امرأة بألف وجه نهى إبراهيم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-12-03

ذات الوشاح الرمادي 

اعتدلت الدكتورة ريهام بجلستها بشرفة منزل والدتها، بعد عودتها من الخارج وحصولها على الدكتوراه في الإرشاد النفسي، أحضرت والدتها كوب من الشاي الدافئ، تتصاعد منه الأبخرة؛ فهي تحبه حار جداً، أخذت والدتها تتحدث إليها عن أخبار القرية وأهلها، وعن زواج تلك وطلاق الأخرى، حتى كادت رأسها تضج من ذلك الهراء، فحاولت التهرب لثواني ألقت بصرها بعيداً على المارة أمامها، فالتقطت عدسات عينيها امرأة بعباءة سوداء واسعة، مرتدية حجاب مخالف اللون متلحفة بوشاح "شال" رمادي اللون، وكانت مجمعة طرفي الشال حول جسدها، لفتت نظرها تلك المرأة، وعندما رأت الأم انشغالها بتلك السيدة بدأت تقص حكايتها: آه أنت بتبصي على دي، دي سامية بنت الحاج ربيع. فسألتها ريهام: دي عندها كام سنة؟ شكلها مش كبير أوى. فقالت: عندها يجى أربعين سنة أو أكثر، بس يا حبيبتي غلبانة. فتفاعلت الدكتورة ريهام: ليه مالها يا أمي(، فردت وهي تجرك فمها بطريقة غريبة ومعها يديها الاثنين: غلبانة متجوزتش لحد دلوقتي. فقالت: عشان كده بتقولي غلبانة؟ فقالت لها: آه يا دكتورة آمال ايه، متجوزتش وعدت الأربعين، ده مش غلب يا حبيبتي! فقالت لها وقد اندمجت بموضوع النقاش: يعنى أنا لو متجوزتش ووصلت زيها، تقولوا عليَّ غلبانة وتتكلموا عليَّ كده؟! فقاطعتها والدتها قبل أن تكمل وهي عاقدة حاجبيها: بعيد الشر عنك يا دكتورة، أنت برضو ممكن يحصل لك كده! ده أنت الدكتورة ريهام القمر. فابتسمت ريهام لوالدتها ثم أكملت: بس ايه السبب إنها متجوزتش؟ مع أني شيفاها يعني لا بأس بها. فتعجبت والدتها: ايه يعنى ايه؟ فقالت وهي تضحك: يعني حلوة يا أمي مش وحشة ولا حاجة. فقالت لها: آه يا بنتي حلوة زي ما أنت شايفة، وكانت أجمل كمان، بس بترفض كتير، شكلها كده حد عملها حاجة. فقالت الدكتورة بدهشة: عملها حاجة ايه يعني؟ ايه قصدك؟ فردت والدتها: يعني عملها عمل. فأخذت ريهام تضحك بصوتٍ عالٍ حتى ضحكت والدتها على ضحكها، وانتهت تلك المناقشة على تلك الكلمات.

بصباح اليوم التالي استيقظت ريهام على أصوات الدجاج، الذي لم تعد معتادة على صوته على الرغم من تربيتها طوال سنين عمرها بذلك الريف الذي كانت تعشقه بكل تفاصيله، وبحلول وقت الظهيرة عادة للشرفة مجدداً وبدأت في احتساء كوب الشاب المفضل بالنسبة لها، حتى مرت تلك المرأة مجدداً وانصرفت سريعاً، فقامت ريهام من مقعدها باحثة عنها، ثم جلست محدثة نفسها: الست دي شداني بطريقة غريبة كده ليه؟ بس هي برضو لابسة نفس الشال الرمادي ده، وكل الحاجات دي لها مدلول نفسي، يا ترى عشان كده أنا مشدودة لها كحالة قدامي، وخصوصاً بعد اللي سمعته من أمي. قاطعت والدتها حوارها مع نفسها، ثم بدأت معها حوار جديد: عايزاني أعملك ايه على الغدا يا حبيبتي؟ فقالت لها: أي حاجة يا أمي من ايدك نعمة كنت السنين اللي فاتت هموت على أكلك وريحته. فقالت لها: عنيا ليكي يا روح قلبي. فمرت سيدة الوشاح فأسرعت الدكتورة محدث والدتها: الست اهه تاني. فقالت: آه ما هي بتعدي من هنا، بتشتري حاجات من المحل اللي جنبنا. فقالت لها: ومفيش حد يشتريها لها؟ فقالت لها: لا أمها وأبوها ماتوا، وأخوها الوحيد متجوز بس مسافر اليومين دول، هي اللي كان بيقضي لها طلباتها. فأكملت الدكتورة تساؤلاتها: بس غريبة الست دي دايما بالشال ده. فردت والدتها مبتسمة: آه يا بنتي فعلاً دايما مش بتغيره، مع إنهم مبسوطين وهي بتغير في العبايات، بس الشال عمري مشفتها من غيره. ثم سألتها ريهام: هي متعلمة دي؟ فقالت: أيوة متعلمة معاها كلية باين. فصمتت ريهام مكتفية بتلك المعلومات التي تحصلت عليها لتلك الحالة المختلفة التي جذبتها.

خرجت ريهام بالمساء لزيارة أحد أقاربها، وظلت تتفحص بالوجوه وكأنها ترى بشر لأول مرة، رجال بالجلباب وشباب على أكثر من شكل ولون، وسيدات بالعباءات السوداء والخمر الفضفاضة، طرقت أذنها كلمات أهل ريفها، فتلك الطريقة في الحوار كم تعطشت لسماعها، حتى اصطدمت عيناها فجأة بذات الوشاح الرمادي، وعندما أمعنت النظر وجدت صاحبته بشرفة أحد المنازل، وهي بحالة من الشرود، توقفت ريهام أمامها ناظرة متفحصة وجهها المستدير، عينيها الواسعتين، حتى فمها الصغير الرقيق، كم هي جميلة ذات الوشاح الرمادي، لكنها أيضاً متلحفة بنفس الوشاح، وكأنها تحتضن نفسها، طالت مدة شرود ريهام حتى انتبهت السيدة محدثة إياها: في حاجة يا آنسة؟ فانتبهت الدكتورة: ها، حضرتك بتكلميني أنا؟ فردت عليها بصوت جميل: أيوة كنتي عايزة حاجة مني؟ فقالت لها: لا، لا أبداً. واقتربت من الشرفة أكثر ثم أكملت: أنا بس لفت نظري جمال حضرتك، بجد أنت جميلة أوى. فابتسمت لها بعينها الساحرة: شكراً يا حبيبتي، فكرتك بجد بتشبهي عليا أو محتاجة حاجة؟ فردت ريهام باقتضاب: لا شكراً جزيلاً. ثم انصرفت وهي تحدث نفسها بجمال تلك السيدة، حتى ذلك الوشاح هو جميل أيضاً. وفي صباح اليوم التالي كانت الدكتورة بانتظار نفس السيدة، وبالفعل لمحتها عينها فنادتها من بعيد، وعندما رأتها سامية ابتسمت واقتربت نحوها وهنا دخلت والدتها فتحدثت: سامية ازيك يا حبيبتي؟ عاملة ايه؟ فردت: الحمد لله يا خالة، دي بنتك؟ فقالت لعا: آه بنتي الدكتورة ريهام. وهنا تدخلت ريهام: تعالي اقعدي معانا. فوافقت على الفور: وحضرتك دكتورة في ايه؟ فقالت لها: في الإرشاد النفسي. فقالت لها: إرشاد نفسي يعني ايه؟ فقالت لها: يعني لو حد عنده مشكلة أو محتاج مشورة نفسية بيجي عندنا نساعده، وبيخرج من أزمته بإذن الله، بس أنا هدرس في الجامعة إن شاء الله. وهنا تحولت معالم وجهها ثم اعتذرت، وقامت مسرعة محتضنة وشاحها، ولم تبال بأي نداء من الدكتورة، أحضرت ريهام أوراقها وقلمها، واعتبرتها حالة للدراسة، واستمرت بتدوين ملاحظتها حتى نادتها والدتها لتناول الطعام، وبالمساء كانت ريهام أمام بيتها، وعندما قرعت الباب فتحته على الفور، جلستا أمام بعضهما البعض واكتفيت كل منهما بالنظر للأخرى التي حملت كل منهما بها رسائل ورسائل: ممكن يوم من الأيام أكون كده زيها وحيدة من غير لا بيت ولا زوج؟ بينما تمتمت الأخرى: دكتورة بالجامعة فكرتيني. واستمر شرود كل منهما حتى بدأت الدكتورة: أنا جيت أشوفك لأنك مشيت فجأة آخر مرة. فردت وهي تنظر وعلى وجهها ترتسم نظرة الحرج: آه أنا آسفة بس. وتوقفت عن الحوار حتى بادرتها ريهام: بس ايه؟ فهمت بالانصراف مجدداً، فأمسكت ذراعها: أنا عايزة أقول لك حاجة يا سامية، أنا بجد اتشديت لك من أول يوم شفتك، بس حاسة جواكي كتير، فيا ريت تعتبريني صديقة تفضفضي معاها. فجلست سامية مجدداً وهي تصغى لكلمات ريهام الحانية: أنت وحيدة في الدنيا بس زي ما أمي قالت لي باختيارك. وحاولت أن ترسم الابتسامة على وجهها فأكملت: أنت عارفة أكثر حاجة شدتني ليكي الشال اللي أنت لبساه، وطريقة لبسك ليه، وفوجئت إنك كمان لبساه في البيت، تعرفي كل ده له تفسير. فوقفت سامية مكانها وعلامات الحزن على تقاسيمها: الزيارة انتهت يا دكتورة، كفاية لحد كده، أنا مش مريضة ولا حالة هتدرسيها كفاية كده. وشارت بيدها لكي تنصرف، وبالفعل شعرت ريهام بحرج كبير؛ فخرجت مسرعة لبيتها في حين جلست سامية تبكي بحرارة.

انفردت ريهام بحجرتها مؤكدة أن هناك سر وراء تلك الفتاة، وكلمة السر هي ذلك الوشاح الذي تتحلف به حتى بالبيت، حاولت ريهام إخراج حالة سامية من مخيلتها، خاصة بعدما قامت به معها، لكن الدكتورة بشخصيتها جلست تكتب مذكراتها عن تلك الفتاة من اليوم الأول، حتى خروجها من بيتها، واستطردت بتلك الدراسة ليومين، حتى فوجئت بسامية وهي تدخل عليها شرفتها معتذرة: أنا آسفة بجد عن اللي بدر مني أنت متستهليش غير كل خير، بس غصب عني. فردت ريهام: ليه غصب عنك؟ متخافيش واقعدي، اتكلمي براحتك. فقالت: لو هتكلم مش ينفع هنا تعالي البيت عندي وهتكلم بجد من قلبي. فوافقت ريهام على الفور، وبالمساء كانتا على موعد وبدأت سامية: تفتكري أول مرة يوم أما مشيت وسبتك أنت ومامتك؟ فقالت: آه. فأكملت: كنت بتقولي جامعة وتدريس، افتكرت لما كنت بالجامعة، ورحت مدينة بالقاهرة. فتابعت ريهام، آه ماشي كملي. فنظرت بارتباك ثم استفاضت: أنت الوحيدة اللي حاولت تتكلمي معايا، أنا فعلاً مخنوقة ومضايقة ووحيدة.؟ فردت: اه بس أنت اللي بترفضي. فابتسمت: آه برفض كل العرسان، أكمل لك كنت بالجامعة هناك، وكنت بدرس في كلية التربية، كان نفسي أوي أكون مدرسة، وكنت مرتبطة بشاب زميلي، كان جميل. وهنا وضعت يدها على وشاحها وظلت تحرك أصابعها برقة لاحظتها ريهام: كنا في سنة تالتة وفاضل سنة ونخلص، كان نفسه نتخطب في الكلية، بس أنا قلت له بعد ما نخلص نبقى نتفق، كانت الحياة وردية بالنسبة لي، وكان هو كل حاجة عندي، حبيب وصديق حتى أخر، لحد يوم. وهنا توقفت: كملي يا سامية. فأكملت بعين دامعة: كنت خرجت أجيب حاجة من برا المدينة، وكان الوقت يعنى بعد العشا كده، كان في طريق كبير وطويل فاصل بين المدينة والمحلات القريبة، وكان الطريق ده كله شجر، أنا كنت قايلة لزميلي ده أني هنزل، وفجأة وأنا ماشية اعترض طريقي واحد، متعرفيش شارب ولا ايه، مكانش طبيعي، حاولت أهرب منه معرفتش، لحد مكتفني، كنت بصرخ. وهنا قامت وظلت تتحرك وهي تتحدث: صرخت بصوت عالي، بس هو كتف لي ايدي، صوتي راح وأنا بستنجد بأي حد، لحد ما جه مصطفى ونزل ضرب فيه، فسابني وقام يضربه، مصطفى ضربه، وهنا علا صوتها: ضربه وقعه، فك ايدي وقال لي امشي، اجري بسرعة، قلت له أمشي ازاي واسيبك، مقدرش. كان الحيوان قايم وهو دايخ، مصطفى زقني بعيد فجريت شوية بعيد عنهم، ووقفت أستناه من بعيد، فضلوا يضربوا فبعض وفالاخر جاب غصن شجرة وضربه على رأس مصطفى، اتهبلت طبعاً، هو هرب رجعت جرى عليه لقيته سايح في دمه، بقيت أصرخ اسعاف اسعاف لكن كان انتهى، كان مصطفى منتهى.

أخذت تبكي بحرقة، ثم أكملت بعيون محمرة جريحة: عمري ما نسيته ولو للحظة ولا وافقت أتجوز عشان هو حب عمري. فردت ريهام: حاجة تحزن بجد، بس عدى فترة طويلة وكان ممكن. وهنا قاطعتها: الجواز ده مش تقضية واجب ولازم نعمله وخلاص، دا لازم يكون طالع من هنا. وأشارت على قلبها، وأتبعت: وقلبي اتقفل على مصطفى، صدقي يا دكتورة، في الحب ممكن تحبي ميت واحد ولا يفرق، بس ممكن تحبي مرة واحدة وتكون هي الفارقة وهي دي حكايتي. فقالت لها ريهام: فعلاً عندك حق، أنت إنسانة مخلصة فعلاً يا سامية. وهمت بالانصراف بعدما تقطع قلبها من كلمات سامية حتى قاربت باب المنزل فسألت: آه صحيح، بس الشال اللي أنت لبساه على طول؟ فردت وهي تحتضن الشال مجدداً: شال مصطفى غطانى بيه يوم الحادثة.

فودعتها ريهام مبتسمة، كم هي فتاة محبة ارتضت على نفسها الوحدة حتى لا تأنس سوى بحبه فقط.

وظلت تتساءل: ايه الحب ده؟ فعلاً غريب!

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا