12)
خالد
سقى الحوراني خالد من كوب الشهامة ولقنه العدل، أخبره أن ابتغاء مرضاة الله هو هدفهم في هذه الحياة، هم ليسوا بلطجية كما يقولون عليهم هم أقوياء ويستخدمون قوتهم في تحقيق العدل ورد المظالم، فهم خالد ما يحدث وفهم كيف يتصرف، كان ذكياً واستطاع أن يكسب ثقة السيد الحواني وأن يجعله يثق فيه ثقة عمياء، استطاع في شهور معدودة أن يكون صبياً ناجحًا، كان يستشعر اللذة حين يضرب أحدهم أو يكسر عظام آخر، لم يفهم أبداً معنى أن يكون بين يديك ثروة طائلة وتلقيها لشخص آخر بحجة أنها حقه، قانون خالد لا يحمل هذه المادة بينما هي المادة الأولى في دستور الحوراني، خالد جشع يُجب النقود والمال، يستلذ بالقوة والسلطة، الحوراني أيضاً كان ذكياً وفهم الأمر، حاول كبح جماح صبيه قدر الإمكان وبالفعل سيطر عليه تماماً إلا من خلافات بسيطة كانت تنشأ بينهما، أغلبها بخصوص حقوق يستردها خالد ولا يردها لأصحابها كاملة، أو يرد جزء قليلاً منها، يدافع عن نفسه قائلاً بوقاحة يُحسد عليها: "نحن من استرددناها ودوننا لم يكونوا سيستردونها مرة أخرى".
وكان السيد يربت عليه ويمسح على صدره بيده وهو يقول بهدوء: "يا خالد الحق حق، الله لا يقبل الفصال في الحق، أعط كل ذي حق حقه أو اتركني وارحل"
حين يصل النقاش لهذه المرحلة يعرف خالد أن معلمه فاض به الكيل فيقف سريعاً بين يديه خانعاً وهو يقبل رأسه مُرددًا: "لا سمح الله أن أتركك".
لكن لأن سنة الحياة هي التغيير، ولأن دوام الحال من المحال، بدأت الأمور تتغيّر في يوم ما...
بدأ الأمر بحافلة شعبية يقودها خميس الجحش سائق الميكروباص الشاب، خميس أحد سكان الحارة ومعروف بحسن الخلق والدماثة ولكن منذ صغره صاحبه لقب الجحش لأن مستوى ذكائه متدني قليلاً.. حسنًا لنكون صرحاء متدني للغاية، كان خميس يقود سيارته كعادته كل يوم، يتحدث مع الزبون الراكب بجواره وهو يحتسي كوباً من الشاي ويدخن سيجارته الكليوباترا الأثيرة، طالب الركاب بجمع نقودهم سوياً، أمام عينيه كانت سيارة حمراء من طراز حديث تمشي برعونة غير مكترثة بآداب الطريق، نظر لها خميس لوهلة قبل أن يقول للراكب بجواره: "أراهنك أنها امرأة"
ابتسم الراكب ولم يرد، ظهرت علامات الدهشة على ملامح خميس القبيحة وهو يقول: "أنت لا تصدقني.. حسناً سأثبت لك حالا".
وبينما تتحاشى باقي السيارات تلك السيارة الحمراء وتبتعد عنها زاد خميس من سرعته وهو يرشف من كوب الشاي ويضعه أمامه على (تابلوه) السيارة بمهارة يُحسد عليها، اقترب منها بما يكفي وتقريبا كان محاذياً لها، نظر لها وهو يراها منصرفة عن قيادة السيارة وضبط أحمر شفاهها، بغض النظر عن أنها تقود سيارتها في أحد شوارع القاهرة الكبرى ووسط عشرات السيارات، تعتقد نفسها أمام مرآة غرفة نومها، بصق خميس من شباك سيارته وهو ينظر للراكب بجواره قائلاً: "النساء".
ويبدو أن احدى صديقاتها أرسلت لها رسالة مهمة، تركت أحمر الشفاه في يدها ومدت يدها الأخرى لتقرأ الرسالة ولم تنتبه لعربتها التي حادت عن الطريق، حاول خميس أن يتفاداها لكنه للأسف اضطر لصدمها، كانت صدمة خفيفة لا تستدعي التوقف أصلاً، لو أن قائد السيارة رجل لسب خميس من النافذة وتابع طريقه لكنها توقفت بسيارتها في منتصف الشارع، عطلت حركة المرور من خلفها الذي توقف بسيارته جانبًا، كانت تبكي وهي تسبه بهيستيريا غير طبيعية، حاول خميس أن يستنجد الراكب بجواره سائلاً إياه: "أليست هي السبب في هذا الحادث؟
هز الراكب رأسه بحماس وهو يصيح بها بغضب تحكمه الفروق الطبقية: "أجل.. تمسكين هاتفك وأدوات تبرجك كأنك ملكتِ الأرض.. اللعنة عليكم".
صرخت بهم من بين دموعها بعصبية: "ألا تعرفون من أنا؟.. أنا حرم اللواء سيف السنباري أيها الأوباش".
حين أتت سيرة سيادة اللواء انصرف الجميع إلى أعمالهم بينما قرر خميس أن يتراجع وهو يقول وهو يتحسس السيارة بيده: "سليمة يا ست هانم.. إن شاء الله خير.. الولد فروج السمكري سيعيدها عروسة خلال نصف ساعة".
بالطبع لم تسكت السيدة والتي شعرت بقوة موقفها حين اتصلت بزوجها الذي أخبرها أنه آتٍ على الفور، لم يجد خميس بداً من الهروب، لو أتى اللواء سيقبض عليه، من الأفضل أن يركب سيارته ويصل للموقف يخبرهم ما حدث قبل أن يختفي داخل حارتهم المنسية لمدة يومين أو ثلاثة لحين هدوء الأمور.
ولأن سيارة حرم اللواء أهم كثيرًا من خميس وحارته، انت انتفض العاملين بالموقف حين خطا السيد اللواء وبصحبة معاليه الرائد شريف، أقسى العاملين بقطاع المرور ويعرفه الجميع جيداً، وقبل أن يسأل الرائد شريف سؤالاً واحدًا تطوع أحد السائقين بالإدلاء باسم خميس وعنوانه ولو سأله الرائد شريف عن مقاس الملابس الداخلية لأخبره إياها.
وعلى الفور أمر اللواء سيف بخروج قوة خاصة من القسم وعلى رأسها الملازم أول خيري النشار للقبض على خميس وإحضاره للقسم حالاً، كانت الخطة في حبسه يومين على ذمة التحقيق قبل الإفراج عنه ليعرف جيداً كيف يتحدث مع أسياده.
وبالفعل وصلت القوة إلى الحارة بسرعة، هبط الجنود والضابط في مشهد مهيب كأنهم سيلقون القبض على أخطر الإرهابيين الذين يهددون الأمن العالمي، سألوا عن خميس الذي كان يجلس في حضرة السيد الحوراني ويقص عليه ما حدث، أتى الولد برقوقة أحد صبيان السيد ليخبره أن الشرطة تسأل عن خميس فخرج السيد وبصحبته خالد وبعضاً من رجاله ليتصدوا لهم، وقف السيد أمام النشار وهو يسأله بتحدي وكأنه يقف أمام طفل: "خير يا خيري بيه؟.. لمن ندين بشرف حضورك لحارتنا المتواضعة؟"
أجابه خيري بعصبية: "الموضوع لا يخصك يا حوراني، لا تفتعل مشكلة أنت لست أهلاً لها".
كان الحوراني معروفًا للشرطة بسبب قسوته المبالغ بها لكنهم للأسف لم يتلقوا ولو بلاغًا واحدًا ضده ومنعهم هذا عن القبض عليه، وبأدب رد عليه الحوراني: "طالما يحدث داخل حارتي فهو أمر يخصني".
ابتسم النشار بسخرية وهو يقول باستهزاء: "حارتك؟"
تجهمت ملامح الحوراني وهو يسأله بصرامة: "خير يا بيه؟"
"الأمر لا يخصك كما أخبرتك لذا تنحى جانباً كي لا تورط نفسك في المشاكل"
"وأمر خميس يا سعادة البيه لا يخصك"
ابتسم النشار وهو يقول: "الله الله.. يبدو أنك تعرف كُل شيء يا حوراني"
"أعرف، وأعرف أيضًا أن سيارة الهانم لم تتضرر، لذا لا شأن لك يا سعادة البيه"
"يبدو أنك نسيت نفسك يا حوراني، أنت تعطيني أوامر أيضًا"
"حاشا الله يا سعادة البيه.. وهل تعلو العين على الحاجب.. الأمر كله أنني أريد أن أختصر الأمر عليك".
"وكيف ستختصر الأمور يا حوراني؟"
"خميس لن يخرج من الحارة يا سعادة البيه"
"لا تضطرني لاستخدام القوة يا حوراني"
"حضرتك تعرف جيدًا أننا أقوى منكم.. فأرجوك.. ارحل من هنا يا باشا"
يعرف النشار جيدًا حجم قوة الحوراني ويعرف جيدًا جدًا أنه لم يأت مستعداً المواجهة بهذه الحجم، لذا قرر وأد الشر والتراجع لإبلاغ اللواء سيف كي يجد حلاً، في النهاية هي سيارة زوجته.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا