3 الاستخدامات الحرة لعلم النفس

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-12-12

3. استخدامات حرة لعلم النفس: 

يميل كثير من الناس ممن لم يحصلوا على دراسات أكاديمية في علم النفس إلى الربط بين "علم النفس" وأفكار سيجموند فرويد (الأحلام واللاوعي، على سبيل المثال), أو بينه وبين علم النفس الإكلينيكي بوجه أعم (الاستشارات والاضطرابات النفسية، على سبيل المثال). وتلك الارتباطات لها أهمية، لكنها ضيقة الأفق؛ ذلك لأن علم النفس يغطي أيضاً علم النفس العصبي (النشاط الكيميائي للمخ), وعلم النفس الاجتماعي (سلوك الناس في الحشود), والإحساس والإدراك (طرائق عمل العين الداخلية), والتعلم (محاكاة أفعال الآخرين), والإدراك المعرفي (الذاكرة), والعديد من المجالات والاختصاصات الفرعية الأخرى. أضف إلى ذلك أن علم النفس يتقاطع مع اختصاصات أخرى في العلوم الاجتماعية؛ مثل علم الاجتماع، وعلم الإنسان، والاتصال. ولأن البشر كائنات بيولوجية، فثمة صلة تاريخية قوية بين علم النفس وعلم الأحياء. وأخيراً، فإن علماء النفس كثيراً ما يهتمون بالمواضيع نفسها - العلاقات الاجتماعية، ونتاج الخيال، والطبيعة البشرية - التي يهتم بها الباحثون في العلوم الإنسانية؛ مثل الفلسفة والنقد الأدبي.

إن علم النفس مجال رحب بلا شك، وأنا أتناوله بطريقة أكثر رحابةً حتى من معظم علماء النفس؛ فأنا أنظر إليه ببساطة باعتباره دراسةً للفكر والفعل، مع التركيز على البشر. وهذا التعريف لا يختلف كثيراً عن تلك التعريفات الموجودة في أغلب كتب علم النفس الدراسية. بيد أن تلك الكتب تتضمن عادةً تنبيهات حول كيف أن دراسة الفكر والفعل ينبغي أن تلتزم بمنهج معين لكي تصنف كعلم نفس؛ فثمة "منهج معين" يجب اتباعه. وتلك العناية ب "المنهج" مهمة بالنسبة إلى مؤلفي الكتب الدراسية للتمييز بين علم النفس "الحقيقي" وبين ما يطلق عليه عادةً "علم النفس الزائف" أو "علم النفس الشعبي". كما تستخدم أيضاً في التمييز بين علم النفس والاختصاصات الأكاديمية ذات الصلة في العلوم الاجتماعية والإنسانيات.

يتبع هذا الكتاب مقاربة "إنسانية" (نسبةً إلى العلوم الإنسانية) في تناوله لما نعنيه بعلم النفس. فعلى امتداد هذه الصفحات، سنجد كلّاً من علم النفس التجريبي، وعلم النفس الثقافي، والتحليل النفسي الفرويدي، والاتصال الجماهيري، والنقد السينمائيأالأدبي (فضلاً عن أجزاء من الفلسفة، وعلم الأعصاب، وعلم النفس الشعبي) موجودة جميعها جنباً إلى جنب وممتزجة بعضها ببعض. أحد نماذجي في هذا الصدد هو مالكوم جلادويل وكتاباه "غمضة" (2005) و"المتميزون" (2008) اللذان تصدرا قوائم الكتب الأكثر مبيعاً. فجلادويل، في اعتقادي، هو أحد أكثر المعلقين على الظواهر الاجتماعية والسيكولوجية إثارةً للاهتمام في العقد الماضي. فخلفيته الصحفية حررته من الالتزام التخصصي الصارم وأتاحت له، في سياق تطوير أفكاره، أن يمزج بحرية بين علم الأعصاب، والتجارب، والدراسات الديموغرافية، ودراسات الحالة التي تنتمي للزمن الجميل.

ردّاً على تلك الميول التقسيمية لدى الأكاديميين المعاصرين، دعا روبرت ستيرنبرج ومعاونوه إلى "علم نفس موحد" يدمج بين اختصاصات واختصاصات فرعية متنوعة ومرتبطة ببعضها من خلال التركيز على "ظواهر معينة محل اهتمام"، وليس ببساطة رسم خطوط فاصلة استناداً إلى مناهج وتقاليد تاريخية مختلفة. وهذا الكتاب استلهم تلك الروح الموحدة؛ إذ إنه معني بدراسة الناس "في" الأفلام، والناس الذين "يصنعون" الأفلام، والناس الذين "يشاهدون" الأفلام؛ تلك هي الظواهر التي يهتم بها. وقد حاولت التطرق إلى كل التقاليد البحثية التي اهتمت بتلك الظواهر، على الأقل في عجالة. بيد أن العديد من تلك المقاربات، لسوء الحظ، تطور بمعزل نسبي بعضه عن بعض على مدار فترة زمنية طويلة. وعندما كان يحدث اتصال فيما بينها، كان يتسم بالعدائية في بعض الأحيان. وإنني آمل أن أتمكن، من خلال ربطها بعضها ببعض، من تسهيل إجراء حوار تأخر كثيراً بين تلك المنظورات والمناهج التي جرى في السابق الفصل بينها.

ليست جميع المناهج متطابقة ولا متساوية في تحقيق أهداف بعينها. فبعضها قد يكون قائماً على مجرد لغوٍ ولا يؤدي إلى شيء. ومع ذلك، بإمكاننا أن نفترض باطمئنان أن جميع المناهج التي استخدمها باحثون أذكياء عميقو التفكير على مدار سنوات عديدة لها أساس منطقي. ليس معنى هذا أنها لا تؤدي إلى أخطاء على الإطلاق، لكنه يوحي بقوةٍ أن ثمة - على الأرجح - أساساً منطقيٍا ملزماً "للمناهج في جنونها".

جميع المناهج تتيح لنا رؤية بعض الأشياء، لكنها تحول دون رؤية أشياء أخرى. أحب مثال الفلكي الذي يستخدم تليسكوباً قويّاً يمكنه من رؤية المجرات البعيدة جدّاً التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، مما يساعده على تقديم إسهامات هائلة في مجال المعرفة. لكن باستخدام منهج واحد، تظل هناك أجزاء عديدة من الواقع قد يكون العالم غافلاً عنها؛ فهو ليس فقط غافلاً عن أجزاء من المجرة لم يصوب التليسكوب نحوها في لحظة بعينها، لكنه غافل حتى عن أفعال تحدث في الغرفة نفسها؛ مثل زوجته التي تسير خلفه. فإن هو أراد أن يراها ويفهمها، ينبغي أن ننصحه باستخدام طريقة مختلفة.

ولهذا، سوف أضع في الاعتبار كل المقاربات المنهجية الراسخة التي تزعم إلقاء الضوء على العلاقة بين الأفلام السينمائية والأفعال البشرية. ويشمل ذلك مناهج تقع في صميم اهتمام علم النفس بوصفه اختصاصاً علميّاً (على سبيل المثال: التجارب المعملية التي يتم فيها التحكم بالعوامل وتنويعها بحرص), بالإضافة أيضاً إلى مناهج أقرب إلى علم النفس بوصفه اختصاصاً إكلينيكيّاً (على سبيل المثال: دراسة حالة يتم من خلالها استخدام الفيلم في علاج نفسي يعتمد على الاستبصار), والإنسانيات (على سبيل المثال: تأويل فيلم انطلاقاً من نظرية علائقية نسوية). وستتم مناقشة كل واحد من هذه المناهج من حيث مزاياه (ما الذي يخبرنا به) وحدوده (ما الذي لا يخبرنا به). فالاختصاصات التي قد تظهر في البداية على أنها مختلفة وتؤدي إلى نتائج متناقضة، قد يتكشف في النهاية أنها محض اختصاصات مختلفة تنظر لجوانب مختلفة من الواقع نفسه. هذه المقاربة للمنهج هي في آنٍ واحد شاملة وتمييزية.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا