الشذوذ السلوكي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-12-03

4. الشذوذ السلوكي 

إني سجين في إحدى زنزانات مدينة عربية بعد أن حكمت علي محكمة الأمن الاقتصادي بالسجن مع الاشغال الشاقة لمدة خمس سنوات ل(سرقتي) 35 متراً من الحبال في المعمل الذي أعمل به والعائد للدولة، بعد أن قمت ببيع هذه الكمية من الحبال بما يعادل عشر دولارات.

حين قمت بعملي هذا كان دافعي الحاجة لإطعام أفواه أولادي البالغ عددهم سبعة وأمهم ووالدتي وأنا، أي إنني معيل لعشرة أشخاص تجاه أجر لا يسد حاجة أفواهنا.

أرجو أن اقرأ تحليلك للظلم الواقع علي نتيجة لسرقتي هذه.

يوسف. ع

كان الله في عونك على هكذا حكم بحق تهمة تافهة لو درست خارج نطاق القانون وعللت في صميم أهدافه، أو عرف الجانب النفسي لأقدامك على هذه (الجريمة) لكان العقاب غير ذلك بالتأكيد. والملفت للنظر، السرعة والخفة التي يصم بها أعضاء مجتمع ما أعمال الآخرين بالشذوذ ومغايرة نصوص القانون، بحيث يصبح وضع مواصفات السلوك الشاذ أو المغاير للقواعد المرعية أمراً صعباً للغاية، لا لمجرد أن مبلغ الشذوذ يختلف من مجتمع لآخر بل لأنه، أيضاً، يختلف في نفس المجتمع في أوقات مختلفة أو بين مجموعات مختلفة من الناس في نفس المجتمع. فالسرقة بأشكالها المختلفة والتزوير والاعتداء والقتل والانتحار والزنا ... الخ هي أمثلة قليلة من كثير مما يعتبر سلوكاً شاذاً في مجتمعات كثيرة.

ولكن ما القاسم المشترك بينها؟

قد يقول الناس إنها تشترك في كونها حرقاً للقانون ومغايره لمعايير المجتمع لما هو صحيح وخطأ أو خير وشر. ولكن هذا التفسير ليس كافياً لأنه غير صحيح وخطأ أو خير وشر. إلا أن هذا التفسير ليس كافياً لأنه غير واضح. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هنالك حاجة للمحاكم النظامية. ثم أن معظم المواطنين المعروفين بالاستقامة والحرص على عدم الخروج عن المعايير الاجتماعية والقواعد السلوكية المرعية يرتكبون في وقت ما مخالفات لتلك المعايير خارقين بذلك القانون وقواعد السلوك المقررة، إذ نادراً ما نجد مواطناً في هذا القطر أو ذاك لم يرتكب سرقة - مهما كانت صغيرة - أو تزويراً عند تقديم كشوف ضريبة الدخل مثلاً، أو بيع صنف بأكثر مما حدد له من قبل المراجع الرسمية، أو خرقاً لقوانين المرور - وبخاصة تجاوز السرعة المقررة. ومع ذلك لا يعتبر أي منهم نفسه أنه لص أو مزور أو خارق للقانون وما شابه.

ويحتار المحلل النفساني من تعقيد تعريف الشذوذ السلوكي من حيث وجود معايير مختلفة في المجتمع الواحد، بحيث يكون لكل فئة أو طبقة من طبقات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية معيار مختلف. ويعتقد معظم الناس في أمريكا الشمالية وأوروبا أن جريمة السرقة متفشية وشائعة بين الفقراء بدرجة أكبر كثيراً من تفشيها بين الأغنياء. لكن هذا غير صحيح. والصحيح هو أن عدد المساجين من الفقراء والعاطلين عن العمل وغير البيض - لا المجرمين - أكثر من أمثالهم من الأغنياء والبيض.

ولعل من أسباب ذلك أن عدداً كبيراً من هؤلاء المحتجزين في السجون هم ممن قبض عليهم رجال الشرطة كمشتبه بهم، ونظراً لفقرهم لم يستطيعوا تقديم الضمانات المالية اللازمة لأطلاق سراحهم حتى يتم التحقيق معهم، أي أنه لم تثبت أدانتهم، ومع ذلك بقوا في السجون، وقد دلت دراسة أجريت قبل حوالي عشر سنوات على أن جرائم السرقة التي ارتكبها أفراد الطبقتين الوسطى والعليا في الولايات المتحدة اشتملت على مبالغ مجموعها ألف وسبعماية مليون دولار، بينما اشتملت جرائم سرقات أفراد الطبقة الدنيا على مبالغ يقارب مجموعها ثلث ذلك فقط. وفوق ذلك كان عدد الذين قبض عليهم وقدموا للمحاكمة من أفراد الطبقة الوسطى والعليا الذين ارتكبوا جرائم سرقة أقل كثيراً من عددهم الفعلي، أي أن عدداً كبيراً منهم أفلت من العقاب. وحتى الذين قبض عليهم وقدموا للمحاكمة من هؤلاء كانت عقوبتهم أخف كثيراً من عقوبة نظرائهم من الفقراء. ووجد الباحثون حديثاً إنه خلال سنة واحدة أدين أكثر من 500 شخص بتهمة التزوير في كشوف ضريبة الدخل والاحتيال للتهرب من دفعها، وكان التزوير بمعدل 190000 دولار لكل واحد منهم. ومن هؤلاء الخمسمائة مذنب حكم على 95 شخصاً بالسجن مدداً مفعولها تسعة أشهر ونصف للواحد. وبالمقابل أدانت نفس تلك المحاكم حوالي 4250 شخصاً فقيراً بتهمة سرقة سيارات وبضائع من المحلات التجارية، وكانت أثمان المسروقات أقل بكثير مما سرقه المحتالون على ضريبة الدخل من خزينة الدولة. وحكمت المحاكم عليهم جميعاً بالسجن. وكانت مدد 60% منهم في المعدل ضعف ما حكم به على سارقي ضريبة الدخل من أفراد الطبقتين الوسطى والعليا.

وإذا كان معظم الناس يفترضون أن خرق قواعد السلوك يؤدي إلى إنشاء جهاز رقابة اجتماعي، ويعتبرون النظام القضائي والقانوني علاجاً اجتماعياً منظماً للشذوذ عن المعايير والقواعد السلوكية المرعية، فإن الواقع يبين أن الشذوذ قد ينشأ بسبب جهاز الرقابة ذاته. فلو أعتبر المجتمع أن سلوكاً ما شاذاً وسن القوانين الصارمة لمنعه، فإن من المحتمل أن يتكرر حدوث ذلك النوع من الشذوذ الشاذ.

وإذا كان لي من كلمة أنهي بها تحليل هذه الحالة فهي أنه حين يدرس تاريخ أي مجتمع تلاحظ عدة اتجاهات من بينها تغيرات في الأهداف وقواعد السلوك المقررة وازدياد في تعقيد المؤسسات وتغير أشكال التنظيمات السياسية. وليس مهما أن تعتبر هذه التغيرات (تقدماً) أو العكس، فالمهم هو أن التغيرات في المجتمعات لا تحدث عشوائياً. وبالطبع، لا يوجد مجتمع مقرر أو مقدر له بشكل قاطع لا مفر منه أن ينتقل في تسلسل ثابت من طور إلى طور. لذا عندما يدرس تاريخ مجتمع معين عبر فترة زمنية طويلة يمكن رؤية انتقال ذلك المجتمع من فئة أو صنف إلى فئة أخرى.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا