غرام مجهول
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henr
بدا أول النجوم بزوغاً باهتاً واهناً وهو يرقب الكون تحته من عل فيما شمخت جبال الألب معانقة عنان السماء وقد تدثرت قممها بثلوج كثيفة، واتشحت سفوحها بسمرة تزداد كلما دنت من الأرض.
وشرع شاب قوي الجسم، واثق الخطوة، يصعد الطريق مرتدياً زي صياد ظباء ... وبدا محياه الوسيم وقد لوحّته الشمس بسمرة محببة. كان رشيق الخطوات ينطق ناظراه بالصراحة والصدق وسلامة الطوية، وكان يدندن بمقاطع من أغنية صيدٍ بافارية، فيما كانت يده تطبق على زهرة برية بيضاء اقتطفها من حافة الوادي، وفجأة تسمّر في مكانه وماتت على شفتيه حروف الأغنية حينما عبرت الطريق أمامه فتاة في زي فلاحة سويسرية. كانت تحمل دلو ماء صغير ملأته من النبع القريب لتوها. كان شعرها الكثيف منسكباً على كتفيها كشلال تبر أنساب في دعةٍ حتى عبر خط خصرها الرقيق، ولمعت عيناها ببريق الشفق المتغلغل في قنوات السماء، فيما تسللت من بين شفتها نصف المفتوحتين ابتسامة كشفت عن أسنان ناصعة البياض، وكأنما جذبتها قوى غامضة، تسمّر كل منهما في مكانه لا يحيد عن الآخر بنظره، على أن الصياد تقدم بشجاعة منها قبل أن يلمس في رقة ريش قبعته وينحني لها احتراماً محيياً إياها ببضع كلمات ألمانية، وردت الفاتنة تحتيه بصوت أرعش خجل نبراته، على أن باباً فتح لكوخ بين الأشجار لم يكن من قبل واضحاً للعيان، وارتفعت على إثره أصوات شتى اصطبغ في أعقابها خدا الفتاة بحمرة قانية، وخطت عائدة من حيث أتت .. لكنها التفتت إليه فجأةً فرمقته بنظرة طويلة ثابتة كأنما لتختزن صورته في فؤادها العمر كله، فتحتضنه داخل أجفانها، وشعرت وهي ترنو إليه بأنها تعرفه منذ أمد بعيد بعيد .. وتقدم منها بضع خطوات ثم اشار إليها بيده في توسل أن لا ترحلي، إلا أنها نظرت بوجد إليه ثم أخرجت من صدرها بضع زهرات (جنتيانا) الزرقاء فرمت بها إليه، والتقطها بخفة قبل أن تقع ثم تقدم بدوره صوبها ووضع في يدها زهراته البرية فدستها بسرعة في صدر فستانها قريباً من قلبها، وعدت عائدةً كظبي رشيق ... إلى مصدر الأصوات المختلطة. وظل الصياد في مكانه ... لا يبرحه لوهلة، ثم شرع في استئناف سيره صاعداً النهر ببطء أكثر، وبدا كمن فَقَد عزيزاً، فماتت على شفتيه أهازيج أعنيته النشوى آنفاً. المفعمة بأريج السعادة والمرح وخلو البال، وكان وهو يسير يضغط بأزاهيرها على شفتيه بين الفنية والأخرى
* * *
أُعدت العدة لزواج القرن ... وكان كل ساكن يحلم بأن تصله بطاقة دعوة لحضوره .. كان العريس ينتمي إلى إحدى أكثر العائلات وجاهة ... آل (فان وينكلر) ويتسنم منصباً مرموقاً، وأما العروس فساحرة الحسن مكتملة الجمال ... وبمهر بلغ خمسة ملايين دولار! وكانت ترتيبات الزواج قد جرت فيما يشبه الصفقة التجارية، ما كان للعاطفة والحب أي دور فيها مقايضةٌ محضة! وطلب سريع رضيت به دون جم اكتراث
وتذكرت كيف التقت عائلتاهما قبل عام في أحد منتجعات سويسرا ... وبالأحرى كيف تم الاندماج بين عائلة آل (فان وينكر) وثروة آل (فانس), كان مقرراً أن تقام مراسم الزواج بعد العصر
وأمر العريس (بيلام قان وينكلر) بأن توقد نار في مدفأته العتيقة رغم الدفء الغامر، وما إن تم له ذلك حتى جلس على حافة منضدة الكتابة وشرع يلقي في النار بخطابات قديمة لف بعضها بأشرطة وردية، وكان يبتسم هازئاً من آن لآخر وهو يشاهد ألسنة اللهب تزدرد ما تبقى من حواف إلى خطاب، أو يلمح وردة قديمة جافة بين طيات الرسائل، وقد يجد قفازاً معطراً أو خصلة شعر مذعورة. أما آخر ما قدمه للنار المتأججة أمامه فكان ضمة جافة من زهرات (جنتيانا) الزرقاء، وتنهد (فان وينكلر) وزايلت الابتسامة محياه، ومر شريط الذكريات بباله فتذكر كيف كان العام المنصرم في ثلة من صحبه ... والشفق يطرز منحدرات جبال الألب ... كانوا في قمة السعادة والنشوة ... لاهين عابثين غير عابئين بشيء ... وكان يرتدي زي صياد ظباء ... ثم أطلت من خياله كالغيث في مهامه، البيداء العطشى صورة تلك الصبية الفلاحة بعينين جذبتاه فسمرتاه، وسحرتاه فأطارتا عنه لذيذ النوم ردحاً من زمن ... كيف رنت إليه قم رمت له بباقة من زهر (الجنتيانا) الزرقاء، لو أنه لم يكن ينتمي لآل (وينكلر) بكل ما يحمله هذا اللقب من تبعات - قال لنفسه - لتبعها وخطبها لنفسه فتزوجها، إذ إن طيفها لم يفارق ناظريه وفؤاده مذ رآها تلك الليلة الشفقية إلا أن قيود العائلة والمجتمع قد حرّمت عليه الزواج منها وبينهما ذلك الفرق الشاسع ... على أن زواجه سيتم بعد العصر - ذكّر نفسه - من ابنة تاجر الحديد المليونير. وألقى (بيلام فان وينكلر) بباقة الزهرات الزرقاء في النار ثم دق الجرس مستدعياً خادمه الخاص. هربت العروس آنسة (أوغوستا فانس) من جمهرة قريباتها بعد أن سئمت ضجيجهن وصراخهن المزعج فاحتمت بمخدعها الهادئ ولم تكن لديها رسائل تحرقها أو ماضٍ تدفنه، فأما والدتها أم العروسة فكانت في أوج سعادتها إذ إن ملايين العائلة قد بوأتهم مكان الصدارة باقترانهم بعائلة آل (وينكلر)
كانت مراسم حفل زواجها من (بيلام وينكلر) ستقام بعد عصر ذلك اليوم، وغابت في لجة من أحلام اليقظة فتذكرت رحلة قامت بها مع عائلتها قبل عام إلى أوربا، ثم توقف تفكيرها عند جزء من تلك الرحلة الماتعة حين أمضوا أسبوعاً في كوخ متسلق جبال سويسري على أعتاب جبال (الألب) ... واسترجعت بسعادة يشوبها الحزن ذلك الحلم حين عبأت جردلها من نبع قريب وكرّت راجعة، وكانت يومها ترتدي - على سبيل الدعابة - زي فلاحة استعارته من ابنة صاحب الكوخ، وعكست لها مرآة خيالها صورتها ذلك اليوم وكيف بدت ساحرة الجمال فيه وقد انساب شعرها شلال تبر غطى كتفيها وتجاوز خصرها الرقيق، كيف صادفت في طريقها إبان قفولها عائدة شاباً قوياً وشته سمرة جذابة، كان يرتدي زي صياد ظباء ... كيف التقت عيناهما فتسمرت نظرات كل منهما على الآخر، ثم لاحت من ذاكرتها التفاتة إلى باب كوخهم الذي فتح فجأة فتعالت منه أصوات شتى تناديها، ولم تستطع تجاهل ذلك، فخفت راجعة إلى مصدر الصوت بعد أن قطعت باقةً من أزهار (الجنتياتا) الزرقاء كانت معلقةً على صدرها فرمت بها إليه، وسارع هو بالتقاطها قبل أن تلامس الأرض، ثم دس بدوره في يدها زهرة برية كان قد اقتطفها من حافة الوادي. من يومها - اعترفت لنفسها - ما برحت صورته خيالها، لقد شاء الله أن يلتقيا بذات الزمان والمكان على أنها وهي الثرية ذات المهر الذي بلغ خمسة ملايين دولار ما كانت لترتكب حماقة بزواجها من أحد صيادي جبال الألب العاديين
ونهضت الآنسة (فنس) ففتحت علبة مجوهرات ذهبية كانت فوق منضدة العطور، وأخرجت منها زهرة برية جافة سحقتها بين أصابعها حتى استحالت فتاتاً، ثم دقت الجرس مستدعيةً خادمتها فيما كان ناقوس الزواج يدق مؤذناً ببدء مراسم حفل الزفاف المنتظر
* * *
رسُول
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henr
لم يكن الموسم أو الساعة بالذي اعتاد المنتزه استقبال زبائنه فيه! من المحتمل إذاً أن تكون تلك السيدة التي اتخذت لها مقعداً بمحاذاة أحد الممرات قد خضعت لنزوة عابرة تستشرف من خلالها أطياف الربيع الآتي وغلالات حزن شفيف تلقي بظلالها عليها
وظلت قابعة لا تبرح مقعدها ... كانت قتامة ذلك الأسى الدفين الذي صبغ محياها حديثه عهد، إذ إنها ما غيّرت من جمال ملامحها ورونق بشرتها الفتيّة وذلك التقوس العنيد الذي يحدد شفتيها
واقتربت منها خطوات شاب اخترق الممر المرصوف المؤدي إليها. كان فارع الطوب يتبعه صبي يحمل حقيبته، وحالما وقع نظر الشاب على المرأة اصطبغ وجهه بلون الأرجوان، ثم ... عاد إلى شحوبه ثانية ... وكان وهو يحث الخطى إليها ينعم النظر إلى وجهها ومزيج من الألم والأمل والقلق يعتمل في فؤاده كبركان يوشك أن يقذف حممه ... كانت ياردات قليلة تفصله عنها، على أنه ما قرأ في ملامحها ما ينبئ بأنها قد أحست بمجيئة
وجلس هو الآخر على كرسي تفصله عنها خمسون ياردة ... فجأة. أما فتاه فأسقط الحقيبة وشرع يحدق في سيدة بعينين لماحتين ... تطل الدهشة من أهدابهما! وأخرج الشاب منديلاً مسح به جبينه الوسيم ... كان المنديل أنيقاً وصاحبه كان بهي الطلعة وسيماً لا تمل العين مرآه، وقال لفتاه:
- أريدك أن تحمل رسالة لتلك الشابة التي تجلس هناك، قل لها: إني في طريقي إلى المحطة كيما أغادر إلى (سان فرانسيسكو) حيث أنضم إلى بعثة صيد متجهة إلى (ألاسكا) ... وقل لها بأني قد حرّمت عليَّ التحدث أو الكتابة إليها ما وجدت وسيلة غير هذه استشير بها ما عرف عنها من عدل وإنصاف عطفاً على ما ربط بين قلبينا من وشائج سامية في رغد الماضي وسلسبيل زلاله الذي طالما أترعنا به أقداحنا ما سمحت لنا الأيام، قل لها ... قل لها يا فتى بأن اتهام إنسان ونبذه دون إعطاء سبب لذلك أو سماع حجته هو أمر مناقض تماماً لطبيعتها التي ما تطرف إليَّ يوماً شك في كمالها ونبلها، قل لها إني قد أُرغمت على إيصال كل ذلك أملاً في إحقاق الحق ... هيا وانقل لها ذلك
ووضع الشاب في يد الفتى قطعة نقدية من فئة النصف دولار، فنظر الصبي إليه نظرة ماكرة شعت بين ثنايا وجه ذكي متّسخ، ثم انطلق يعدو. ودنا من الشابة يعثر الوجل والشك خطوه، على أن الإحراج كان عنه بمنأى. ولمس قبعة امتطاء الدراجات التي يرتديها، فرمت الشابة إليه بنظرة خالية من أي معنى
- سيدتي! - قال لها الفتى - ذلك الفتى الجالس على الكرسي الآخر حمّلني رسالة إليك! إن لم تكوني تعرفيه وكان ذلك تطفلاً من جانبه فما عليك سوى إخباري، ولسوف أستدعي الشرطة في غضون دقائق ثلاث، أما إذا كنت تعرفينه فسوف أفضي إليك بالرسالة التي حملني إياها
- رسالة؟ قالت الفتاة بصوت عذب رخيم غلّفته رنة سخرية - وتابعت: سطر جديد في ملحمة الفرسان، لا شك لقد كنت على صلة بذاك الذي بعثك وبذا تنتفي الحاجة إلى استدعاء الشرطة ... أفصح عما بعثك به وحاذر أن ترفع صوتك خشية أن تلفت الانتباه إذ ليس في المنتزه سوانا
- أوه! - قال الفتى هازاً منكبيه - تعلمين سيدتي ما أرمي إليه، طلب مني أن أخبرك بأنه يزمع التوجه إلى (سان فرانسيسكو) لينضم إلى بعثة صيد تغادر إلى (الأسكا) - ويقول بأنك قد أمرته بألا يبعث إليك بخطابات وردية، وألا يدنو من سور حديقتك ... وبأنه قد أضطر إلى هذه الوسيلة - بإرسالي إليك - سعياً وراء نيل عدلك ومرضاتك ... بأنك قد أدنته دون إبداء سبب لذلك ... بأنك قد ألقيته في اليم مكتوفاً وحذرته من الابتلال بالماء.
وأذكى ذلك الأسلوب شيئاً من الاهتمام الذي شع كوميض الأمل في عينيها، وطفقت تنظر إلى أعلى نصب تذكاري احتل إحدى زوايا المنتزه ثم قالت:
- قل لسيدك الجالس هناك بأنه لا حاجة لي بأن أعيد على مسامعه سرد المثل والمبادئ والأخلاقيات التي أؤمن بها، فهو على علم بذلك، ولم يتغير شيء في هذا السياق ... على أن ما يعنيني في قضيتنا هذه جملة وتفصيلاً هو مبدأ الإخلاص والصدق ... قل له بأني قد درست قلبي، بأني قد سبرت غوره فألممت بنقاط القوة و... الضعف فيه، وذلك ما دعاني إلى عدم الاستماع إلى رد سيدك في هذا السياق، سواء أكان ذلك كتابةً أو مشافهةً ... أنى كانت طبيعة ذلك الرد التبريري ... إنني أم أُدنِه استناداً إلى كلام سمعته عنه أو شك حام حوله؛ ولذا لم أوجه له أصابع الاتهام جهاراً فهو أدرى منى بما اقترفت يداه ... على أنه إذا كان مصراً على سماع طبيعة ما ارتكب - رغم علمه به - فسوف أسمح لك بنقله إلى أسماعه
قل له بأني قد دخلت البيت الزجاجي من الخلف لتلك الليلة كيما أقطف وردة لأمي، فوقعت عيناي على مشهد غريب! ... رأيت سيدك والآنسة (آشبورين) في وضع مريب جعلني أترك المكان ... والوردة ومُثلي وغاياتي طرّاً ... قل له ذلك
وطوى الغلام الأرض طياً، حاملاً الرسالة إلى مولاه حتى حاذاه، فرمقه الأخير بنظرات شوق وترقب وفضول. وشعت عينا الفتى بفخر مَنْ أثبت كفاءةً في أداء ما أنيط به.
- قالت الفتاة بأنها قد ضبطتك متلبساً بالجرم المشهود ممسكاً بإحداهن في المُستنبت الزجاجي ... بأنك قد صدمتها ... وإن عليك الآن أن تسارع إلى وجهة سفرك
وندّ عن الشاب صفير خافت فيما لمعت عيناه بخاطر مفاجئ، وأدخل يده في الجيب الداخلي لمعطفه فأخرج منه مجموعة خطابات اختار منها واحداً سلمه إلى الفتى ونقده دولاراً كاملاً أخرجه من جيب (صديريته) وقال له:
- أعط السيدة هذا الخطاب وقل لها أن تقرأه ففيه تفسير يوضح ما التبس ... قل لها: إنها لو مزجت مبدأ المثالية الذي تؤمن به وتدعو إليه بشيء من الثقة لأمكن تجنب الكثير مما كدر الخواطر من معاناة وشك وألم ... أخبرها بأني لم أخن العهد ... بأن شعار الإخلاص والولاء الذي طالما رفعته علياً ما تغير أو تبدل، وبأني ... أنتظر ردها!
ومرة أخرى ... شخص الرسول أمام السيدة:
- يقول سيدي بأنك قد أخذته بجريرة لم يرتكبها، وتسرعت في الحكم عليه ... الك بما يثبت براءته لا شك! اقرئي هذا الخطاب
عزيزي الدكتور (أرنولد),َ
جمّ الشكر أزجيه لك على مبادرتك الإنسانية المتمثلة في إسعاف ابنتي إبان الضائقة الصحية الطارئة التي ألمّت بها مساء الجمعة الماضي حين فاجأتها تلك الأزمة القلبية بمشتل السيدة (والدرون) ... ولو أنك لم تكن هناك للإمساك بها حين انهارت، وتقديم المساعدة الطبية لها لربما كانت في عداد الأموات لا قدر الله
لسوف أكون مسروراً إن تفضلت بزيارتنا والإشراف على حالتها
المخلص"
(روبرت آشبورتن
وبرفق طوت الشابة الخطاب ثم أعادته إلى الغلام الذي قال:
- إن سيدي ينتظر الجواب! ما عساه يكون
وشعّت عيناها فجأة بريق ساحر ... أخّاذ ... نديّ
- قل للجالس هناك على المقعد الآخر - قالت ضاحكة مستبشرة - بأن فتاته لا تزال تريده زوجاً
.:؟ )،.. ! ! !. !... !!.yه .!..! . y
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا