلبية معظم رغبات والده إذ كان قد أوكل إليه مهمة بناء بيته الجديد، وكان يخشى أن يتوقف عن متابعة البناء إذا أمتنع عن إرسال المال إليه.

وليته كان يستطيع إسكات زوجته بالمال أو بالهدايا، فقد كانت لا تتوقف عن البكاء والنحيب، وكانت تطالبه بالعودة ما دام قد سدد ديونه وأصبح لديه ما يكفي من المال، كانت تشكو وحدتها ومرضها وكانت تصدع رأسه كل يوم بكل التفاصيل المملة حول تطورات مرضها وكيف نحل جسدها وفقدت معظم شعرها؛ وكانت تسهب في ذكر أوجاعها وكم مرة تقيأت وشكل كل جديد من إفرازات جسدها حتى ملها وكره الحديث إليها.

لم يكن قد أنجب منها لذا فكر جدياً أن يطلقها، ما الذي يجبره على تحمل زوجة مريضة؟ إنه غني الآن وبإمكانه اختيار زوجة جديدة أجمل وأصغر سناً، وهذه المرة سيصر أن تكون عذراء لم يمسها أحدّ قبله، لكن عليه أن يعود إلى بلده إن أراد تطلقها وهو لم يكتف من هذا البلد بعد، فصديقاته الساحرات سعيدات جدا بعمله إذ بفضله زاد عدد زبوناتهن وزادت ثقتهن فيهن، والأموال تتدفق عليه منهن ولم يعد ينفق شيئا من راتبه.

لكن امتلاء جيبه بالمال قد أفرغ ذهنه الذي كان في السابق مشغولاً بالتفكير بكيفية سداد ديونه وتوفير المال لشراء بيت، الآن اكتفى من المال وأصبح ما يشغل ذهنه هو إشباع حاجاته الجسدية. فتفكيره المستمر بتلك الساحرة الجميلة قد ألهب أحاسيسه التي كانت خاملة لسنين، لم يكن عقله المتبلد يستوعب الحب أو أي مشاعر تشبهه، كان يريد فقط جسدا يطفئ شهوته فيه.

وكانت تلك الساحرة التي أعجبته قد صدته نهائياً قبل عدة أيام بدعوى أنها متزوجة وتحب زوجها، لم يعنه تفسيرها كثيراً ولم يهتم إن كانت صادقة أم كاذبة، لكنه أستاء بشدة عندما أخبرته أن زبونتها بائعة الهوى قد تراجعت عن عرضها السابق بتقديم خدماتها الجسدية له عندما علمت أن اللقاء سيكون في المقبرة، ووعدته تلك الساحرة عندما رأت استياءه أن تحضر له أجمل الفتيات من أي بلد يريدها إذا حضر إلى شقة زبونتها.

ورغم جوع جسده فلم يكن قد وجد الجرأة ليبتعد عن المقبرة بعد، إذ كان يخشى أن يصادف سائق التاكسي الذي كان متأكداً أنه لا زال يبحث عنه، أهدته الساحرة جهازاً لعرض الأقراص الرقمية والعديد من الأفلام وقالت له ضاحكة بمجون أنها ستعجبه كثيراً.

لكن كل ما فعلته هذه الأفلام هو أنها زادت جوعه، ماذا يفعل يتلك الأجساد العارية التي تتراقص أمامه على شاشة صماء؟ إنه يريد جسدا يلمسه بيده ويتنعم بدفئه، وخاصة أن الشتاء كان قد حل وأصبحت لياليه في المقبرة أكثر برودة مما زاد من لهفته للحصول على امرأة تشبع جوعه.

كانت الليالي تمر عليه وهو مستغرق في أحلام اليقظة التي كان يتخيل فيها كل النساء المقبولات جسدياً اللاتي رآهن في حياته ما عدا زوجته، فلم يعد يتذكر حين يتخيلها إلا الكآبة والمرض والروائح المنفرة التي تصاحبه لكنه كان يستيقظ في الصباح متعباً وأكثر جوعاً مما كان.

وفي الصباح الباكر من أحد الأيام كان قد أنهى عمله لذلك الصباح وأخذ يجول في المقبرة محاولا أن يدفع جسده المقرور بضوء أشعة الشمس الضعيف فيَ تلك الساعة..

  • أنت يا.. تعال إلى هنا!

التفت بدهشة إلى مصدر الصوت، كانت العاملة المسؤولة من تغسيل الموتى النساء هي من تناديه، كانت لهجتها تشي أنها من جنسية عربية مختلفة عن جنسية أهل البلد، وكانت تقف عند باب غرفة تغسيل النساء وتشير إليه لتؤكد نداءها..

  • ما بك؟ هل أنت أصم؟ تعال بسرعة!

توقف مكانه متهيباً، لم يكن مسموحاً للرجال بدخول هذه الغرفة فقد كان من يتولى تغسيل النساء عادة هن أهلهن أو الموظفات المسؤولات عن ذلك أو المتطوعات من النساء اللاتي يفعلن ذلك لوجه الله.

وجالت في ذهنه ذكريات أليمة عن بداية عمله في المقبرة عندما كان قد قدم لتوه من بلده، وكان بحسن نية يساعد الموظفة المسؤولة عن تغسيل النساء، التي كانت كثيراً ما تستدعيه عندما تكون لوحدها في حالة عدم حضور أحد من أهل الميتة للمساعدة في عملية تغسيلها، وغياب أو تأخر زميلاتها، وخاصة إذا كان الدفن سيتم في الصباح الباكر، فقد كانت مهمتها لرفع تلك الأجساد وقلبها لاستكمال تغسيلها شاقة ومتعبة خصوصاً إذا كانت المتوفية ثقيلة الوزن.

لم يكن وقتها يعلم أن ما يفعله كان ممنوعاً، فقد كان لخوفه وجهله يفعل كل ما يطلب منه بدون جدال ولا انتظار للثمن، فقد ظن أن من مهام عمله أن يساعد بكل شيء يدور في المقبرة، وكان يخشى أن يطرد من عمله إذا رفض تنفيذ أي أمر يصدر إليه.

وأخذ يتذكر بألم ما تعرض له من لوم وتعنيف وإهانات عندما اكتشف أمره، فقد حضرت إحدى النساء من أهل متوفية عجوز ورأته وهو يساعد الموظفة في رفع جسدها، كان غضبها عارما وأخذت تصفعه وتضربه وهي تدفعه خارجا وتصرخ بكل قواها، واجتمع كل الموظفين في المقبرة حولها محاولين تهدئتها بدون جدوى، ثم استدعت أهلها الذين أبلغوا الشرطة وانهالت عليه الأسئلة والصفعات.

انكمشت الموظفة خوفاً والتزمت الصمت بعد أن ادعت أنها المرة الأولى التي تستعين فيها بخدماته، لم يكن قد تعلم الخبث والكذب بعد وكان مرتعباً ولا يملك إلا الدموع التي كانت رده الوحيد على كل الاتهامات التي وجهت إليه، والتي لم يفهم معظمها فقد كان مخزونه اللغوي لا زال محدودا ولم يكن يحسن إلا بضعة كلمات..

وعندما رأى رجال الشرطة ارتباكه أحضروا من يتكلم لغته، وانكشف عندها كل شيء، انكشف جهله وغباءه وإهمال الموظفة وتكرار تهاونها بحرمة الموتى من النساء، تم طرد الموظفة من عملها وترحيلها إلى بلادها بينما خسر هو راتب شهر كامل، وظل يبكي لعدة أيام حزناً على راتبه ولشعوره بالظلم الفادح الذي وقع عليه، وعاد بعدها ذلك الذي يتكلم لفته عدة مرات بصحبة أحد رجال الشرطة ليتأكد من فهمه للخطأ الذي ارتكبه، ومن التزامه يعدم الاقتراب من حجرة تغسيل النساء ثانية.

مرت كل تلك الخواطر في ذهنه وهو يحدق في وجه الموظفة التي استدعته ويهز رأسه بالرفض..

  • ممنوع! صرخ عندما عبست غاضبة:
  • هذا ممنوع! كرر وهو لا زال يهز رأسه بعنف.
  • ما هو الممنوع أيها الغبي؟ قلت لك تعال بسرعة!
  • لا أستطيع أنا رجل وهذه الغرفة محظور دخول الرجال إليها

نظرت إليه الموظفة باستهزاء وفكرت في نفسها يقول "إنه رجل! يا لهذا الزمن الذي يحسب فيه أمثاله علينا رجالاً!"

 فكرت أن تحاول استمالته فرسمت ابتسامة مصطنعة على وجهها وحاولت أن ترقق من صوتها:

  • هل أنت مسلم؟
  • نعم، أنا مسلم، الحمد لله، بسم الله الرحمن الرحيم..

قال مكرراً القليل الذي يحفظه من الألفاظ المتعلقة بالدين.

  • إذن فأنت تعرف أن على المسلم أن يساعد أخاه المسلم!

قالت مستمرة في تصنع اللطف.

  • نظر إليها بتردد، ماذا تريد هذه المرأة؟
  • نعم يا سيدتي.
  • لماذا إذن لا تريد مساعدتي؟
  • ممنوع! كرر بضجر..
  • لكني لن أخبر أحداً تعال وأعدك أني لن أطلب مساعدتك بعد اليوم هذه المرة فقط!

اقترب منها وقد بدأ الغضب يساوره وأخذ يشير لها بيده بالرفض..

  • قلت لك أن هذا ممنوع!

قالها بحزم، فلم يعد ساذجاً كالسابق ولن يسدي خدمات لأحد بدون مقابل..

  • اسمع إنني فعلاً بحاجة إلى المساعدة، فزميلتي قد اعتذرت عن الحضور لمرضها والأخرى قالت إنها لن تحضر قبل التاسعة، ولدي متوفاة سيتم دفنها الساعة التاسعة اليوم ولا أدري ماذا أفعل!
  • وأين أهل هذه المتوفاة؟ لماذا لا يحضرون لغسلها؟
  • لا أدري، لم يحضر أحد، لابد أنهم مصدومون لوفاتها فقد كانت صغيرة في السن وماتت في حادث سيارة.
  • وما شأني أنا؟ لم أعرض نفسي للخطر؟ هل تعلمين ماذا سيحل بي لو اكتشف أمري؟
  • لا تكن جباناً!

قالت وقد بدأت تسأم من تصنع اللطف، كانت قوية الشكيمة ومعتادة على الحصول على ما تريد ولو احتاجت لاستخدام القوة في سبيل ذلك، فقد كانت بطلة رياضية في بلدها ولولا إصابة أعاقت قدمها وحاجتها للمال لما تركت بلدها، ولما قبلت هذا العمل.

  • قلت لك أني لن أخبر أحداً، وكما ترى فالمقبرة خالية في هذه الساعة المبكرة وغرفة الحارس في الناحية الأخرى!
  • ما بك؟ ألا تفهمين؟ قلت لا! ثم إنه حتى لو لم يرنا أحد فلا يجوز أن يغسل المرأة الميتة أو يلمسها رجل غريب عنها!

قال وهو يعيد ما قيل له قبل عدة سنوات، وكان يقول هذا الكلام من طرف لسنانه فلم يكن معنياً كثيراً بالحلال والحرام، ولكنه أراد فقط التخلص من إلحاحها..

  • إذن لقد أصبحت الآن شيخ دين وتعلمني أنا ما يجوز وما لا يجوز اطمأن فلن تلمس جسد الميتة، فكل ما أريده منك هو أن تمسك خرطوم المياه وتصب الماء على جسدها بينما أقوم أنا بغسلها.
  • لا أريد!

قال بصراحة لينهي هذا الجدل الطويل، واستدار ليرحل عندما جذبت يده بعنف ودفعته إلى الداخل. فاجأته قوتها فقد كان يعتقد أن كل النساء ضعيفات، ولم يكن يتوقع أن تتمكن بهذه السهولة من إجباره على الدخول، وأخذ ينظر إليها بدهشة متأملاً أكتافها العريضة ويديها القويتين، فقد شغله الجدل الذي دار بينهما في الخارج عن النظر إليها، كانت قد شمرت أكمامها متهيئة لتغسيل الميتة وبرزت عضلات يديها الشبيهة بأيدي الرجال، ولم يكن وجهها العابس مما يسر النظر فقرر أن يختصر الوقت ويفعل لها ما تريد ليرحل بأسرع ما يمكن...

حول بصره عنها واستدار ليتوجه إلى طاولة تغسيل الموتى الكبيرة أمامه فتسمر في مكانه..

كان جسد الميتة المسجى على الطاولة المغطاة بقماش مشمع عارياً تماماً أمام عينيه المذهولتين، وأي جسد! لم ير في حياته شيئا كهذا، كانت بيضاء كالمرمر ونهداها يقفان بارزان متحديان، ويليهما خصر صغير ضيق كأنه نحت نحتاً بإتقان بديع، ليتسع بعدها فجأة وتبرز منه أوراكها الملفوفة الناصعة البياض.

كانت رشيقة حيث يجب ومليئة باللحم الشهي حيث يحلو لمن يراها أن يرى اللحم، وحتى بدون أن يلمس هذا الجسد الغض الباهر فقد كان متأكدا أنه من الحرير، فلم يكن هناك شعرة واحدة تعكر صفو هذا البياض المذهل..

انتبهت المغسلة لذهوله وجحوظ عينيه وظنت بسذاجة أنه مصدوم لرؤية وجه الميتة المشوه..

  • لقد تشوه في الحادث.
  • ماذا؟ قال بذهول وقد أخرجه صوتها من انبهاره الصامت..
  • لقد تشوه وجهها في حادث السيارة الذي تعرضت له، فقد سمعت أن قوة الصدمة قذفت بها من السيارة ليشوه زجاج السيارة الأمامي وجهها كما تری.

حول نظره بصعوبة عن ذلك الجسد المرمري لينظر إلى وجه الميتة، وانتبه حينها فقط أن وجهها قد مزقته الجروح من كل جوانبه وضاعت معالمه فلا يمكن لمن يراه أن يميز ملامح صاحبته، ولكن صدمته لرؤية ذلك الوجه الممزق لم تكن كافية لتصرفه عن انبهاره بجسدها الجميل، وعاد يتلمس ذلك الجسد بنظراته ويتأمل بإعجاب كل استدارته عندما عادت المغسلة إلى الكلام :

  • لقد تحطمت عظام يديها أيضاً وطحنت ساقيها، انظر كيف تلتوي أطرافها إلى الخلف وإلى اللحم الممزق هنا!

ورفعت يد الميتة بحذر لتريه كيف يبرز عظم ساعدها المكسور من لحمها، ولم يكن قد انتبه لأطراف الميتة فقد أفقده جذعها المذهل صوابه..

  • لهذا احتجت لمساعدتك، فقد تمكنت من تغسيل الاثنتين الأخريين وحدي، لكن هذه المسكينة تحتاج أن تغسل بحرص وحذره هيا أمسك الخرطوم وافتح المياه لنبدأ الغسل!

كان منظر عظم ساعد الميتة المدبب البارز من لحمها الممزق قد أفزعه وهدأ من فورة شهوته التي ثارت لمرأى ذلك الجسد، تحول إلى الجهة الأخرى من الميتة وسحب خرطوم المياه وفتح الصنبور ليندفع الماء منه بقوة..

  • ليس هكذا صاحت به المغسلة: لن يتحمل جسدها المسكين اندفاع المياه بهذه القوة!

 عدل ضغط المياه ليصبح أكثر هدوءاً فمدت المغسلة يدها لتبدأ الغسل، ولكنها صرخت من جديد عندما أحست ببرودة المياه:

  • اجعله أكثر دفئاً، فقد كان جسد هذه المسكينة في ثلاجة المشرحة منذ الأمس ولا زالت أطرافها متجمدة!

استجاب لطلبها وهو مستمر في محاولة إبعاد عينيه عن ذلك الجسد، لكن سخونة المياه عند اصطدامها ببرودة الجسد جعلت قطرات الندى تتجمع عليه وتبرق تحت الأضواء القوية لتجتذب عينيه رغماً عنه، وخاصة عندما فرغت المغسلة من غسل الأطراف المشوهة واتجهت إلى ذلك الجسد الذي لم تشبه شائبة. وكان منظر قطرات الندى المتلألئة على النهدين الفاتنين مذهلاً.

وعندما أخذت المغسلة تدلك النهدين وانحدرت يداها لتستكمل غسل باقة جسدها كانت رائحة الكافور قد استولت على أحاسيسه كلها، وأصبحت تلك الرائحة المميزة التي تذكر بالموت والفناء معزوفة اتحدت في ذهنه المريض مع الجمال الباهر لذلك الجسد وصوت المياه المتدفق لتسكر أحاسيسه المشبوبة.

وعندما قلبت المغسلة جسد الميتة لتستكمل غسل ظهرها أصبح الأمر أقوى من احتماله، حول بصره بعيداً ليسحب معه الخرطوم دون انتباه، فغمرت المتدفقة وجه المغسلة وجسدها وانفجرت غاضبة:

  • يا لك من غبي! انظر ماذا فعلت! أنت وباقي جنسك أغبى ما خلق الله! إنك لا تستطيع حتى أداء عمل بسيط مثل الإمساك بخرطوم المياه بشكل جيد!

استغل الفرصة ليهرب فلم يعد يستطيع الاحتمال، فلولا وجود تلك المغسلة تشبه الرجال وخوفه من العقوبة لقفز على ذلك الجسد العاجز ليطفئ جوعه الطويل، رمى الخرطوم وجرى خارجا لا يلوي على شيء غير عابئ بصرخات المغسلة خلفه، اختبأ في غرفته حتى هدأت فورة جسده، أنهى عمله متعجلا ولم يقترب من تلك الغرفة حتى انتهي ذلك النهار.

أوى إلى فراشه في تلك الليلة متعباً لكن النوم جافاه، كان ذلك الجسد أمام عينيه كلما حاول إغماضهما ليطرد النوم ويحل محله، متحدياً باهرا، وضع الوسادة علي رأسه وتقلب عدة مرات محاولاً طرد تلك الصورة من ذهنه دون جدوى..

أخذ يحاول أن يذكر عقله بمنظر وجه الميتة المشوه وأطرافها الممزقة، ولكن ذلك العقل الذي أعمته الشهوة كان يبعد تلك الأفكار سريعاً ليعود إلى منظر الجسد المرمري الذي تترقرق قطرات الماء فوق لونه الجميل كما يترقرق الندى على أوراق الورد في الصباح الباكر.

وأخذ عقله يزين له جمال ذلك الجسد أكثر فأكثر، وتاهت أفكاره في تخيل كم سيكون ملمس ذلك الجلد الأبيض الناعم بديعاً تحت أصابعه العطشى وكيف سينتفض ذلك النهد الفتي متحدياً حين تحتويه كفاه.

  • إنها ميتة! ميتة!

كان يصرخ بيأس محاولاً صرف أفكاره المتقدة بالشهوة عن الجريمة النكراء التي كانت عقله المشبوب يزين له ارتكابها..

  • إنها ميتة! ليس فيها روح ولا نبض وذلك الجسد سيكون الآن بارداً كالثلج وكريه الملمس، ولا بد أن أطرافها الخالية من الحياة قد تصلبت وأصبحت كقطع من الخشب! فأي لذة ستكون هناك في الاقتراب منها أو لمسها؟

لكن الأفكار الشهوانية استمرت تتوالى في رأسه وتزداد اشتعالاً كل لحظة..

دفع الغطاء الصوفي متأملاً أن تقتل برودة تلك الليلة ذلك الدبيب الذي كان يسري في جسده كما تسري النار في الهشيم، ولكن دون جدوى.

قفز من فراشه وخرج يجري من غرفته، لم يكن يدري أين يذهب فقد تجاوزت الساعة العاشرة، وأخذ يمشي بين المقابر وجسده يرتجف من البرد محاولا أن يهرب من تلك الأفكار التي زلزلت كيانه، ولكن وعلى عكس ما كان يأمل فقد زادت تلك البرودة من السعير الذي كان يلهب جوفه، وحمله عقله المسكون بذلك الجسد الذي سلب لبه إلى قبر تلك الميتة.

انتبه إلى حيث كان يقف فصحا من شروده وقفز من الفزع لهول ما قادته شهوته إليه، وأخذ يجري بين المقابر مرتعباً لا يدري ماذا يفعل، وفي غمرة فزعه وجد قدميه تقودانه إلى غرفة الحارس كأنما أراد أن يستجير بالنور المنبعث منها من ظلام أفكاره السوداء المخيفة.

أخذ يقرع باب الحارس ويناديه صارخاً بلهفة، ولكن عندما انفتح الباب ووجد نفسه أمام نظرات الحارس المتسائلة ووجه الواجم ارتبك، كان يأمل أن يجد الأمان لدي الحارس ويتسلى بالحديث معه بعض الوقت حتى تهدأ ثورة خواطره المجنونة وينجو من سطوتها، ولكن رؤيته لوجهه جعلته يتذكر حبه العجيب للوحدة وصده لكل محاولاته السابقة لمصادقته أو حتى التجاذب أطرافا الحديث معه.

  • ما الأمر؟ هل حدث شيء؟

تكلم الحارس أخيراً ليقطع وطأة ذلك الصمت..

  • لا.. لا.. لم يحدث شيء..

قال متلعثماً وقد حل خوفه القديم من الحارس ومن قسوة صده محل فزعة من أفكاره، وأخذ يحاول إيجاد كلمات يبرر بها تجرؤه على قطع وحدة الحارس وتعكير صفو خلوته..

  • أنا فقط.. لقد فكرت..
  • ماذا تريد؟

صاح الحارس بغضب، وقد ساءه قدوم الحفار إليه في تلك الساعة من الليل وإخراجه من فراشه الدافئ إلى زمهرير تلك الليلة الذي يخترق العظام، ليقف أمامه الآن متلعثماً لا يحير جواباً..

  • أنا.. لم أستطع النوم، كنت أفكر بتلك الفتاة الشابة التي دفنت اليوم..
  • ما بها؟ قطعه الحارس متعجلاً.
  • أنا... لقد رأيت وجهها..

وسكت فجأة مرتعباً، يا له من مجنون ماذا يفعل الآن؟ لقد كاد يفضح نفسه! فلو علم الحارس كيف رأى تلك الفتاة لأبلغ عنه ولفقد عمله..

- أعنى.. أنا.. لقد رأيت وجهها وأنا أدفنها! اجل وأنا أدفنها!

كان سعيداً لأنه استطاع الإفلات من زلة لسانه التي كادت تودي به، وأخرجه من سعادته صوت الحارس وهو يصيح به بغضب:

  • هل أتيت إلى في هذه الساعة لتخبرني أنك رأيت وجه إحدى المتوفيات وماذا في ذلك، إنك ترى العديد من الوجوه كل يوم!
  • لكن هذه الفتاة لم يكن وجهها عادياً، لقد كان مشوهاً وممزقاً!
  • أليست تلك التي توفيت في حادث السيارة؟
  • أجل إنها هي!
  • وما الجديد في هذا؟ فنحن نستقبل كل يوم تقريباً جثثاً ممزقة ومشوهة لضحايا حوادث السيارات في هذا البلد!
  • لكن هذه الفتاة كانت شابة صغيرة لا بد أن عمرها لا يتجاوز العشرين سنة!
  • كلهم شباب فطيش الشباب وجهلهم وتهورهم في قيادة سياراتهم هو ما يؤدي بهم إلى هذه المقبرة ويحطم قلوب أهلهم!
  • أعلم هذا ولكن من يصلون إلى هنا هم غالباً من الذكور صغار السن! ولكن هذه فتاة!
  • فتاة أو فتى! ما الفرق؟ وما شأني أنا لتزعجني في هذه الساعة بهذا اللغو الفارغ؟

توقف الحفار عن الكلام فلم يعد يدري ما يقول، وخاصة أن الغضب كان يتصاعد كل لحظة في عيني الحارس وأخذ صوته يتحشرج لشدة غيظه..

وكان الغضب قد بلغ مداه بالحارس، ماذا طرأ ببال هذا الحفار المجنون ليأتي إليه في هذه الساعة ويزعجه بهذا الحديث الممل؟ لقد قضى سنوات وهو يبني ذلك الحائط العالي بينهما بتجاهله له وصده لكل محاولاته، وحتى هذه الليلة كان الحفار يحترم الحدود التي رسمها الحارس لعلاقتهما ولا يتجاوزها، فما باله الآن يعود بدون سابق إنذار إلى توسل صداقته ومحاولة التقرب منه؟

وأخذ يراجع نفسه، لا بد أنه أخطأ في شيء. لا يد أن يكون الحفار الغبي قد رأى منه بوادر عطف أو نظرة استشف منها اهتماماً شجعه وأجهد ذهنه محاولا التذكر، لا! إنه لم يفعل شيئاً ليشجعها فقد كان دوماً حريصاً وحذراً في تعامله مع الحفار، لا بد أن هذا الغبي قد نسي في لحظة ضجر أو وحشة كل ما سبق تعلمه وقرر أن يجرب حظه معه من جديد.

قرر أن يصده بحزم حتى لا يتجرأ على الاقتراب منه ثانية فصاح في وجهه:

  • إياك أن تزعجني مرة أخرى في مثل هذه الساعة بدون سبب!

ثم صفق الباب في وجهه بغضب..

ابتعد الحفار عن غرفة الحارس وعاد إلى غرفته متمهلاً في سيره، لم ينزعج مما فعله الحارس فقد اعتاد على غرابة أطواره، وأخذ يلوم نفسه لأنه توجه إليه في هذه الساعة معرضا نفسه لذلك الصد الجارح، لكن لا بأس، فلم يضع جرح كرامته سدى، فقد أنساه ما حدث أفكاره المجنونة، وأطفأ خوفه من غضب الحارس شهوته التي كادت تعمي عقله.

أوى إلى فراشه الدافئ ونام بهدوء، وأنصرف في الصباح إلي أداء عمله كالمعتاد، ولم يتذكر الميتة الشابة ذات الجسد الجميل طوال النهار.

ولكن عندما احتواه الفراش في تلك الليلة عادت أفكار الأمس المشبوبة تقرع رأسه، فقد تلقى اتصالاً هاتفياً من صديقته الساحرة الشابة، كانت بدلال وهي تحاول إغراءه للحضور إلى شقة زبونتها بائعة الهوى في يوم إجازته، وعندما لم تفلح محاولاتها دفعت الهاتف إلى تلك المرأة لتحاول هي إقناعه.

أسكره صوت المرأة الدفيء وضحكاتها التي يشبه رنينها العذب أروع موسيقي سمعها في حياته، وأخذت تتغزل بلهجته المكسرة كلما تكلم وتضحك بغنج قائلة أن كلماته التي يختلط فيها المذكر بالمؤنث لذيذة كالعسل، وانطلقت تصف نفسها له وتسهب في ذكر تفاصيل جسدها وشعرها وما سوف تفعله له لترضيه وتسعده.

وأخذت تكرر له أنها لن تطلب منه أي مقابل عدا إعفائها من دفع نصيبه من المال الذي يتقاسمه مع صديقتها الساحرة، التي أخذت تصفها ضاحكة بأنها طماعة لا تشبع من المال، ولكنها لا تستطيع الاستغناء عن خدماتها حتى يظل زوجها المخدوع مستمرا في غياهب جهله، ويعميه السحر الذي تجدده له تلك الساحرة كل فترة عما تفعله زوجته، أو حتى عن الانتباه للاختلاف الواضح في مظهر أبنائها عن صفاته أو صفات أهله، بل حتى اختلاف بعضهم عن بعض، فقد كانت هي نفسها لا تستطيع أن تجزم بهوية آبائهم لكثرة علاقاتها.

كاد عقله يطيش وهو يستمع إلى همساتها التي تنضح بالإغراء، واضطر إلى الاعتذار متعللاً بأنه لا يستطيع أن يترك المقبرة، وأخذ يلعن نفسه من جديد لخروجه في ذلك اليوم المشؤوم، فلولا لقاؤه بذلك السائق المنحوس لتمكن من الخروج كما يشاء، ولما اضطر إلى العيش في هذا الحرمان الذي أمض جسده..

  وعادت أفكاره تحوم حول ذلك الجسد الفتان الذي رآه بالأمس، وتدريجياً أخذت بشاعة ما ينوي فعله وبقايا ضميره الضعيفة تنزوي خجلاً أمام سطوة جوع جسده، الذي أخذت نار الرغبة تشتعل فيه كلما أمعن في تذكر جمال ذلك الجسد...

وأخذ عقله يزين له نبش ذلك القبر ليتمتع بذلك الجسد الذي لا يفارق ذهنه، ما المشكلة؟ لقد سبق له أن نبش قبوراً كثيرة، فما الفرق بين أن ينبش قبراً ليفترس جسد الميتة المدفونة فيه، وبين أن يفعل ذلك ليسرق بعضاً من عظام الميت أو أجزاء أخرى من بقاياه ليبيعها لصديقاته الساحرات، أو ليدس فيه عملاً من أعمال السحر التي يعطينها له؟

لقد فعل ذلك مرات لا تحصى ولم يكتشف أمره أحد، فما المانع من أن يستغل ظلام الليل ونوم الحارس العميق وخلو المقبرة ليتخلص من النار التي تشتعل في جسده، فمن المؤكد أن فعلته هذه ستمر بسلام كما مر الكثير غيرها مرات ومرات..

لم يجتهد في دفع تلك الأفكار ولم يشمئز منها كما فعل بالأمس، فقد انهارت مقاومته سريعاً وترك لخياله الحرية ليصول ويجول كما يشاء..

«ماذا عن وجهها المشوهة؟» تساءلت بقية من عقله بدافع النفور وليس لوازع من ضمير، فقد أخرس صوت ضميره منذ زمان بعيد..

«سأتخيل وجه تلك الساحرة الجميلة مكانها سأغمض عيني حتى أرى عينيها الواسعتين وفمها الشهي وشفتيها الممتلئتين مكان ملامح الفتاة المطموسة، وما المانع، سأتخيل أيضاً صوت المرأة التي كلمتني بالهاتف الدافئ المثير، وسأفعل بجسدها كل ما قالت تلك الداعرة أنها ستفعله لي».

ونظر إلى الساعة قربه متعجلاً حلول موعد نوم الحارس ليحول خياله إلى حقيقة ملموسة.

وما إن انتصف الليل حتى جرى إلى غرفة الحارس ليتأكد من نومه، واستقبله. صوت الشخير المعتاد قبل أن يصل إلى باب الغرفة، فعاد أدراجه مسرعاً إلى غرفته ليحضر رفشه، وتوجه إلي ذلك القبر وهو يمني نفسه بلحظات من المتعة تنسيه جوع جسده الطويل.

كان الظلام شديداً فقد غاب القمر خلف الغيوم الكثيفة التي غطت وجه السماء، لكن ذلك الظلام لم يبطئ خطواته فقد كان يعرف طريقه بين القبور بسهولة ويحفظها كراحة يده، وصل إلى القبر وابتسامة شيطانية واسعة ترتسم عليه وجهه، وغرس رفشه في تراب القبر ليبدأ الحفر فلم يعد يستطيع الانتظار..

كان قد انتزع بعضاً من التراب عندما سمع صوتاً خلفه، استدار مفزوعاً ظاناً أن الحارس قد استيقظ من نومه، وأخذت الأفكار تتسارع في ذهنه حول ما سيختلقه من أكاذيب ليبرر ما يفعله..

لكن ما رآه أطار كل الأفكار من رأسه، فأمام عينيه المفزوعتين كان يقف متحدياً كلب ضخم لم ير في حياته أكبر منه، كانت عيناه الغاضبتان تلمعان في ظلام تلك الليلة الدامس، وكان يزمجر بغضب وقد كشر عن أنيابه المرعبة واستعد للانقضاض عليه .

ودون وعي وجد نفسه يجري بكل ما أوتي من قوة، كان الفزع قد سلب عقله فأخذ يجري في كل اتجاه والكلب يجري وراءه، وكان كلما التفت خلفه يجد ذلك الكلب المخيف يجد في أثره ويكاد يلحق به، كان يصرخ دون أن يشعر وقد جعل الخوف صوته رفيعاً كصوت النساء، وقد غفل في غمرة فزعه عن الرفش الذي كان لا زال يحمله في يده.

  • توقف عن الجري أيها الجبان فإن خوفك يزيد غضبها صاح به الحارس الذي قدم مسرعاً بعد أن أيقظه من نومه صوت صراخ الحفار ونباح الكلب خلفه..
  • أنقدني أنقدني!

صاح وهو يحاول التوجه إلى الحارس، لكن الكلب كان يقف بينهما، وكان صوت الحارس قد شتت انتباه الكلب فتوقف مكانه وأخذ يقلب البصر بينهما وهو يحاول أن يقرر من يهاجم أولاً، وكان الحفار أقرب إليه ورائحة فزعه تدغدغ أحاسيسه الوحشية وتلهب رغبته في تمزيقه إرباً، بينما كان الحارس المسن يقف هادئاً فلم يعد يفزعه شيء بعد كل ما رآه في عمره الطويل..

وأحس الكلب بغريزته بالخبث الذي يفوح من الحفار وبسوء طويته، فيما بدت الطيبة واضحة على وجه الرجل الآخر المسن، واتخذ قراره فحول بصره إلى الحفار ثانية وهو يزمجر بغضب مستعداً لمهاجمته من جديد..

  • اضربه بالرفش الذي في يدك أو على الأقل هدده به!

نبهه ما قاله الحارس إلى الرفش الذي كان قد نسي وجوده في يده، وابتلع ريقه الرفش محاولاً التلويح به في وجه الكلب ليفزعه، لكن خوفه جعل يديه ترتجفان، وكان الرعب المرتسم على وجهه كافيا ليجعل الكلب يعاود الهجوم عليه وقد ضاعفت محاولة الحفار اليائسة لإفزاعه من غضبه.

يئس الحارس من محاولة بث الشجاعة في نفسن الحفار الذي عاد إلى الجري والصراخ، فالتقط حجراً كبيراً قربه ورمي به الكلب، و جمله الله لأنه أحسن التصويب فقد توقف الكلب وتحولت زمجرته إلى أنين مجروح، وقبل أن يصحو الكلب من صدمته لما فعله به من ظنه طيباً رماه الحارس بحجر آخر، ليعلو نباحه الجريح ويجري مفزوعاً في الاتجاه الذي دخل المقبرة منه.

تبعه الحارس مسرعاً ولحق بهما الحفار بعد أن هدأت شجاعة الحارس وهروب الكلب من خوفه، وحدس المكان الذي يتوجه إليه الكلب، فقد كان يجري في اتجاه ذلك الجانب من سور المقبرة الذي تهدم جزء منه سابقاً ولم يتم إصلاحه بعد رغم تذكير الحارس للموظف عدة مرات بذلك، وكان الحفار قد نسي موضوع السور بعد أن تحجج به في تلك الليلة التي قابل فيها الساحرة العجوز لأول مرة.

قفز الكلب من السور وجرى مسرعاً حتى ابتعد عن أبصارهما، وتوقف الحارس والحفار وهما يتأملان مدهوشين حجم الدمار الذي لحق بالسور، فقد ضاعفت الأمطار الغزيرة التي هطلت في ذلك الشتاء من سرعة تأكل الجانب الذي هدمته الرياح، وتناثرت أحجار السور لتكشف جانباً من المقبرة وتجعلها عرضة لأي محاولة لتسورها أو لهجوم الكلاب كما حدث ليلتها.

تملك الحزن والغضب قلب الحارس المخلص، فقد قضى سنينا عديدة في سنيناً عديدة في حراسة هذه المقبرة وأحس بذلك الصدع الذي أصاب سورها كأنه جرح في جسده هو، وأخذ يلوم نفسه لأنه لم يلح أكثر على الموظف ليباشر في إصلاح السور، فقد نسي الموضوع بعد فترة، ولم يحاول حتى أن يتفقد ذلك الحائط بعد تلك الحادثة إذ لم يتوقع لحظة أن يتهدم ذلك السور المتين بتلك السرعة..

  • إنها غلطتي أنا.

وتنهد بأسى ولوعة وهو مستمر في التحديق بذلك الحائط المتهدم.

 نظر إليه الحفار مستفسراً فكرر الحارس ما قاله..

  • لولا إهمالي لما تمكن ذلك الكلب من الدخول وإفزاعك كما فعل الليلة.

مد يده وربت على كتف الحفار مواسياً وقد أنساه شعوره بالذنب حرصه على عدم تشجيع الحفار أو أي إنسان آخر على الاقتراب منه، بل لقد نسي حتى أن يسأل الحفار عما كان يفعل خارجاً في تلك الساعة المتأخرة من الليل..

وكانت سعادة الحفار لا توصف، فلم يتمكن فقط من الإفلات من العقاب ولكنه حظي بعطف غير مسبوق من الحارس وأصبح هو المظلوم والضحية، وقرر أن يستثمر تلك اللحظات النادرة، وبسهولة دفع الدموع إلى عينيه وتركها تجري على وجهه ليتضاعف عذاب الحارس لدى رؤيتها ويزيد من لومه لنفسه..

  • لا بأس إلا بأس! لا تحزن! لن أترك الموظف غداً إلا بعد أن أضمن أنه سيسارع في إصلاح السور حتى لا يتكرر ما حدث الليلة، اذهب إلى النوم الآن فقد تأخر الوقت ولديك عمل كثير غداً.

سارا معاً مبتعدين وقد عزم الحارس على البقاء ساهراً عند ذلك الجانب من السور ليضمن عدم عودة الكلب في ما بقي من تلك الليلة، واتجه إلى غرفته ليحضر ما يدفئ به جسده المسن في تلك الليلة الباردة.

كان الحفار قد ابتعد قليلاً متجهاً إلى غرفته عندما ناداه الحارس، التفت ليجده يقف عند قبر تلك الفتاة الذي كان قد اقتلع قليلاً من التراب من فوقه قبل أن يمنعه هجوم الكلب من إتمام نبشه..

  • ماذا جرى لهذا القبر؟ سأله  الحارس باستغراب..

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا