حالة غريبة
A Strange Case
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry
عندما التقى أحد مراسلي جريدة (البوست) ذات ظهيرة صديقه - وكان طبيباً في مقتبل العمر من مدينة "هيوستن" - اقترح عليه أن يتوجها إلى مقهى قريب يتناولان فيه شيئاً من شراب الليمون عله يطفئ بعضاً من وهج الظمأ ولظى الصيف المتأجج، ووافق الطبيب فاتجها إلى هناك واتخذا لهما مكاناً في ركن هادئ قصي تتدلى فوقهما مروحة كهربائية، وبعد أن دفع الطبيب ثمن الشراء أدار المراسل دفة الحديث صوبّ طبيعة عمل صاحبه سائلاً إياه عما إذا كانت قد قابلته أثناء عمله حالات طبية غريبة.
- نعم بالطبع - رد الطبيب حالات كثيرة لا تتيح لي ضوابط المهنة إفشاءها ... على أن هناك حالات لا تتضمن سرية خاصة لكنها غاية في الغرابة ... كتلك التي مرت بي منذ أسابيع قليلة ... ودون ذكر أية أسماء سأوري لك ما حدث:
- بالتأكيد تفضل بذلك إن سمحت - قال المراسل ممّنياً النفس بوجبة صحفية دسمة تولمها الجريدة لقرائها - وتابع: وسوف نطلب إبّان ذلك مزيداً من شراب الليمون.
وبدت الجدية على ملامح الطبيب الشاب فيما يختص بذلك العرض على أنه وافق بعد أن بحث في جيبه فوجد ربع دولار.
- منذ أسبوع تقريباً كنت جالساً في مكتبي متطلعاً إلى مقدم أي مريض عندما طرق سمعي وقع أقدام رفعت على إثره نظري فوقع على شابّة جميلة، وخطت نحوي في أغرب طريقة يمكن لفاتنة أن تمشي بها!
كانت تترنح وتتعثر متمايلة يمنة ويسرة حتى تمكنت في النهاية وبعد جهد جهيد من الوصول إلى الكرسي الذي قدمته لها، وكان وجهها غاية في الجمال إلا أن خطوط الكآبة والأسى كانت مرتسمة عليه لما تزل.
- أيها الطبيب!
- قالت بصوت عذب رخيم يعكس ألماً ممضّاً دفيناً أرغب في استشارتك بخصوص حالتي الغريبة ولسوف أضطر إبان ذلك إلى إزعاجك بسرد تاريخ عائلتي الطويل الأليم المضرج بالمآسي الدامية.
- سيدتي قال الطبيب - كلي آذان صاغية ووقتي تحت تصرفك فهاتي فما لديك إذ إن كل معلومة ستفيدني بإذن الله في رسم التشخيص الملائم لحالتك.
وشكرتني بابتسامة مسحت لوهلة خطو الأسى المرتسمة على ملامحها:
- كان أبي أحد أفراد عائلة (آدامز) المنتمية إلى ولاية (تكساس) ... قد سمعت عن عائلتي لا ريب.
- قد يكون الأمر كذلك - أجبتها - على أن عائلات كثيرة تتسمى بلقب (آدامز) ولذا ...
وقاطعتني بإشارة من يديها - لا يهم - فاسمع حكايتي إذاً: منذ نصف قرن شب نزاع بين عائلة جدي ل (آدامز) وعائلة عريقة أخرى من (تكساس) كذلك تدعى (الردموند) ولو أن المعارك التي نشبت بين العائلتين وما جرى من سفك للدماء دوِّن لملأ مجلدات عدة، لقد أعاد ذاك النزاع قصة الوقائع الطاحنة التي جرت بين ولايتي وست فيرجينيا و(كيتاكي) ... ماضٍ لطخته حروب الانتقام والثأر والحقد الجارف - ولو أن أحد أفراد العائلتين التقى شخصاً من العائلة الأخرى لأطلق النار عليه للتو سواء أكان ذلك وغريمه يتناول وجبة في أحد المطاعم ... من وراء سور ... أو حتى في دار العبادة لا يهم ... أبعاد الزمان والمكان ثانوية، إما ظفر أحدهما بالآخر، ما كان للحقد المتأصل بين العائلتين حد ... تسميم آبار وإبادة مواش، وإذا ما التقى اثنان فإن واحداً منهما فقط سيغادر المكان! حتى الأطفال - أيها الطبيب - زرعوا الحقد والكراهية في قلوبهم، حتى إذا ما شبوا عن الطوق وآن الحصاد استشرت الضغينة والقتل والفساد ورفعت كل طائفة بيرق القتال!
وظلت الحال على ما هي عليه مدة ثلاثين عاماً، وأتى المسدس والبندقية على السواد الأعظم من أبناء القبيلتين حتى لم يتبق منهما - منذ عشرين عاماً - سوى شخصين!
فرد من كل قبيلة: (ليمول آدامز) و(لويزا ريدموند) كانا في ميعة الصبا وشرخ الشباب وربيع الحسن التقيا فأذكى الغرام ضرام الوجد في قلبيهما، ونسيا ما كان بين عائلتيهما من أحقاد، وتزوجا فأسدلا الستار بذلك على فصل لا يوصف من الكبرياء والخيلاء والأحقاد وسفك الدماء على أن ذلك كله ... ويا للأسى - سيدي - قد أصاب كبداً غضة بريئة. كنت أنا ثمرة ذلك الزواج إذ إن دماء القبيلتين المتنافرتين المتمثلة في أبي وأمي لم تمتزج في عروقي ... كنت طلة عادية ... لكن جمالي كان باهراً!
- واضح ذلك تمام الوضوح سيدتي - قاطعتها.
وتضرج خداها بحمرة الخجل وهناً على أنها تداركت نفسها وعادت لتقول: ما إن كبرت حتى اضطرمت في ذاتي نيران متأججة وحروب طاحنة واهتز لها كياني أيها الطبيب. كل خاطرة أو حركة أقوم بها تقابلها أخرى تعاكسها وتضادها تماماً! أنا على يقين أن ذلك كله هو نتيجة حتمية للعداء الموروث المنساب في عروقي في ذرات دمي المائج الذي ينتمي إلى قبيلة ؟) فيما ينتمي النصف الأخر مني إلى قبيلة (الردموند) وتخيل سيدي: لو أني هممت بإلقاء نظرة على شيء ما لاتجهت إحدى عيني صوب شيء آخر، ولو أني هممت برش قليل من الملح على البطاطا لتطوعت الأخرى برش شيء من السكر! وكلما امتدت يدي إلى البيانو لعزف إحدى روائع "بيتهوفن" ... سارعت اليد الأخرى بنقر ... إحدى المارشات العسكرية ما كانت الدماء المختلفة لتتمازج في أورتي، وكثيراً ما كنت ألج محلاً لبيع المثلجات فأطلب بوظة بنكهة الفانيليا فيما يهتز جسدي مناشداً إياي أن أختار نكهة الليمون، وعندما يحين المساء ويرخى الليل سدوله أعمد إلى ارتداء ملابس النوم فيما يؤرقني شعور مضاد ... مهيباً بي أن أرتدي ملابس الخروج وأعتمر حذائي! هل مرّت بك حالة غريبة كهذه أيها الطبيب؟
- مطلقاً - أجبتها - إنها بالفعل حالة فريدة من نوعها - ولكن ألم يتح لك التغلب على تلك الظاهرة المزعجة؟
- بلى سيدي - بعد كثير من المران الدؤوب الطويل. على أن مشكلتي الآن تتمثل في الناحية الحركية من الجسد فقط، إذ إن الجزء السفلي من جسدي لا يتطابق مع ذاته ... فلو أني همت بالمضي في اتجاه ما لأطاعتني إحدى الجهتين فيما حاولت الأخرى السير في الاتجاه المغاير وربما يعود السبب في ذلك إلى أن نصفي ينتمي إلى عائلة (الآدامز) فيما ينتمي الآخر إلى عائلة (الردموند) ... تلك سيدي هي مأساتي وقد انحصرت - بحمد الله - في كونها مشكلة حركية فقط على أني أجد التوافق الجسدي الكامل حينما أقود الدراجة، إذ إن الجهة اليمنى تكون مغايرة للأخرى ترتفع هذه فتنخفض تلك ... هل مررت سيدي الطبيب بحالة كهذه؟ لقد رأيت كيف كانت مشيتي وأنا أدخل عيادتك ... فهل من علاج ناجع؟
- إنها لمن غرائب الحالات حقاً، سأدرس وضعك وإذا ما أتيت لزيارتي في العاشرة غداً فسوف أصف لك بإذن الله علاجاً ما! ونهضت فأعنتها في مشيتها العجيبة- حتى أوصلتها عربتها الجاثمة أسفل العيادة.
وبقيت أقلب الفكر ذاك اليوم بكامله فيما عساي أقدمه لها من عون طبي وبقيت ساهراً ليلتي أستجلي الآراء واستشير المختصين فيما يسمى بالخلاع - ذاك الاختلال المعروف في الجهاز العصبي - الحركي وآفات العضلات فلم أحظ بما يبدد التساؤل، والعجب عن ولي أن أتمشى قليلاً سعياً وراء نسمة باردة تطرد الكلل والملل.
ومررت على متجر لصديق ألماني أحببت أن أستشيره في الأمر وكنت قد رأيت في حظيرته غزالين على شجار دائم فسألته عنها وأفادني بأنه لم يتمكن من زرع الألفة فيما بينهما؛ ولذا فقد أفرد لكل منهما مكاناً مستقلاً عن الآخر وبذا أنهى حالة تناطحهما المستمر، وخطرت لي فجأة فكرة لمعت في خاطري لمعان البرق في عاصفة صيف مطيرة. في العاشرة من صبيحة اليوم التالي كانت الشابة في مكتبي ومددت لها الوصفة الطبية، ولما قرأتها بدت سحب الكدر على محيايها فلم ألمها!
- جربيه سيدتي!
ووافقت على ذلك، وبالأمس فقط رأيتها تخطر في الشارع المقابل كأحلى الغواني ... مشيتها كانت رشيقة مستقيمةُ لا يتخللها عوج أو التواء.
- ترى ما الذي حوته الوصفة؟ سأله المراسل.
- طلبت منها فقط أن ترتدي الزي المعروف بالبلمر - إنه زي مكون من تنورة قصيرة وبنطال فضفاض طويل تلبسه النساء عند الرياضة، أجابه الطبيب الشاب - أفهمت؟ قمنا بعزل الأعضاء المتنافرة التي ينتمى كل منها إلى عائلة مختلفة وبذا قضينا على أصل الخلاف، فشفيت المريضة - ولله الحمد - ولكن مهلاً ... شارفت الساعة على السابعة والنصف أنا على موعد معها في الثامنة تماماً ... لقد ... وافقت على أن تحمل اسمي أقصد ... أننا سنتزوج قريباً على أن هذا الخبر ليس للنشر أتسمع؟
- طبعاً ... طبعاً - قال المراسل - ولكن ما رأيك في مزيد من شراب الليمون ...؟
وقاطعه الطبيب الشاب بعد إذ هبّ واقفاً: كلا ... كلا شكراً.
عليَّ أن أذهب الآن سأراك بعد عدة أيام.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا