(10)
(خالد)
رشف العرباوي من كوب الشاي قبل أن يضعه أرضًا بجوار قدمه، أمسك بعلبة ثقاب وأخرج منها عودًا غرسه في معجون غريب لم يتعرفه السيد قبل أن يضع طرف عود الكبريت في الكبريت في فمه ويمتص طرفه ببطء، أخرج عود الكبريت من بين شفتيه وهو يقتطع كرة صغيرة من المعجون ويعطيها للسيد قائلاً: "امتصها فقط ولا تبلعها.. لا تكن غشيم"
خاف السيد من الرفض وهو يتذكر الصفعة التي عالجه بها أحد الثيران حين جرأ على الكلام، وضعها في فمه وهو يستحلبها ببطء، نظر له العرباوي وهو يقول: "الأفيون اللعين، تحولّ لعادة، لا أستطيع أن أشرب الشاي بدونه".
صمت وهو يمتص الكرية ببطء قبل أن يستكمل: "إن شاء الله في مرة سأذيبه لك مع القهوة وسترى الفرق بين الآن وبين حينها!"
ردد السيد بخفوت: "إن شاء الله".
تلفت حوله في هلع منتظرًا صفعة أخرى لم تأت، نظر له العرباوي وهو يقول: "ستكون رجلي، ورجال العرباوي في هذا السجن رجال لا يعرفون المهانة، يقضون مدتهم معززين مكرمين لحين انتهاء مدتهم وخروجهم من هذا المكان".
تمتم السيد بصوت خافت: "و... والمقابل؟"
نظر له العرباوي بتحدي وهو يقول: "وعد!"
"وعد؟؟"
"وعد ألا تطأ قدماك هذا المكان العفن مرة أخرى.. وعد أن تستخدم قوتك ونفوذك في الخير فقط.. القوة والهيبة يا سيد يا ولدي هبة من الله.. لم يرزقنا بها كي نسيء استخدامها أو لكي ينتهي بنا المطاف هنا لنموت خلف القضبان كالكلاب.. رزقنا بها الله لنكون رسله في الأرض.. لننفذ عدالته وننشر خيره.. لنميت الشر والظلم.. سيد يا ولدي.. أريدك أن تكون أحسن مني.. سأموت هنا لكن أنتَ ما زلت شاباً وستخرج سريعاً"
"لا أريد أن أغضبك مني، لكن أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، لماذا؟؟"
"بصراحة أتمنى أن تكون عملي الصالح.. أن تكون نقطة بيضاء في ثوب عملي الأسود. أن تكون الشخص الذي سيشفع لي أمام الله.. أخجل.. أخجل أن أنظر في وجهه يا سيد يا بني.. سأموت قريباً.. لعلك المنجي يا سيد.. لعلك المنجى!"
ومرت الأيام وتحول خيط الأسابيع لشهور تجمعت جوار بعضها البعض سريعاً لتكون سنين مرت ببطء على السيد وهو يترعرع في كنف العرباوي داخل السجن، تعلم منه الكثير والكثير إلي أن أتى اليوم الذي مات فيه العرباوي، مات داخل زنزانته وهو نائم، يومها دخل السيد دورة المياه وأغلق الباب وبكى، بكى كما لم يبكِ من قبل، مات أبوه الروحي، مات بعد أن قضى بجواره حوالي عشر سنوات، أكلا وشربا ودخنا الحشيش سوياً، مات وهو يتمنى أن يخرج من السجن كي يحج بيت الله قبل أن يموت لكن الموت كان ينتظره، لم يعطه فرصة التوبة، يومها صرخ السيد وهو يبكي: "حاسبنا بالنوايا ولا تحاسبنا بالأعمال يا الله... حاسبنا بالنوايا ولا تحاسبنا بالأعمال يا رب".
وخرج السيد من السجن بعدها بسنة قبل نهاية مدته في عفو استثنائي، ولم يجد بداً من العودة للمكان الوحيد الذي يعرفه.
حارته القديمة...
يومها نام في مخزن قديم فتحه له أحد الأشخاص الذين يعرفونه، نام جوار بعض الصناديق الورقية الموجود بها بضاعة صاحب المخزن، أتاه العرباوي في الحلم وهو مبتسم، يرتدي جلباباً أبيض، ربت على رأسه وهو يقول بحزن: "هل ترى.. الله يرانا ويسمعنا ويعلم ما بنا.. لا تضيع الفرصة يا ولدي.. إياك"
استيقظ من نومه فزعاً، سمع الفجر يؤذن، توضأ بصعوبة وهو يدعو الله أن يغفر له إن أخطأ وذهب للمسجد ليصلي للمرة الأولى تقريباً في حياته.
صلى وهو يعد نفسه أن يتغير كل شيء للأبد!!
* * *
أتته الفرصة حين رأى الست بطة بائعة الخضار في الحارة تبكي بقهر، سألها عما حل بها فأخبرته أن زنون ابن الحرام بلطجي إحدى الحارات المجاورة أتاها وهو تحت تأثير المخدرات وسرق إيرادها اليومي وصاحب الخضروات أخبرها أنه لن يعطيها بضاعة مرة أخرى قبل سداد المبلغ المستحق، أنهت كلماتها بدعوة صادقة من القلب: "منك الله يا زنون الكلب"
كان السيد أذكى من أن يترك الفرصة تتسرب من بين يديه، تسلح بقوته وبأسه وعصا قديمة وجدها ملقاة أرضًا، غرس بها بعض المسامير الصدئة وذهب للحارة المجاورة، أن تقهر بلطجياً في حارتك فهذا أمر جلل، لكن أن تقهر بلطجيًا في حارته فهذا أمر لا يستهان به، أتاها يومها بنقودها ويزنون مدرج بدمائه، ألقاه أرضًا ويأمره أن يعتذر منها ويقبل قدميها.
وذاع صيت السيد في الحارة والحارات المجاورة وأصبح قبلة المظلومين ووجهة الضعفاء، أتوه من كُل حدب وصوب، أحدهم سرقت منه سيارته واتصل به السارق طالبًا مبلغاً لا يملكه.
اتصل السيد بالسارق واتفق معه على اللقاء من أجل سداد المبلغ، لا يعرف الكثيرون ما حدث هناك ولكنهم رأوه بأم أعينهم وهو يعود للحارة ويفتح حقيبة السيارة ليروا جميعاً اللص مقيد وملقى بلا حول ولا قوة، كتب على صدره بحبر لا يزال أنه لص سيارات ومسجل خطر قبل أن يلقيه عاريًا بجوار قسم شرطة ويتركه ويرحل.
بينما أتته السيدة رباب لتشكو طليقها الذي طلقها وزورّ ورقة أنه ترك عمله كي يتهرب من دفع النفقة وتركها وحدها تحارب المجتمع الذي نظر لها نظرة فاسدة وهي تبحث عن عمل، كلما عرف رب عمل أنها مطلقة تحولت نظرة عينيه لنظرة شهوانية وسال لعابه وهو ينظر لها نظرات تفهمها جيداً، الفتاة الصغيرة مريضة بمرض مُزمن بينما أمين طليقها يرفض دفع نفقات علاج ابنته، ربطه يومها في عامود كهرباء يتوسط الشارع وترك البرد ينخر عظامه، شاهده الجميع قبل أن يستيقظ صباحًا ليحدثه أمام الحارة جميعاً وأولهم طليقته المسكينة، اتفق معه على مبلغ مالي ضخم يكاد يصل الخمسين بالمائة من راتبه كنفقة شهرية، قبل أن يفك قيده مضى أمين على شيكات ووصولات أمانة بمبالغ ضخمة وبشهادة أهل الحارة جميعاً ومن يومها وهو يدفع لطليقته النفقة في وقتها دون تأخير.
أما النصاب الذي نصب على أغلب محلات هذا الحي بوسامته وبذته الحديثة، يركب سيارة من طراز حديث للغاية، يتوقف أمام محل غير ويستغل حالة الزحام، يطلب بعض الطلبات التي لا تتجاوز العشرون جنيهاً، يخلع نظارته الشمسية ذات العلامة التجارية الفخمة التي يعرفها الجميع وهو يسرح شعره الكثيف بيده، يمسك بمشترياته ويقف أمام البائع ينظران لبعضهما البعض في حيرة، يسأله البائع عما يريد فيخبره أنه أعطاه مئتان جنيه حينما دخل وينتظر الباقي ورغم ثقة العديدين من أنه لم يدفع لكن هيئته وسيارته ونظارته الشمسية التي يتجاوز سعرها العشر آلاف جنيه تدفعهم للشك في ثقتهم ويقينهم ويعطوه الباقي، يتبع نفس الطريقة مع حوالي خمسين محلّا كُل يوم ويصل في بعض الأحيان إيراده اليومي لعشرة آلاف جنيه، كُل ما يكلفه الأمر هو سيارة مؤجرة ونظارة شمسية بمائة جنيه وهذه اشتراها بألفين من الجنيهات.
حين أمسكه السيد أحرق السيارة أمام عينيه قبل أن يمسكه ويذهب به مقيدًا لصاحب مكتب إيجار السيارات كي يخبره أن هذا اللعين أحرق سيارته وأهل الحارة شهود، آخر ما علموه أن الفتى يقضي عقوبة طويلة في السجن كنتيجة للشيك الذي كتبه لصاحب السيارة وعجز عن سداده.
واتسعت الرقعة التي يسيطر عليها الحوراني وزادت سطوته ونفوذه وزادت هيبته وكان لابد من البحث عن فتى يسانده ويكون له سنداً، وربما يكون خير سلف لخير تلف وبعد مراقبة طيلة لشباب الحارة اختار خالد الضو، خالد القوي ذو القلب الميت الذي لا يهاب شيئًا، اختاره وهو يتذكر اختيار العرباوي له.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا