حفار القبور 4 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-11-16
  • ماذا؟ هذا مستحيل يا سيدتي! كيف تطلبين مني شيئاً كهذا؟
  • سأدفع لك!
  • مستحيل! إن ما تطلبينه حرام ولن أفعله أبدأ!

كان الخوف قد بدأ يعاود العجوز، فلم تكن تدري هل كان الحفار صادقاً فيما يقول أم أنه يمثل الطهارة ليبتزها، وصمتت لحظة محتارة، هل تستمر في المحاولة أم تهرب قبل أن يفتضح أمرها، نظرت إلى النقود التي كانت لا تزال في يدها وفكرت أن عليها إعادتها، فهان خوفها من الفضيحة أمام فاجعة احتمال خسارتها لكل هذه النقود، اقتربت من الحفار وأمسكت بيده هامسة:

  •  كم تريد؟ هيا تكلم!
  • لا يا سيدتي! كان الحفار لا يزال مستمراً في تمثيليته:- هذا حرام! حرام!

قررت أن تريه المال لعل لعابه يسيل لمرآه ويخضع، اتجهت إلى الفتاة التي لم تكن تدري بما يقولان فقد كانت عيناها مسمرتين على القبر كأنها تنتظر أن يفتح بنفسه..

  • أعطيني مالاً لأعطيه للحفار، قالت العجوز لها فصحت الفتاة من ذهولها ومدت لها يدها ببعض المال، نظرت العجوز إليه ثم أعادته إليها..
  • هذا لن يكفي لإقناعها أعطيتي المزيد

أخرجت كومة من النقود من فئات كبيرة وأعطتها للعجوز ثم استدارت لتواجه القبر من جديد وعاد الذهول إلى نظراتها، كانت العجوز لا تزال تعطي ظهرها للحفار فاستغلت الفرصة لتخفي معظم ذلك المال في ثيابها، ثم اتجهت إليه مرة أخرى وهي تلوح بالنقود وعيناها تبتسمان في إغراء..

وحدث ما توقعته فقد استبد الفرح به والتمعت عيناه، أسرعت بانتهاز الفرصة فوضعت بعض النقود في يده، عدها بنظرة واحدة فقرر أن يستمر في التمثيل..

– لكن يا سيدتي لا أدري يا سيدتي!

تنهدت ووضعت المزيد في كفه الممدودة، كان المبلغ لا يزال قليلا فقد رأى ما قبضته العجوز من الفتاة..

  • لكنها تبدو مجنونة يا سيدتي! الم تري ما فعلت بالمقبرة من يدري ماذا ستفعلنا بالميتة حين تراها!
  • وما المشكلة؟ إنها ميتة ولن تحس بشيء!
  • وماذا لو رآنا أحد؟
  • ألم تقل لي بنفسك أن لا أحد يأتي في هذه الساعة؟
  • وماذا لو علم أحد بما فعلنا؟ لا! لا أستطيع إني خائف!

أسقط في يد العجوز، يا له من عنيد! وأسوأ ما في الأمر أنها لا تدري هل يتصنع الخوف والتردد أم أنه صادق، ولكن ليس لديها الخيار، أخرجت له مزيداً من المال..

  • سأعطيك مئة دينارا ما رأيك؟

ضحك بسخرية:

  • إذا اكتشف أمري فلن تكفي المئة دينار حتى لثمن تذكرة الطائرة للعودة إلى بلدي!
  • مئتين إذن؟ كل ما ستفعله هو حفر القبر وهو ما تفعله كل يوم مقابل اجر شهري ضئيل!

كاد عقله يطير فرحاً فلم يتوقع أن تضاعف العجوز المبلغ بهذه السرعة، وهم أن يصرخ بالموافقة عندما تذكر أنه يحتاج مبلغا أكبر بقليل ليسدد ديونه..

  • مئتين وخمسين! قال بثقة وقد تخلى عن محاولة تصنع البراءة.

لمعت عينا العجوز بالسعادة، لقد كان يمثل إذن وكل ما أراده هو المزيد من المال، هذا عظيم فقد وجدت حليفاً في هذا المكان! لقد وقعت علي كنز ثمين! الآن لن يوقفها شيء ستتمكن من تحقيق كل طلبات النساء اللاتي كفرن بربهن وارتضين جحيم الآخرة مقابل ضمان خضوع الزوج لكل نزواتهن، أو في سبيل الانتقام من هفوة بدرت من أحد معارفهن واعتبرتها عقولهن التافهة خطيئة لا تغتفر، ستتدفق الأموال عليها بعد أن أصابها العوز وعضتها الحاجة في بلدها الأم، فقد جعل الفقر والقتال المستمر هناك بضاعتها من السحر كاسدة.

أخفت فرحتها وعدت النقود التي طلبها ومدتها له بصمت، استأذن منها ليحضر رفشه من غرفته، عاد ليجد الفتاة جالسة على القبر فأبعدها بعدم اكتراث وبدأ الحفر، كانت تقف قريبا جدا من القبر وكلما خاطب العجوز لإبعادها كانت تعود من جديد وعيناها المجنونتان تلمعان أكثر كلما تقدم في الحفر، قرر تجاهلها وأخذ يرمي التراب عند قدميها وعلى ثيابها دون أن تكترث أو حتى يطرف لها جفن.

ما كاد يصل إلى الكفن حتى قفزت الفتاة إلى داخل القبر وألقت بنفسها فوق جسد الميتة وقد نسيت وجوده، تمكن بصعوبة من دفع جزء من جسدها وقفز إلى خارج القبر ووقف ينظر إلى ما تفعله، كانت قد أزاحت باقي التراب بيديها وكشفت الكفن عن وجه الميتة وكان المنظر مرعباً، لم يكن الجسد قد تحلل تماماً وبقيت هناك بعض قطع من الجلد على الخدين وحول العينين، كان جفناها وحاجباها لا زالت مكانها وكذلك شفتاها وأنفها، ولولا الحفرتان على جانبي وجهها اللتان تبرز منهما العظام العارية وأذناها اللتان تأكل جزء من شحمتيهما لبدت كأنها نائمة.

وفكر الحفار رغماً عنه أن هذه المرأة لا بد أنها كانت جميلة جداً في حياتها، فلا زال وجهها يتمتع ببهاء لا تخطئه العين رغم كبر سنها والموت الذي افترس جزءاً من وجهها، تري هل كان هذا سبب حقد هذه الفتاة عليها؟ فقد كانت قبيحة جدا وزادها الجنون قبحاً..

  • أيتها الحقيرة القذرة! صاحت في وجه الميتة ثم صفعت وجهها بكل قوتها:
  • ستدفعين الثمن غالياً! سوف أجعلك تدفعين ثمن كل ما فعلته بأمي!

كانت تجلس على صدر الميتة ووجهها يكاد يلتصق بوجهها وهي مستمرة في الصراخ:

  • هل ظننت أني نسيته لا لم أنس شيئاً لم أنس دموع أمي ولا الوحدة التي عاشت فيها طوال تلك السنين كانت تسهر الليالي تحدثني عما فعلته بها! منذ نعومة أظفاري وهي تعيد لي كل يوم كل كلمة قلتها وكل جرح تسببت لها به، كل العذاب الذي عانته كان بسببك! أجل بسببك أنت أيتها المجرمة السافلة!

صفعت وجه الميتة من جديد واستمرت في نباحها:

  • هذا من أجل أمي! أمي التي ماتت بحسرتها دون أن يشفي جرحها أو تهدأ النار في صدرها لكم تمنيت لو استطعت أن أصفعك أمامها، أو أحضر وجهك القذر هذا لها لتبصق عليه كما تشاء حتى تكتفي! هذه بصقة لأجل أمي! وهذه أيضاً وهذه!

وقفت قرب الميتة وهي تستند على حائط القبر وداست بقدمها على وجهها:

  • انظري يا أمي! أنا أدوس على وجهها، هذا الوجه الذي كنت تبغضينه وتتمنين تشويهه حتى آخر لحظة من حياتك كان هذا أغلى أمانيك! وحتى آخر كلماتك لي قبل أن تودعي الحياة كنت توصيني أن لا أنسى، لم أنس ولن أنسى يا أمي! سأنتقم لك من هذه الحقيرة وستدفع ثمن كل دمعة ذرفتها!

توقفت لحظة وهي تلهث وأدارت النظر حولها، كان يبدو عليها الضيق كأنها حيوان محبوس، رفعت بصرها إلى الأعلى ومدت إحدى يديها وتشبثت بإحدى حافتي القبر، وأمسكت بشعر الميتة الذي تحول إلى ما يشبه القش وأخذت تحاول سحبها منه لإخراجها من القبر، فرغم جنون الحقد الذي غيب عقلها فقد شعرت آن القبر ضيق جدا ولا تستطيع الحركة فيه بحرية لتشفي غليلها، كان رأسها يرتطم بأحد حوائط القبر كلما تحركت..

ولقصر قامتها وارتفاع جوانب القبر فقد أفلتت يدها ووقعتا ثانية على جسد الميتة، كررت المحاولة وهي تشد شعر الميتة بكل قوتها فانفصل الشعر عن رأس الميتة وخرج في يدها، رمته وهي تصرخ باشمئزاز فصاحت بها العجوز:

  • أعطيني إياها!

وكأن صرخة العجوز التي كانت تراقبها بصمت كل هذا الوقت قد نبهتها من ذهول الغضب الذي أعماها عما حولها فنظرت إليها وصاحت بتوسل:- ساعديني!

  • ماذا تريدين؟ سألت العجوز متغابية.
  • أريد أن أخرج هذه القذرة من هنا فالمكان ضيق جداً ولا أستطيع أن أتحرك!
  • أدري إن كنت أستطيع، فأنا امرأة عجوز وضعيفة كما تعلمين.
  • إذن دعي هذا الرجل يساعدني!

كان الحفار يقف صامتاً فلم ير حتى الآن مما فعلته الفتاة ما يثير حفيظته ويبرر طلبه لمزيد من المال، ونظرت إليه العجوز بتساؤل فهز رأسه بالرفض، كان لا يفهم لماذا لا تكلمه الفتاة مباشرة، ولماذا تستمر في دفع المال للعجوز لتنقل له طلباتها في حين أنه يقف هنا أمامها..

لقد أصبح متأكداً الآن من جنون هذه الفتاة ومن استعداد العجوز لتلبية كل رغباتها مقابل المال، لماذا إذن لا يستغل هو أيضاً هذه الفرصة الذهبية ويحصل على مزيد من المال مقابل كل عمل يقوم به، وإذا استمرت الفتاة على هذا المنوال من الخضوع لكل طلبات العجوز وطلباته فلن تنتهي هذه الليلة إلا وقد أصبح لديه جزء من المال ما يكفي ليس فقط لسداد كل ديونه، بل سيكون لديه جزء لا بأس به من ثمن بيت خاص به في بلده كما تمني بيأس منذ سنين..

  • إنه يرفض ذلك! قالت العجوز للفتاة وقد فهمت ما يريده الحفار واستبشرت لفرصة كسب مزيد من النقود..
  • لماذا؟ هل يريد مزيداً من المال؟
  • لا أدري، أعطيني بعض المال ودعيني أحاول!

نظرت الفتاة بقنوط إلى ما بقي من نقود في حقيبتها، وفي لمحة صفاء مرت في ذهنها المشوش تذكرت كم كانت تلك الحقيبة ملأى بالنقود في بداية هذه الليلة! وكم أصبحت الآن خفيفة وشبه خالية، لقد دفعت كل ما تملك إلا قليلاً ولا زالت نار الحقد تشتعل في صدرها ولم يهدأ أوارها.

ألقت بنظرة غاضبة إلى وجه الميتة ثم بصقت في وجهها من جديد..

  • أرأيت! أنت سبب كل المصائب في حياتي! حتى في موتك جعلتني أخسر كل مالي! كم دفعت من الأموال لكل ساحرة عرفتها لأجعل حياتك سوداء. كما جعلت حياة أمي! حاولت بكل ما استطعت تفريقك عن أهلك، لكن تسامحك الزائف كان يجعلك تغفرين الإساءة وتدفعين بالتي هي أحسن ليعود الناس إليك نادمين، حتى أولادك وبناتك! دفعت الكثير ليصبحوا أعداء وينسوا دمهم، لكن طيبتك المصطنعة ومحاولاتك الدائمة لجمعهم وزرع المحبة أفشلت كل جهودي..

توقفت بضع ثوان لتلتقط أنفاسها ثم استمرت في الصراخ:

  • لقد ماتت أمي وحيدة، تآكلها المرض حتى أصبحت ضئيلة هزيلة ولم يزرها إلا النفر القليل من أهلها، إذ أن معظمهم تحيزوا لك، ووقفوا في صفك ضدها، وحتى من أتى لزيارتها كانوا يأتون بدافع الواجب أو المجاملة وليس حباً، أما أنت أيتها الحقيرة السافلة فقد مت سعيدة بين أولادك وأهلك الذين تدافعوا لزيارتك في فترة مرضك القصيرة!

- نعم أيتها الحثالة فحتى مرضك تفوقت به على أمي فقد تعذبت لسنين قبل أن يريحها الموت، بينما لم تدم فترة مرضك أياماً معدودة رحلت بعدها بسلام في نومك! وعندما حضرت عزاءك متظاهرة بالحزن لم أجد حتى مكاناً أجلس فيه لكثرة المعزين بك أيتها الحقيرة، بينما كنت أجلس وحدي معظم أيام العزاء لأمي! أمي التي لا تستحقين حتى أن تدوسي على التراب الذي وطأته قدماها! اللعنة عليك!

ركلت وجه الميتة ثم أخرجت بعض المال من حقيبتها ودفعت به إلى العجوز وهي تزفر بغيظ. دست العجوز بعض المال في صدرها ثم مدت يدها بالباقي إلى الحفار، كان مبلغاً محترماً فأخذه بصمت إذ كان قد سئم من وجودهما وبدأ النعاس يراوده فقرر أن يختصر تمثيلياته..

مد يده للفتاة وأمسك بيدها ليخرجها من القبر، وقفز خلفها ورفع جسد الميتة ووضعه برفق على حافة القبر، وقبل أن يتسنى له الوقت ليخرج من القبر كانت الفتاة قد سحبت ذلك الجسد المتهالك وأسندته على شاهد القبر، كانت أطراف الميتة ورأسها تكاد تنفصل عن جسدها فلم يكن هناك إلا رقع متفرقة من الجلد وبقايا قليلة من اللحم تمسك بعظامها معاً، وفكر الحفار بأنه حتى الموت أعجبه ذلك الوجه الجميل الذي ترتسم الطيبة على ملامحه فتركه لأخر لحظة..

استمرت الفتاة في هذرها المجنون وهي تخاطب الميتة وقد جلست على الأرض مقابلها:

  • أين جلدك الأبيض الجميل الذي أغريت به أبي ليترك أمي ويعود إليك؟ أين جسدك الرخص وشعرك الناعم؟ أهذا هو؟

قالت وهي تمسك ببقايا شعر الميتة الجاف كالقش..

  • لم تكوني تسمين أمي إلا السوداء، وجعلت جميع من يعرفكما يضحك على نكاتك الساخرة من غباء أبي الذي جعله يتركك أنت وأولادك ويتزوج أمي التي أحبته منذ رأته معك لأول مرة، وانتظرت لسنوات حتى تمكنت من الزواج به بعد أن دفعت كل ما تملك لساحرة جعله سحرها يطلقك!
  • لكنك لم تدعيها تهناً به، فبدل أن تطرديه عندما عاد إليك نادماً اشترطت عليه فقط أن يطلق أمي لتعودي إليه، ونجحت في مسعاك الشرير فطلق أمي ونسي وجودي كل هذه السنوات، وحتى عندما جئت لأزوره في مرض موته طردني وأهانني وهو يقول لي باستهزاء أنني أشبه أمي في قبحها وأنه لا يريد رؤية وجهي، لم يكن يريد إلا رؤية وجهك البغيض هذا!

ثم أخذت حفنة من التراب وعفرت بها وجه الميتة، وحاولت فتح عينيها لتدخل، التراب فيهما فلم تستطع..

كان السأم من هذرها الممجوج قد بلغ مداه بالحفار، وكان شعور خفي بالندم قد بدأ يساوره عندما رأى جسد الميتة يكاد يتمزق بين يدي الفتاة، فقد شعر بالأسف لتلك الميتة المسكينة التي جعله طمعه وجشعة يسلم جسدها بيديه لهذه المجنونة التي كلما استمع أكثر لكلامها كلما أحس أن تلك الميتة كانت مظلومة في حياتها منها وأنه قد ساعدها لتستمر في ظلمها لها بعد موتها..

كانت الفتاة الآن ترفع الميتة من شعرها وتضحك في وجهها باستهزاء مستمرة في صفعها والبصق عليها، وتذكر ما فعله هو بالميت البدين وبجثتي حاولا الاعتداء على شرفه، لكن تلك الذكرى تضاءلت بشاعتها أمام ما تفعله هذه المعتوهة، فهو لم يفعل ما فعل إلا للانتقام ممن أساؤوا إليه، بينما كل كلمة تنطقها هذه الفتاة تظهر بوضوح أن حقدها على الميتة كان بغير أساس عدا جنونها وخيالاتها المريضة.

أحس بالغضب يتجمع في صدره على الفتاة وعلى العجوز التي تراقب ببرود كل ما تفعله الفتاة كأنه أمر معتاد ولا غرابة فيه، وخفض رأسه محاولاً تهدئة نفسه بتذكر كل الأموال التي حصل عليها، لكن صوت الفتاة الذي يشبه فحيح الأفعى واستمرارها بالعبث بجسد الميتة كاد يفقدانه صوابه فقرر أن يبتعد، قال للعجوز انه سيذهب ليتأكد أن الحارس لازال نائماً وابتعد بخطوات مهمومة، ألقى نظرة من نافذة الحارس فوجده لا يزال يغط في نومه.

عاد إلى مكان القبر وهو يجر قدميه بتثاقل، كان يحاول إطالة وقت عودته آملاً أن تكون تلك الفتاة الكريهة قد استنفذت انتقامها وأنها سترحل أخيرا، وما كاد يقترب من القبر حتى زاغ بصره لما رآه، كانت الفتاة قد جرت الميتة من شعرها وأخذت خلفها وهي تضحك بجنون وتضرب بجسد الميتة كل شواهد القبور التي في طريقها، وكان الجلد الذي يمسك بعظام تلك المسكينة معاً قد تقطع من عدة أماكن وتفرقت أجزاء من عظامها في نواحي المقبرة..

كانت العجوز تمسك بإحدى تلك العظام وبكومة من شعر الميتة وهي تقف جانباً بهدوء منتظرة أن تفرغ الفتاة مما تفعله. جمدت الدهشة قدميه في مكانهما، ولكنه استفاق عندما توقفت الفتاة وقعت كالكلب بجانب رأس الميتة وأخذت تحاول انتزاع بقايا اللحم عن وجهها بأسنانها، وهنا طفح به الكيل فهجم على الفتاة ودفعها بعيدا عن جسد الميتة، عوت بصوت جريح وحاولت أن تزحف عائدة فركل وجهها بعنف فوقعت أرضاً وهي تبكي وتشهق والدم ينزف من أنفها..

  • أيتها الكلبة المجنونة القبيحة! سأقتلك إن اقتربت ولو خطوة واحدة!

صاح وهو يستل سكينه من جيبه، كان الغضب قد جعله يصرخ بلغته الأصلية دون أن يشعر، نظرت الفتاة إلى العجوز متوسلة فحاولت الاقتراب منه فصفعها بكل قواه وهو يصرخ:

  • أخرجا من هنا، أخرجا الآن وإلا قتلتكما مماً ودفنتكما هنا!

لعقت العجوز جرح كرامتها فلم تكن تريد أن تخسره، لم تكن تفهم ما يقول لكن تلك الصفعة المؤلمة أنبأتها أنه غاضب فعلا وأنه لم يعد يمثل..

أمسكت بالفتاة ورفعتها عن الأرض وهي تحاول مواساتها بأنهما قد حصلتا على ما جاءتا من أجله:

  • لا تحزني، سوف أستخدم عظامها وشعرها لأصنع سحراً لا فكاك منه لبناتها، لم تخبريني أنهن قد ورثن جمال أمهن وأن الخطاب يتهافتون عليهن، سأجعل الرجال ينفرون منهن ويرونهن قبيحات، وحين يقتربون منهن سيشتمون رائحة مقززة كأنتن جيفة لأقذر حيوان، سيذبل جمالهن وتترهل أجسادهن وهن وحيدات ولن يعرفن يوماً نعمة الزوج أو الولد! هيا لنرحل فلم يعد هناك داع لوجودنا هنا.

استسلمت الفتاة ومشت مع العجوز، وبعد أن ابتعدا قليلا تحاملت العجوز على خوفها واقتربت منه وأمسكت بيده متوسلة:

  • اسمع! لا تغضب مني فهذه الفتاة مجنونة كما رأيت وأنا لم أستطع منعها، أعدك أنك لن ترى وجهها ثانية ولن أحضر أحداً غيرها بعد اليوم، لكن لا تغضب مني ألم أعطاك ما يكفي من المال؟ اسمح لي بالعودة وسأدفع لك الكثير كلما أتيت إلى هنا ولن أطلب منك بعد الآن إلا خدمات بسيطة لن تكلفك شيئاً!
  • أخرجي! قال بحزم وشفتاه ترتجفان، لم تفقد العجوز الأمل فأزاحت النقاب عن وجهها عل رؤية ملامحها تقنعه بصدق وعودها، ومدت له كومة من الأوراق النقدية محاولة إغراءه بها، ضرب يدها بعنف لتتطاير النقود على الأرض مختلطة ببقايا جلد وعظام الميتة المتناثرة حولهما..
  • سأخبر صديقاتي الساحرات عنك وسيحضرن كلهن إليك وستربح الكثير من الأموال، فإذا تعاونت معي سيصبح سحري أقوى وسيكون لدي الكثير من الزبائن! ألم تر كم دفعت هذه الفتاة؟ إن هناك الكثيرات من أمثالها ممن لا يكترثن للمال في سبيل تحقيق رغباتهن المجنونة!

انحنت أرضا وجمعت المال الذي ألقاه ومدته له من جديد وهي مستمرة في التوسل وقد شجعها صمته:

  • أقسم لك! لن أحضر أحداً مثلها بعد اليوم! ولولا أنني ظننت أنك موافق على ما تفعله لما سمحت لها بأن تفعل ما فعلته، خذ هذا المال ولا تضيع هذه الفرصة من يدك فلا ريب أنك تحتاج لكل فلس منه، لكني أعدك بأنك لو قبلتني شريكة لك فلن تحتاج بعد الآن إلى شيء، ستتدفق عليك الأموال، وستصبح غنياً وستتمكن من الحصول على كل ما تتمناه!

كان غضبه قد بدأ يهدأ وهو يستمع إلى توسلات العجوز، وكان لا زال مستغرقاً في صمته الذي خلقته صدمته لرؤية خلقة العجوز الشوهاء، تأمل وجهها المتذلل بقرف مستغرباً من بشاعتها، فقد كانت عيناها صغيرتين ومتقاربتين يطغى السواد فيهما على البياض كعيني الفأر، وحتى ذلك البياض كان مشوباً بزرقة جعلت عينيها مفزعتين أكثر، وكان أنفها ينحدر كأنه بلا عظم وينتهي بمنخرين واسعين كمغارة سوداء تطل منهما عدة شعرات، ويكاد طرف أنفها الضيق يسقط في فمها الأجرد، وعلى ذقنها كانت هناك علامات وشم خضراء زادت من شناعة ملامحها.

استمرت العجوز في توسلاتها فخامره شعور بالقوة وأحس بكبريائه يتضخم، وعاد الطمع يزحف إلى قلبه وأحلام الثراء تتراقص أقام عينيه على وقع كلماتها ووعودها المتدفقة، مد يده واختطف المال من يدها فقهقهت بسرور..

  • أجل هكذا، خذه ولن تندم، سوف ترى، لن تكون إلا راضياً وسعيداً بعدما! تجرب التعامل معي!
  • لن أسمح لك بدخول المقبرة بعد الآن!

همس بتهديد وهو ينظر إلى الفتاة التي كانت تقف في مكانها منتظرة العجوز..

  • لا بأس، لا بأس، قالت محاولة تجاوز خيبة أملها، لن أحتاج للدخول، سأحضر ليلاً وأعطيك ما أريد أن أدفنه أو أستلم منك ما أحتاج إليه، لكن عليك إتباع تعليماتي بدقة وإلا لن ينجح السحر، أعطني رقم هاتفك لأحدد لك موعد اللقاء.
  • ليس لدي هاتف! قال وهو يهز كتفيه بعدم اكتراث..
  • إذن سأحضر لك هاتفاً غداً، سوف ترى هذه هي البداية فقط وستحصل بعدها على كل ما تشتهيه! انتظرني غداً عند منتصف الليل لأعطيك الهاتف وسأتصل بك بعدها لأحدد لك تفاصيل ما تفعله!
  • ستدفعين لي مقدماً ولن أفعل شيئا حتى أحصل على نقودي كاملة!

تنهدت بغيظ، فقد خنقها الذل وهذا العامل البسيط يصدر لها الأوامر ويفرض عليها شروطه وهي لا تملك إلا الخضوع.

  • كما تشاء، سأحضر لك الهاتف غداً وسنتفق على كل شيء بعدها.

أمسكت بيد الفتاة وقادتها إلى خارج المقبرة وهو يتبعهما، أغلق باب المقبرة خلفهما وعاد إلى مكان ذلك القبر، جلس أرضاً وتنهد بعمق فقد أعاد له من أشلاء الميتة المتناثرة ذكرى ما حدث، نهض وفرش الكفن قرب القبر وأخذ يجمع عليه تلك العظام ودموعه تسيل رغماً عنه، فلم ينتبه إلا حينها أن تلك المجنونة قد انتزعت عينا الميتة من محجريهما، وكان يشعر أن ذلك الفراغ المفزع الذي تركته العينان وراءهما يحدق به، يلومه ويسأله: «ماذا جنيت في حقك؟ لم سمحت لها بالعبث بي؟ لم تركتها تأخذ أجزاء من جسدي لتؤذي بها بناتي؟ لماذا؟ لماذا؟»

  • ماذا حدت هنا؟

صاح الحارس من خلفه فقفز من الفزع، واخذ يحدق مبهوراً إلى وجه الحارس الغاضب والكلمات تتصارع في جوفه، ماذا يقول؟ وكيف يبرر ما حدث؟ وما العذر الذي يمكنه التعلل به لوجوده هنا؟

  • لا..لا.. أدري، لقد استيقظت من نومي عندما سمعت صوتاً غريباً وتبعت الصوت لأرى ما ترى! قال متلعثماً..
  • لكني لم أسمع شيئاً!
  • لابد أنك كنت نائماً!
  • لماذا لم تحضر لإيقاظي؟
  • لقد فعلت! فقد قرعت بابك عدة مرات وناديتك لكنك لم تجبني فقد كنت تنام بعمق وكان شخيرك! عالياً، لهذا فكرت أن أجمع هذه الأشلاء ثم أ إيقاظك من جديد، قال كاذباً وهو يأمل أن لا يكتشف الحارس كذبه..

خفض الحارس رأسه فقد داخله الشك في نفسه، لقد كان ينام بعمق فعلاً ولولا أن نباح أحد الكلاب الضالة قد أيقظه لظل نائماً إلى الصباح، ثم عاد إلى النظر حوله وقد أفزعه ما يراه..

  • لكن ماذا حدث هنا؟ كيف خرجت عظام هذه الميتة من قبرها؟ وماذا حدث لوجهها؟
  • لا أدري، قالي وهو يحاول أن يوقف ارتجاف صوته:- لقد وجدتها هكذا..
  • ألم تر أحداً؟
  • لا! لم أر شيئاً.
  • وماذا يفعل رفشك هنا؟

تلعثم من جديد، يا لها من ليلة لا يبدو أنها ستنتهي..

  • لقد أحضرته لأعيد دفنها.

اقترب الحارس من عظام الميتة وتفحص بقاياها..

  • لا تبدو لي عظامها مكتملة! إن هناك يداً واحدة فقط، وحتى عظم حوضها يبدو مكسوراً وتنقصه قطعة كبيرة! هل جمعت كل الأجزاء؟
  • لقد جمعت كل ما وجدت، فقد كانت العظام متناثرة بين العديد من القبور.

قال وقد أربكه كم الأسئلة الذي تدفق من فم الحارس الذي لم يعرفه إلا صامتاً كصمت القبور التي يحرسها..

  • لابد أنه كلب ضال! لا يمكن أن يفعل هذا إلا كلب مسعور! قال الحارس..

صاح الحفار بلهفة وقد أحس أنه وجد الخلاص:

  • أجل أجل! لابد أنك محق ربما كان هذا ما أيقظني!
  • أنا أيضاً استيقظت على صوت نباح كلب، لكن كيف استطاع الكلب أن يحفر لهذا العمق؟ ولم اختار قبر هذه الميتة بالذات؟ بل كيف استطاع دخول المقبرة أصلاً؟

اختار أن يجيب فقط على السؤال الأخير ويتجاهل البقية لعل الحارس ينساها:

  • لابد أنه قفز من الحائط الشرقي الذي وقعت عليه تلك الشجرة بفعل الرياح الشديدة قبل عدة أيام وتهدم جزء منه!
  • دعنا نذهب لنري!

اتجها معاً إلى تلك الجهة من سور المقبرة، كان الجزء الذي تهدم من السور صغيراً جداً ولا يكفي لتجاوزه..

  • ربما كان كلباً كبيراً، قال رداً على الشك الذي بدا في نظرات الحارس..
  • ربما، قال الحارس باستسلام مفاجئ، فكيفما قلب الأمر فهو الملام فقد قصر في عمله، لكن كيف كان له أن يعرف، إنه ينام كل ليلة في نفس الموعد ولم يحدث شيء كهذا من قبل.
  • سأخبر الموظف غداً ليرتب اللازم لإصلاح السور، أكمل أنت عملك وتأكد أنك جمعت كل قطعة من أشلاء هذه المسكينة قبل أن تعيد دفنها، سيبزغ الفجر بعد قليل وستتمكن من الرؤية بشكل أفضل..
  • أمرك يا سيدي!

قال بحماس وهو يحس أن الخوف الذي كان يضغط على قلبه قد تراخت قبضته ليتنفس أخيرا بارتياح..

عاد إلى مكان القبر وقد تراجع عذاب ضميره الذي كان قد استيقظت لفترة وجيزة أمام راحة الخلاص التي نزلت بردا وسلاما على قلبه المرتعب، لم يتوقع، أن يفلت من المأزق بهذه السرعة، إذا كان قد نجا من أي عقاب بعد كل ما حدث في هذه الليلة المجنونة بهذه السهولة فسيتمكن من جمع الكثير من الأموال من هذه الساحرة القبيحة الهرمة ولن يكتشفها أحد ما يفعله.

لقد قالت إن كل ما تريده هو أن يدفن لها بعض الأشياء في القبور أو يحضر لها بعض التراب أو بقايا من عظام الموتى، وهو عمل هين وبسيط لن يكلفه شيئاً، ولن يفكر أحد في أن يحفر أياً من هذه القبور ليتأكد من عدد العظام في جوفها أو يبحث عن شيء مدفون فيها، لقد انفتح له باب من الرزق لم يتوقعه، وسيكون رزقاً سهلاً وسريعاً ووفيراً.

استمر بجمع بقايا الميتة ثم أعاد دفنها بحركات ميكانيكية وقد تبلد شعوره الضئيل بالذنب واستغرق في أحلام اليقظة وهو يتخيل كم من الأموال وكيف سينفقها عندما يعود إلى بلده، أما هنا فلن يحتاج لإنفاق شيء فلم يعد يفكر بمغادرة المقبرة مطلقاً، إنها بيته الأمن ومصدر رزقه، والآن اكتملت مزاياها بلقائه لهذه الساحرة الذي سيدر عليه الكثير من المال.

استيقظ من نومه في الصباح التالي سعيداً ومبتهجاً، وانهمك في عمله ومنظر النقود الكثيرة التي جمعها بالأمس لا يفارق ذهنه، وحتى لقاؤه مع الموظف الغاضب الذي أخبره الحارس بما حصل لم يعكر صفوه، بل لقد نجح في اجترار بضع قطرات من الدموع تظاهر بذرفها عندما اشتد هجوم الموظف وموظفون آخرون لم يرهم من قبل عليه بالأسئلة فيما بعد..

لم يهزه حتى منظر رجال الشرطة الذين حضروا بعدها وهم يجولون بين المقابر بحثا عن أدلة ترشدهم إلى حقيقة ما حدث، فقد أزاح عمال التنظيف وبعدهم أقدام المعزين الذين دفن ميتهم ذلك اليوم قرب قبر تلك السيدة آثار أقدام العجوز والمجنونة التي أحضرتها، وتكفلت الرياح الشديدة التي هبت في ذلك الصباح بإزالة أي آثار أخرى، ولن يفكر أحد أن يحفر القبر من جديد فقد كانوا يرتعبون لفكرة تدنيس حرمة القبور.

سمع الحارس والموظف يتحادثان بعد عدة أيام، لم يكترثا لوجوده ظانين أنه لازال غير قادر على فهم كل ما يقولانه، كانت الحيرة بادية على وجه الحارس والموظف يخبره أن الشرطة لم تجد أي أثر لأقدام حيوان بالقرب من الناحية المهدمة من السور حتى حين بحثوا في الجهة الخارجية منه..

وأنهى الموظف الحديث قائلاً إن الكلب ريما كان قد تسلل خلال النهار من باب المقبرة دون أن يشعر به الحارس، ورحل وهو يوصي الحارس أن يكون أكثر حذراً في المستقبل، راقب مبتسما الحارس المسن وهو يعود إلى غرفته مطأطئ الرأس ها قد نجا بسلام من المأزق وتلقي الحارس اللوم بدلا منه.

أصبح سعيداً بعمله وكانت سعادته تزداد كلما ازدادت النقود لديه، ولم يعد يفتقد الأحياء فقد كان يتلقى اتصالات هاتفية وزيارات شبه يومية من العجوز أو من الساحرات الأخريات اللواتي استدللن عليه عن طريقها.

واعتاد أن يخرج فجر كل يوم ليلتقي بهن خلف المسجد المجاور للمقبرة بعد أن أوهم الحارس أنه أصبح ملتزما بصلاة الفجر في جماعة، فمنذ تلك الحادثة أصبح الحارس يكتفي ببضع ساعات من النوم نهارا ويمضي الليل ساهرا علي كرسيه أمام باب المقبرة، لم يقلقه ذلك إلا قليلا فقد كان متأكدا أن الحارس سيسأم بعد فترة من الوقت وينهك التعب جسده المسن ويرغمه أن يعود إلى نظام نومه القديم.

لم يخب ظنه فبعد عدة أسابيع عاد شخير الحارس يملأ هدوء الليل، لكنه لم يتخل عن حذره فقد كان حريصا أن يتأكد من نومه قبل أن يشرع بتنفيذ التي أوكلته بها تلك الساحرات..

لم يكن يفهم سبب حرصهن الشديد على أن ينفذ تعليماتهن حرفياً وكان يضجر من تكرارهن لتحذيراتهن المملة حول الساعة من النهار أو الليل التي عليه أن يدفن ما يحضرنه له فيها، وحتى مكان الدفن كانت تعليماتهن صارمة حوله، فأحياناً كان قبر امرأة وأحياناً رجل أو حتى طفل، وأحياناً كن يطلبن قبراً حديثاً وفي مرات أخرى يلححن عليه أن يكون قبراً قد مضى على حفره فترة معينة تطول أو تقصر وفقاً لمشيئتهن..

في معظم الأحيان كان يكتفي بدفن ما يحضرنه على مسافة بسيطة من سطح القبر، لكن بعضهن كن يشترطن أن يكون الدفن قرب عظام الميت، بل أن تلك العجوز كانت تصر أن يدفن ما تعطيه له في جوف الميت، كانت أكثرهن دقة وأشدهن حرصاً على تنفيذه لتعليماتها بحذافيرها، وكانت الصرر التي تعطيها له ليدفنها أسوأ رائحة من كل ما يتلقاه من الباقيات فكانت مهمته هو ينزل القبر ليدفنها أشد صعوبة بسبب تلك الروائح المنفرة التي عليه تحملها.

دفعه الفضول مرة إلى فتح صرة كانت رائحتها لا تطاق فوجد فيها خرقة قذرة لفت حول بضع شعرات ودبابيس شعر وورقة كتبت عليها طلاسم مبهمة غرزت كلها في قطعة من القطن ملوثة بدم قديم متعفن، أحس بالاشمئزاز والنفور من تلك الشمطاء القذرة، وخاصة بعد أن أعطته في إحدى المرات صرة وقعت من يده فوجد فيها جمجمة كلبي حشرت في تجويف عينيه أوراق ملوثة وتحمل طلاسم أخرى غريبة، وقد ظهرت فضلاته الجافة من بين أنيابه المطبقة.

عرف فيما بعد من العجوز أن العمل الأول كان هدفه أن لا تلد السيدة التي تم عمل السحر لها إلا أطفالاً مصابين بلوثة في عقولهم، أما الذي استخدمت فيه جمجمة الكلب فقد أخبرته أن إحدى زبوناتها كانت تغار من جمال فم صديقتها ورصانتها في الحديث! التي كانت تشد الرجال لها، فطلبت من العجوز أن تجعل فمها مقززاً لكل من يراها كفم الكلب، بعدها توقف عن السؤال عن ماهية الصرر التي يكلف بدفنها فلم يعد يرغب بمعرفة الجواب.

ورغم بغضه للعجوز فقد ظل ملتزماً بتنفيذ طلباتها بدقة لفترة طويلة من الوقت، وإن وخزه شعور ضئيل بالذنب دام للحظات، معدودة فقط عندما وضع الصرة التي أعطتها له بين عظام تلك السيدة المسكينة التي مزقت المجنونة التي أحضرتها معها تلك الليلة جثتها.

لكن تلك الجرذة العجوز. كانت تزداد غلظة في معاملتها له مع الأيام فقد كان يغيظها أن تقتسم أجرتها معه، وأصبح يضيق بنعيقها المبحوح كلما فشل أحد أعمالها وأخذت تلومه متهمة إياه بأنه لا بد قد أخفق في تنفيذ ما طلبته ولم يلتزم بتعليماتها.

والأسوأ أنها أصبحت تزداد بخلاً وتتشدد في مساومته على نصيبه يوماً بعد يوم، بينما كانت الساحرات الأخريات يدفعن له ما يطلب دون مساومة وينبسطن معه بالحديث ويمازحنه ويحضرن له الهدايا، حتى أن إحداهن عرضت عليه أن تحضر له فتاة هوى ليتسلى معها وهي تضحك قائلة إن إحدى زبوناتها الدائمات تفضل تقديم خدماتها المجانية بدلاً من إنفاق المال، ولسخاء تلك الساحرة ولطفها معه لم يستطع أن يغضب منها عندما تهربت بدلال لما لمح لها أنه يريدها هي فقد كانت شابة وجميلة.

كانت العجوز تعايره دوماً بأنها من أحضرت له الزبائن وبدفعها لفاتورة هاتفة فقد كان لا زال خائفاً من الابتعاد عن المقبرة، حتى هداه تفكيره يوماً أن يطلب من ساحرة أخرى هاتفاً جديداً سجلته باسمها ووافقت بسرور أن تلتزم بكل فواتيره شرط أن يبقى وفياً لها، وكانت فرحته لا توصف عندما قبلت إحداهن أن تتولى إرسال الأموال الكثيرة التي جمعها إلى أهله حتى لا يشك الحارس بأمره.

وتدريجياً بدأ يتهرب من العجوز ويتجاهل اتصالاتها فلم يعد بحاجة إليها ولم يعد مضطراً لتحمل نقيقها المزعج ومشاجراتها الدائمة معه، وعندما يئست من المحاولات الهاتفية تجرأت مرة ودخلت إلى المقبرة لتحاول الحديث إليه فغافلها واستدعى الحارس وأخبره أنه رآها تدس شيئاً في أحد القبور.

لم ير الحارس يوما غاضباً هكذا وكان يضحك خفية سعيداً بارتباك العجوز وتلعثمها وهي تقسم أنها لم تفعل شيئا، ومد لها لسانه هازئا من خلف ظهر الحارس عندما وجهت له نظرات نارية وهي تخرج، فقد كان يعلم بأنها لن تتجرأ أن تفعل شيئاً.

كان قد نسى الساحرة بعد عدة أيام وكان ينام بعمق في إحدى الليالي أفزعه صوت مواء قطة عند نافذة غرفته، كان الصوت مرعباً وبدا كأنه يتحدث إليه ويهدده ويتوعده، خرج ليستطلع الأمر فوجد قطة سوداء تلمع عيناها في الظلام وقد تقوس ظهرها وأشهرت مخالبها وكشرت عن أنيابها وهي تحدق به وتزمجر بتهديد، توقف قلبه للحظة من الخوف وعاد مسرعاً إلى غرفته وأقفل الباب بالمفتاح، فقد أنساه الفزع أن القطط لا تفتح الأبواب، استمر يسمع صوتها وهو ملتف بالأغطية حتى رحلت أخيراً..

غضب من نفسه لجبنه، لكنه لم يستطع تمالك نفسه فقد كان رغم تبلد مشاعره وقسوة قلبه يخاف من القطط وخاصة السوداء منها، وأصبحت تلك القطة تقلق منامه كل ليلة وهو لا يدري ماذا يفعل، وفي يوم سألته الساحرة الشابة عن سبب التعب الظاهر علي وجهه فأخبرها، فجأة تغير ملامحها، وبعد إلحاحه الشديد أخبرته بأن العجوز قد أقسمت على الانتقام منه وأنه من المرجح القطة خادمتها، فلكل منهن خدم من هذه المخلوقات تسخره لأغراضها.

اشتعل الغضب في نفسه وكان صدره يغلي طوال ذلك النهار، وأنجز عمله بسرعة فمنذ أن احتلت تلك القطة لياليه أصبح مضطراً أن ينتهي من حفر القبور نهاراً. وفي تلك الليلة لم ينم فقد كانت زمجرتها المفزعة تزيد من لهيب غضبه الذي طغى على خوفه، وأحس باحتقار شديد لنفسه، لماذا يستمر في الاختباء في غرفته؟ إنه رجل قوي ومفتول العضلات ويمكنه أن يقتل تلك القطة بركلة واحدة إلى بطنها المنتن..

وما أحنقه أكثر أن جبنه جعل تلك الساحرة تنتصر عليه، فقد تأخر كثيراً في تنفيذ طلبات باقي الساحرات لخوفه من الخروج ليلاً، وأصبحت رائحة أعمالهن التي تراكمت في غرفته تزكم انفه، وإذا استمر بتصرفاته الرعديدة فسيخسر باقي زبوناته ويعود إلى الفقر وتسول فتات أموال أهل الموتى..

استجمع شجاعته في الليلة التالية وقذف تلك القطة بحجر، لكن ارتجافه يده جعلته يخطئ الهدف! فتضاعفت وتيرة ذلك المواء المرعب، وفي الليلة التي تلتها تقدم أكثر من التغلب على خوفه فقد نجح في إصابتها، وأسعده تحول زمجرتها إلى أنين متوجع.

وفي ليلة أخرى وقف عند باب غرفته لعدة لحظات وهو يبادلها التحديق، محاولاً أن يخفي خوفه ويهدأ من سرعة ضربات قلبه الذي أحس كأنه يكاد يخرج من حلقه لشدة فزعه، وبعد عدة ليال نجح في التقدم باتجاهها لمدة خطوات، وفرح عندما رآها تتراجع خائفة..

وفي الليلة الأخيرة كان خوفه قد أصبح من الماضي ونجح جشعة أخيراً في التغلب على جبنه، توصل إلى خطة للتخلص من تلك القطة فأخفى في غرفته أحد الأكياس القماشية التي يوضع فيها الموتى القادمون من المشرحة. انتظر قدوم الليل بفارغ الصبر وما كاد يسمع مواء القطة حتى فتح الباب وقذف الكيس فوقها، وقبل أن تتمكن من الإفلات كان قد شد الخيط وربط فتحة الكيس وحبسها فيه..

تحول مواؤها الغاضب إلى موسيقى في أذنيه وأخذ يقهقه بسعادة وهو يضرب جسدها الأسير بالحائط ويركلها بحذائه، وعندما اكتفى من ضربها اتجه إلى حائط المقبرة الذي تتجمع خلفه الكلاب الضالة، وصعد الحائط وهو لا زال يضحك، ثم دلى طرف الكيس خارجاً وفتحه لتقع القطة المفزوعة بين أقدام الكلاب..

كانت الثانية التي تلتها لا تقدر بثمن، فقد هجمت الكلاب الجائعة على القطة التي شلها الخوف وقطعت جسدها بأنيابها ومخالبها، ابتلع صوت زمجرة الكلاب ونباحها المتصاعد مواء القطة المتألم، ولم تمض بضعة دقائق حتى تناثرت أشلاؤها، لم يتوقف عن الضحك وهو يستمتع بكل لحظة من ذلك المشهد البهيج وعندما رأى رأسها المقطوع بين فكي أكبر الكلاب حجماً الذي فاز به كان قد اكتفي أخيرا وقفز ثانية إلى داخل المقبرة..

كان سعيداً لدرجة انه لم يكترث حين رأى الحارس يجري مسرعا باتجاهه، فقد كان يتوقع أن توقظه تلك الضجة غير المعتادة، وأخبره ضاحكاً أن الكلاب قد تمكنت من الإمساك بقطة ومزقتها بين أنيابها، أطل الحارس على ذلك المشهد الدامي وقد انقبض قلبه، وعاد بعدها إلى غرفته وهو مستغرق في التفكير..

لم يكن يفهم كيف يستطيع الحفار أن يضحك لمنظر كهذا ومن أين جاءت القسوة إلى قلبه، لقد كان منكسراً ومغلوباً على أمره عندما جاء من بلاده منذ عدة سنوات، كان ذليلاً ولا يرفع عينيه في عيني أحد وكان منطوياً على نفسه وتنهمر دموعه كلما نهره أحد، وها هو الآن قد أصبح جريئاً وأخذت الكبرياء تطل من عينيه، وتوقف عن التسلل متذللاً بين أهل الموتى والمعزين كأنه قد أصبح بغنى عن صدقاتهم، لكن كيف وهو لا يغادر المقبرة إلا إلى المسجد؟ لم يعد حتى يرسل المال لأهله إذ يبدو أن قلبه قد قسا عليهم..

ماذا يفعل؟ هل يواجهه ويسأله؟ لكن ماذا يقول؟ فالحفار لم يهمل يوماً في عمله رغم التغييرات التي طرأت على شخصيته، بل انه أصبح يجتهد ويبدو كأنه يصل الليل بالنهار لينجز عمله بكل كفاءة، والاهم انه قد توقف عن محاولة مصادقته وانتحال الأعذار لمحادثته ومحاولة انتزاع الكلام من فمه الذي اعتاد الصمت لسنوات.

عند هذا الحد انتهى تفكير الحارس إلى ترك الحفار في حاله والاكتفاء بالاستمتاع بنعمة الوحدة التي يعشقها، والتي لم تعد محاولات الحفار اليائسة لمصادقته تعكر صفوها.

تكرر حضور القطط السوداء إلى المقبرة ومحاولة إفزاعه عدة مرات، لكنه كان قد تغلب على خوفه القديم منها، وأخذ يستمتع بضربها وتعذيبها كلما تمكن من الإمساك بإحداها، وأحياناً لم يكن يتوقف حتى ترهق روحها بين يديه، وبعد فترة توقف حضور القطط وعاد الهدوء يسود المقبرة ليلاً.

وكان ينتظر بفارغ الصبر موت تلك العجوز ووقوعها بين يديه حتى يمزق جسدها القذر بيديه المجردتين وينتزع عينيها الفأريتين من رأسها ويلقمها إياهما، ثم يقتطع لسانها النجس الذي آذته به ويحشره من جديد في فمها القبيح ويجعلها تبتلعه.

لكن آماله خابت عندما أخبرته إحدى صديقاته الساحرات أن العجوز قد عادت إلى بلدها، لقد أفلتت من يده لكن لا بأس فلا زال بإمكانه تنفيس غله في جسد أي قطة تتجرأ على دخول المقبرة ما دام هناك احتمال ولو ضعيف أن تكون العجوز هي من أرسلتها.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا