الجانب المظلم 9 للكاتب محمد عصمت

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-11-04

9) 

(بسنت)

جري خلفها وهي تركض كالمجذوبة ودموعها تتساقط، لأول مرة في حياتها تضع نفسها في مثل هذا الموقف المحرج، اقترب منها بشدة وهو يقول: "آنسة بسنت.. ممكن تسمعينني؟" 

زادت سرعة خطواتها دون أن تنظر له، حاولت تفاديه.. حاولت أن تهرب منه.. كان الإحراج يأكل كبرياءها بشراهة وتمنت لو أن الأرض تنشق لتبتلعها حالاً، أمسك بها من ذراعها ليجبرها على التوقف، توقفت ونظرت ليده بغضب، ابتعد كالملسوع وهو يعتذر: "آسف ولكنني لم أجد طريقة سوى هذه لإيقافك". 

نظرت له بضيق وشيطان الغضب يتقافز في عينيها قائلة بصوتٍ عالٍ: "ماذا تريد يا هذا؟" 

ظهر الإحراج في عينيه التي لمعتا بفضل الشمس فصارت مقاومتهما صعبة للغاية وهو يقول: "أقسم لكِ إنني لم أكن أعاكسك أو أغازلك.. كُل ما كنت أريد أن أعيد لك قلمك وأنبهك بخطورة عبور الشارع دون أن تنظري أمامك". 

لم يغادر الغضب نبرتها الحادة وهي تقول له محاولة أن تجفف عبراتها بمنديل مهترئ: "وماذا بعد؟" 

ظهر عليه الإحراج وهو يقول: "وماذا بعد؟؟" 

صرخت به بصوت لفت انتباه بعد الواقفين: "أديت مُهمتك وأعطيتني القلم ونصحتني نصيحة لا حاجة لي بها.. ماذا تريد بعد يا ابن الناس؟" 

شعر بالإحراج فاصطبغ وجهه بحمرة الخجل وهو يعتذر بهدوء وينسحب من الموقف ليبتعد عنها بينما سمع أحد المراقبين للموقف يقول بدياثة يُحسد عليها: "انظر لملابسها.. تستحق كُل ما يحدث لها!"

لم يكن التركيز حليفها في هذا اليوم، أخطأت محطة المترو مرتين وكادت سيارة أن تدهسها بينما فوتت مدخل شارعها وهي تمشي حائرة في تصرفها، سألت نفسها مئات الأسئلة التي لم تجد لها إجابات مقنعة. 

لماذا كانت قاسية معه بهذا الشكل؟ 

هل يستحق منها كُل هذه الحدة وكل هذا الجمود؟ 

هل تصرفت بشكل صحيح أم أنها أخطأت التصرف؟ 

هل أضاعت فرصة لن تعوض برفضها التام القاطع لهذا الوسيم؟ 

استمر فقدان التركيز والتفكير في شغل بالها طوال اليوم حتى إن أمها لاحظت شرودها وقلة تركيزها فابتسمت وهي تزف للأب الخبر وهي فرحة أن طفلتها صارت آنسة محترمة ويبدو أن أيامها السيئة من الشهر تقترب، تأملها الرجل ببلاهة وهو يسأل عن طبق الفاصوليا الباقي من الغداء، نظرت له بحنق وهي تسبه هو والأطباق المتسخة التي تتكاثر كالأرانب في مطبخها اللعين. 

حلمت بسنت أنها ترتدي فستانًا أبيض، يشبه كثيرًا فساتين الزفاف الأسطورية التي تحتفظ بصورتها تحت وسادتها ويقترب منها حامد ليمسك بيدها وهو يرتدي حلة فاخرة زادته وسامة لكن فجأة تلبدت السماء بالغيوم وبدأت تبكي مطرًا كثيفًا، حاول أن يصل لها إلا أن المطر منعه، لم ييأس.. حاول مرة تلو الأخرى لكن المطر وقف حائلاً، استيقظت وهي تفكر، ربما كان المطر هنا يرمز لقسوتها، ربما أراد أن يتحدث معها، ربما كانت قاسية وجافة معه.. يجب أن تصلح الموقف على الأقل كي يستطيع ضميرها أن يستريح قليلاً. 

أخذت قرارها وخرجت لتفطر وسط عائلتها وهي مبتسمة ومشرقة كغير عادتها، ابتسمت أمها وهي تدعو لها بصوت خافت: "ربنا يهديكي يا بنتي".

* * *

اضطرت أن تنتظر أسبوعاً كاملاً، أسبوعاً كاملاً وعشرات السيناريوهات الغريبة تدور في رأسها الصغير، رأته يقبل اعتذارها ومن ثم يتجاهلها، رأته يقبل اعتذارها ويتجاهلها بعد ذلك، رأته يرفض اعتذارها ويتجاهلها كأن لم تكن، ورأته يرفض اعتذارها ويقوم بإحراجها أمام الجميع. 

لكنها قررت ولن تعود عن قرارها، هي أخطأت وحين يخطئ المرء يجب عليه أن يعتذر، الاعتذار من شيم الكبار وهي كبيرة بعقلها وتفكيرها وأخطأت ويجب أن تكفير عن خطئها، انتظرت ميعاد الدرس المقبل بفارغ الصبر وحين أتى الميعاد كانت مستعدة. 

كان يقف مع زميله السخيف، راقبته بطرف خفي وهي تقترب وعينيها تهربان من مواجهته، تمنت لو أنها تملك رفاهية التراجع لكنها أجبرت نفسها على التقدم، اقتربت منه وقالت له بصوت خجول وخديها يتوردان من شدة الخجل: "هل تسمح لي بكلمة على انفراد؟"

نظر لها بغضب دون أن يجيب سؤالها، كررت طلبها ولكن هذه المرة صوتها كان مليء بالرجاء، نظر لها بلوم وهو يقول: "وكيف أعرف أنك لن تسببين لي مشكلة أخرى؟.. كان من الممكن أن ينتهي الأمر بطردي". 

تمتمت ببعض كلمات اعتذار غير مفهومة لكنه أدرك معناها دون أن تنطقها، ابتسم هو يشير لصديقه أن يبتعد، وقفت أمامه تشعر بالارتباك والحرج، للمرة الأولى تجد نفسها في مثل هذا الموقف، أدرك بذكائه ارتباكها ولم يريد أن يزيد الأمر سوءاً، ابتسم ابتسامته اللطيفة التي تزيده وسامة وهو يقول لها برفق: "اعتذارك مقبول حتى لو لم تنطقيه". 

شكرته بلطف وهي مبتسمة بصدق، أراح قلبها وخفف عبئها، شكرته بابتسامة لطيفة وهمت بالرحيل، انتظر حتى خطت خطوتين في الاتجاه المعاكس قبل أن يقول بنبرة شبه عالية لم يسمعها سواها: "من حسن حظك أنني...". 

التفتت لتتأمله وهو يستكمل جملته المبتورة: "معجب بك". 

هذه المرة نست كُل شيء، نست أنه غريب عنها وأنها تحدثه في الشارع أمام العديد من الناس، نست كل ما دار في ذهنها من أحاديث، نست كل شيء إلا شيء واحد فقط... أنها معجبة به هي الأخرى! 

بادلته ابتسامته بأخرى من قلبها، ابتسامة صادقة تحمل من الإعجاب والحب قدرًا كبيرًا... 

للمرة الأولى تشعر أنها اقتربت خطوة من أحلامها الوردية الرومانسية... أو هكذا ظنت!

(كامل)

يعمل أستاذ كامل كمحاسب في شركة خاصة لتجارة الأخشاب المستوردة يقع فرعها الرئيس في أحد أحياء القاهرة الرئيسة ويطل مكتبها الرئيس على نهر النيل في مظهر بديع، لكن بحكم أن كامل كان المحاسب الذي يثق فيه أصحاب الشركة كان يتجول بين فروعها كُل شهر في عدة رحلات للاطمئنان أن كُل شيء على ما يرام، أحد فروع الشركة ومخازنها يقع في منطقة ريفية نائية بعض الشيء في إحدى قرى محافظة الجيزة، يذهب كامل لهذا الفرع تحديداً مرة كل شهر، يتم عمله قبل أن يشرب كوباً من الشاي بالنعناع من يد مدام منى، العجوز التي شاب شعرها ملأه اللون الأبيض كما ملأ روحها وقلبها النقيين، يقف في الشباك يستمع لشكوى مداد مني بنصف عقل ونصف تركيز بينما يراقب اللون الأخضر الذي يملأ هذه المنطقة النائية دون أن تمتد له يد بشر لتلوثه، كان الجو دافئًا هذا الصباح، بعض طيور أبو قردان يشاكسون بعضهم البعض في أحد الحقول المهجورة، قطة تموء بكسل وهي تمطط جسدها تحت الشمس، وقهقهة فتاتين صغيرتين تعدوان خلف بعضهما البعض في مرح، ضحكاتهما تملأ المكان وتدفئ القلوب، ابتسم وهو يراقبهما، لا يزيد سن أيهما عن الحادية عشر، إحداهما محجبة، ترتدي حجابًا بسيطاً بينما الأخرى تتأرجح ضفيرتها الطفولية خلفها وهي تعدو ضاحكة، ابتسم بمرارة وهو يراقبهما، ترددت في أذنه عبارة الطبيب التي قالها بقسوة: "للأسف يا أستاذ كامل.. زوجتك بصحة جيدة وقادرة على الإنجاب.. العيب منك.. أنا آسف". 

شعر بمرارة أبي النعناع البلدي الممتزج بقطرات الشاي أن يزيلها، راقب الطفلتين بحسرة قبل أن يدخل للغرفة وهو دامع العينين، نظرت له مداد مني وهي تسأله: "هذه هي القصة بأكملها.. ما رأيك.. هل أنا مخطئة؟" 

تعلمها كامل قاعدة لا تقبل النقاش ولا تحتمل الخطأ، النساء لا يخطئن، لا تريد أبدًا أي امرأة مهما كان سنها أو حالتها الاجتماعية أن تسمع أنها تُخطئة، تظاهر بالاهتمام وهو يشيح بوجهه بعيداً كي لا تلاحظ دموعه وهو يقول: "بصراحة لقد فعلتي وقلتي كُل ما يمكن أن يقال أو أن يفعل.. أنتِ طبعاً لست مخطئة.. أبداً" 

دعا الله في سره وهو ينصرف ألا تكون إجابته سببًا في خراب أحد البيوت. 

تكررت زياراته وتكرر وقوفه في نفس الشباك مُمسكاً بذات الكوب يرشفه ببطء واستمتاع لا يقطعه سوى مرور البنتين، تارة تجريان خلف بعضهما البعض بمرح وأخرى تمشيان متباعدتين متخاصمتين، مرات ممسكتان بأيدي بعضهما البعض وأخرى لا يتحدثان أبداً. 

إلى أن أتي يوم وسمع صوت نهنهات بكاء، بحث عن مصدر الصوت حتى وجدها، تمشي وحيدة وهي تبكي، ذات الضفيرة تمشي، بمفردها هذه المرة، باكية مُحمرة العينين ذابلة الوجه، راقبها بعينيه لوهلة قبل أن ينقبض قلبه بألم، لو أنها ابنته ما تحمل بكاءها لحظة، وضع كوب الشاي على مكتب مدام منى وهم بالرحيل، نظرت لساعة الحائط الكئيبة المعلقة على الحائط وهي تسأله: "أين تذهب في هذه الساعة؟" 

تمتم ببضع كلمات غير مفهومة وهو يهبط للشارع الترابي الغير ممهد، مشى خلفها بخطوات سريعة حتى اقترب منها، شعرت به فنظرت له بخوف وهي تهم بالرحيل، ناداها بهدوء وهو يقول: "لماذا تبكين؟" نظرت له وهي تمط شفتها السفلي في حزن طفولي، وضعت يديها على وسطها وهي تقول له: "هذا ليس من شأنك، ماما قالت لي لا تتحدثي مع الغرباء". 

ابتسم وهو يقول لها: "أنا عمك سيد.. وأنتِ؟" 

أجابته بنبرة طفولية: "سلوى مدحت محمد طارق" 

ابتسم للعادة التي تصاحب معظم الأطفال بنطق أسمائهم كاملة دون داعٍ لهذا الأمر، قال لها بلطف: "الآن نعرف أسماء بعضنا البعض.. نحن الآن لسنا غرباء.. أليس كذلك؟" 

ابتسمت وهي تهز رأسها وتمسح دموعها بيدها، أمسك بيدها وقربها منه في حنان سائلاً: "الآن ماذا يبكيك؟" 

أجابته بحزن طفولي: "مس دنيا ضربتني لأنني نسيت كراسة الواجب". 

قبل أن يتكلم تابعت بلهجة صادقة مليئة بالحزن: "رغم أني والله حليت كل الواجب" 

ربت على يدها الصغيرة قائلًا: "أصدقك يا صغيرتي". 

شعر بالحزن يغمره وهو لا يجرؤ على حضنها وإلا ظن فيه الجميع ظنًا خاطئًا، أخرج من جيبه ورقة بخمسة جنيهات وهو يعطيها إياها قائلًا: "هاتي لنفسك بعض الحلوى كي تبتهجين قليلاً". 

ترددت قليلاً لكن ابتسامته ويده الممدودة والطمع الطفولي الذي ملأ قلبها شجعوها على خطف الورقة النقدية بحركة سريعة خشية أن يتراجع، ابتسم وهو يودعها. 

ترددت لقاءاتهما، كان يذهب لهذا الفرع أسبوعياً كي يراها وتشير له بيدها دون أن تراها صديقتها كي لا تشي بها لأمها أنها تحدث الغرباء، لكن عم السيد ليس غريباً، ولكن أمها لن تفهم هذا الكلام، قررت الصغيرة أن تحافظ على الأمر سري بينهما. 

إلى أن لمحها في يوم تمشي بمفردها، استأذن من مدام منى التي كانت تقص عليه قصة مُمتعة عن مياه غسيل جارتها القذرة، لا يعرف من هي القذرة بصراحة، أهي جارتها أم أنها تقصد مياه الغسيل، هبط ليسلم على صغيرته بابتسامة كُلها أمل وفرح، حين لمحته هذه المرة حاولت الهرب، جرى خلفها ببطء وهو يناديها بصوت خافت كي لا يلفت لنفسه الأنظار لكنها أبت أن تستجيب، أخيرًا أمسكها من ذراعها بحنو وهو يسألها: "لماذا لا تردين علي؟ 

قالت له بخوف: "ماما عرفت أنني أحدثك وضربتني بقسوة وأمرتني ألا أكلمك وإلا ستحرمني من الخروج مرة أخرى". 

شعر بالغضب، من تظن نفسها هذه المرأة، تمنع ابنتها تحدث مع رجل لطيف يعطيها النقود لتشتري الحلوى، ما ذنبه أن الله لم يرزقه بأطفال وقتها لم يكن لينظر لهذه الحشرة الصغيرة التي تخشى عليها أمها من الغرباء كأنها أنجبت لنا الأميرة ديانا، ما ذنبه أنه لم ينجب ويشتاق للصغار فيخطف لحظات قليلة من الحديث مع فتاة صغيرة تمتلئ الشوارع بمثلها، تأوهت الصغيرة بألم وقد شعرت بقسوة قبضته التي سكنها الغضب، نظر لها بأعين تلتمع جنونًا وهو يقول لها بشرود كأنه لا يراها: "الآن فقط عرفت من الملام علي ما يحدث لي؟.. ومن سيتحمل عواقبه؟" 

لم تفهم الصغيرة ما يقول لكنها شعرت برعب عارم يغمر قلبها، حاولت الصراخ إلا أنه كتم أنفاسها بقسوة كي لا تفضحه، حاولت المقاومة فأحكم يده على فمها كي لا تصرخ غير منتبه أن يغلق مجرى التنفس من خلال الأنف والفم، بدأت مقاومة الصغيرة تضعف قبل أن تنعدم تماماً، على غير العادة لم يشعر بندم أو حزن، شعر بنشوة عارمة تنتاب جسده وهو يراها جثة هامدة بين يديه. 

تملكه الجنون وهو يقهقه، الآن ستشعر هذه الحقيرة بما يشعر، ستعرف جيداً أي نعمة كانت تملك، ستعرف أنها كان يجب أن تفكر ألف ألف مرة قبل أن تمنع ابنتها من الحديث معه، أسجي جسده أرضًا ببطء وهو لا يعرف ماذا سيفعل به، خلع حقيبتها المدرسية وهو يفتحها ليرى محتوياتها على عجالة، وجد وريقة صغيرة في جيب من جيوب الحقيبة مكتوب فيها: (في حال فُقدت الحقيبة.. عليك الاتصال ب...).

أخرج قلمه وكتب رقم الهاتف على يده في سُرعة، فكر للحظات لكن شيطانه كان حاضراً، ذكيًا وسريع التصرف، صعد المكتب متظاهراً بالهدوء وهو يدلف لغرفته ويمسك بمفتاح أحد المخازن التي تقع تحت المكتب، فتح المخزن وأخفي الجنة خلف بعض الأخشاب في ركن مظلم من أركان المخزن، عليه الآن أن يتصرف سريعًا قبل أن تتعفن الجثة وتفضحه رائحتها. 

 

(حسان)

رشف رشفة من قهوته وهو يسأل سامي بهدوء: "لا أقصد التدخل لكن أليس من المنطقي أن يُعالج وزير الداخلية في أكبر مستشفيات العالم؟" 

ابتسم سامي برفق وهو يقول: "كلامك منطقي" 

صمت حسان منتظرًا أن يستكمل سامي حديثه لكن سامي كان كعهده قليل الكلام، اضطر حسّان أن يسأله مرة أخرى: "ولكن..؟" 

أجابه سامي مُضطرًا: "أنت تعرف مدى سوء الأوضاع السياسية في الدولة هذه الأيام، وزير الداخلية إنسان كأي إنسان ومن الطبيعي والمنطقي أن يمرض ويعالج كأي شخص آخر وربما يحتاج للعلاج أكثر غيره بحكم الضغط الواقع عليه من ضغوط مهنته لكن.. وضع هنا ألف خط تحت كلمة لكن، جبروت هشام النجدي وقسوته على مر السنين وقبضته الحديدة التي يسيطر بها على الأمور جعلته خارقًا لا ينكسر في أعين الكثيرين ولو أذيع خبر مرضه ستنكسر شوكته أمام العامة وسيقوي هذا من شوكة أحزاب المعارضة، لكن هذا ليس السبب الوحيد... دعني أقول لك معلومة هامة". 

اعتدل سامي على مقعده الوثير وهو يستكمل حديثه: "بالفعل هشام باشا يُعالج في أكبر وأشهر المستشفيات ويتلقى علاجه على يد أمهر الأطباء حول العالم، لكن.. العلاج الأطباء وشهرته ومركزه لم يشفعوا له، في دول الغرب يعامل الإنسان كأي إنسان آخر مهما كانت رتبته، مهنته، شهرته أو ثروته، لذلك حين ساءت حالة كليتيه تم وضعه على قائمة الانتظار، وحالته الصحية لا تسمح له بالانتظار، هشام باشا صديق شخصي لذا كُنت أساعده في بعض الأحيان ويستشيرني في معظم الأوقات، ساءت حالته الصحية فجرًا ولم يجد أهله بداً من نقله لمستشفانا، ليست هذه المشكلة بالطبع، أنت تعرف أن مستشفانا مُجهز على أحدث طراز وبه أحدث الإمكانيات، المشكلة أكبر من هذا... للأسف" 

سأل حسّان باهتمام وهو يتساءل بينه وبين نفسه عن السر الذي يجعل شخصية كتومة مثل سامي يكشف له كُل الأسرار الصحية بواحد من رجالات الدولة المهمين بهذه السلاسة: "وما المشكلة؟"

ارتشف سامي رشفة من كوب ماء بارد وهو يقول بهدوء كأنه يتحدث عن فيلم جديد معروض في إحدى السينمات: "المشكلة أن سوء حالته الصحية يمنعه من السفر نهائيًا حتى لو على متن طائرة خاصة مجهزة بأحدث المعدات الطبية، بصفتي طبيبه الخاص وصديقه الشخصي لا أستطيع ان أخاطر بصحته، وهذا يعطينا أسبوعًا لكي نجد له كلية ونقوم بعملية الزراعة"

ابتسم حسّان وهو يقول: "هذا أمر بسيط، حضرتك تعرف جيداً أننا على أتم استعداد لتوفير أي عضو في أي وقت مهما كلف الأمر"

ظهرت الجدية على وجه سامي وهو يقول: "الكلام النظري سهل للغاية.. لكن حين نصل للتطبيق العملي تواجهنا مشكلة ضخمة".

صمت ليلتقط أنفاسه قبل أن يستكمل: "هل سمعت من قبل عن فصيلة الدم alkrimâ"" fçilâ o سالب، يمثل حملة فصيلة الدم هذه حوالي 7 % فقط من البشر وبالتالي تواجه المرضى من تلك الفصيلة عدة مشاكل، وهنا ستواجهنا مشكلة ندرة فصيلة الدم كمشكلة أولى ستليها بعد ذلك عدة مشكلات في الأنسجة والتحاليل لكن أن نجد فصيلة الدم النادرة تلك عند شخص مُستعد للتبرع بكليته هو الأهم"

انعقد حاجبا حسّان وقد ظهرت الجدية على وجهه: "وما دوري في هذه المشكلة؟" 

وقف سامي وهو يدور حول المكتب ليقف خلف حسّان، وضع يديه على كتفي حسّان وضغط عليهما ببطء وهو يقول: "المتبرع سيحصل على مليون جنيه يا حسّان، لكن أنا أعرف جيداً كم تحب النقود، مليونان من الجنيهات لك إن أتيت لنا بشخص فصيلة دمه تطابق فصيلة دم معالي الوزير"

غمز بعينه وهو يقول لحسان: "بالتأكيد سنحتاج لباقي الأعضاء في مهام أخرى". 

ابتلع حسّان ريقه بصعوبة وهو يقول: "سآتي لك بمتبرع خلال أسبوع". 

هز سامي رأسه وهو يقول بصرامة: "يومان.. لديك يومان فقط وإلا...". 

ظهرت علامات الحيرة على وجه حسّان وهو يفكر في هذا المأزق الذي وجد نفسه فيه بغتةً... 

* * *

جلس حسان للمرة الأولى منذ حين على المقهى الموجود في بداية الحارة، نادى المعلم رجب لصبيه وهو يهمس له: "لماذا يجلس هذا المزعج عندنا؟" 

نظر له الصبي وهو يقول بحيرة: "لا أعرف يا معلمي هذه المرة الأولى التي يشرفنا فيها.. لعله خير" 

نظر له المعلم رجب باحتقار قبل أن يُحدِث صبيه: "لعله خير.. اذهب أكمل عملك وكفاك حديث كالنساء".

ذهب الصبي لحسان وسأله بأدب: "ماذا تشرب يا دكتور حسان؟" 

نظر له حسّان بابتسامة: "اتنين قهوة يا سليم من فضلك" 

سأله سليم بغباء: "ستشربهم بمفردك يا سعادة البيه؟" 

ضحك حسّان وهو يقول: "لا بالطبع.. أنتظر صديق لي سيشرفني". 

ظهر الإحراج والضيق على وجه سليم وهو يسأله: "ماذا تريدهم يا دكتور؟" 

أجابه سريعاً: "واحدة زيادة" 

صمت قليلاً ليفكر قبل أن يسأل سليم: "كيف تشرب قهوتك يا سليم؟" 

رد سليم وهو لا يفهم سؤاله: "سادة يا دكتور" 

ابتسم حسّان بلطف وهو يقول له: "إذاً واحدة زيادة وأخرى سادة واستأذن معلمك أن يعطيك ساعة راحة لأنني سأحتاج أن أتحدث معك قليلاً". 

ظهرت الحيرة على وجه سليم وهو يرحل ليبلغ معلمه بهذه المستجدات، سمعه معلمه باهتمام قبل أن يقول له: "اذهب واعرف ماذا يريد منك هذا الكلب" 

رفع يده تجاه حسّان هو يبتسم ويقول بصوت عالٍ: "منورّ مقهانا المتواضع يا دكتور حسان". 

ابتسم حسان ولم يرد عليه، خلال دقائق كان كوبان من القهوة يزينان منضدة خشبية متهالكة وبجوارها كرسيان من الخشب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بهدوء يدور بين الجالسين حوارًا شديد الغرابة، كان حسّان يقول بهدوء: "ركز يا سليم، أريد منك أن تقول لي مَن مِن سُكّان الحارة مريض، حتى لو برد عادي أريد أن أعرفه لكني أريدك أن تهتم بالمرضى الذين يحتاجون لعلاج مزمن". 

نظر له سليم وهو يقول: "لكن يا سعادة الباشا أنا قهوجي ولست طبيباً، كيف سأعرف المرضى". 

أخرج حسان من جيبه ورقة تحمل الرقم مئتان ووضعها أمام سليم الذي نظر لها قبل أن يقول: "الحاج وليد والسيد نبيه والست أم مريم، وعم أبو بشارة والسيدة زينب وأبو أدهم النجار وإسماعيل البقال" 

ابتسم حسّان وهو يقول له: "شكرًا يا سليم، سأسألك إذا احتجت شيئًا آخر" 

"لكن لماذا تسأل يا دكتور؟" 

أشار له حسّان وهو يقول: "معلمك يُناديك يا سليم" 

نظر سليم للخلف كي يرى ماذا يريد معلمه فوجد معلمه مشغولاً بعد بعض النقود، نظر مرة أخرى لحسان لكنه لم يجده على مقعده، تابعه بعينيه وهو يدخل بيته قبل أن يقول: "سُبحان الله". 

مشى نحو معلمه وهو يشعر بالدهشة، جلس على المقعد المجاور له وهو يقص عليه تفاصيل ما حدث قبل أن ينسى مُتعمدًا ذكر الورقة المالية التي وهبها حسان إياه. 

 

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا