8)
(خالد)
السيد الحوراني، اسم يرتجف لسماعه أشجع الشجعان ويرتعد لمرآه كُل الأشقياء، لكن الغريب أنه رغم قسوته كان مصدراً للأمان والطمأنينة للعشرات من سكان تلك الحارة الشعبية
السيد الحوراني، أسطورة تناقلتها الألسن وقدمتها القلوب، سافر العشرات والعشرات من الصحفيين ومُعدين البرامج كي يتأكدوا من وجوده لكن الغريب أنه رغم الفرص العديدة للشهرة التي جاءته وركعت تحت قدميه إلا أنه زهدها جميعاً.
السيد الحوراني، الولي الذي أتاه الجميع من كل حدب وصوب كي ينالوا القليل من بركاته لكن رفض تماماً أن ينصاع لخرافاتهم بل وقسى عليهم ولم يكتف برفضهم.
السيد الحوراني الذي عاش أسدًا ومات بطلاً!!
* * *
بدأت حياة السيد الحوراني كشقي يقتات من السرقة، سرق كل ما يمكن سرقته، سرق شققاً سكنياً.. سرق قصورًا.. سرق محلات صغيرة.. محلات ضخمة.. سيارات قديمة.. سيارات فخمة.. أحبال غسيل.. لعب أطفال.. سرق حتى أحلام العشرات بسرقته لنقودهم إلى أن انتهى به الأمر لمحاولة سرقة سيارة أحد ضباط الشرطة عن طريق ما يسمى ب (التثبيت), انتظر برفقة أصدقاء سوء في أحد المناطق المظلمة على الطريق الدائري، يحملون جذع شجرة ضخم ينتظرون سيء الحظ الذي سيقوده حظه العسر إلى المرور من هنا في هذا الوقت المتأخر، لمحوا سيارة تقترب وعلى الفور استعد الجميع، بمجرد اقتراب السيارة بقدر كافٍ رمت مجموعة منهم جذع ضخم أمام السيارة لمنعها من التقدم وجذع آخر خلفها كي لا يتراجع، الغريب في الأمر أن سائق السيارة توقف بكل هدوء وانتظر داخل سيارته إلى أن تحركوا من مخابئهم، فتح أضواء السيارة وهو يفتح الباب ويخرج من سيارته بكل هدوء، لم يستغرق الأمر ثوان معدودة قبل أن ينتبهوا لمسدسه الذي يمسكه بيده جيداً بينما خرجت منه 6 رصاصات، كان عادلاً فمنح كل منهم رصاصة واحدة لكنه أيضًا كان ماهراً لذا كانت رصاصاته موزعة في أماكن قاتلة، مات خمسة منهم ونجا الحوراني وحيداً، كتبت الصحف كلها عن الضابط البطل الذي استطاع قهر عصابة بمفرده وكتبوا عن المجرم الذي نجا من الموت لكنه لم ينج أبداً من العقاب.
استعاد الحوراني وعيه بصعوبة، يشعر أن سيخًا حديدياً ساخناً يخترق صدره، تأوه وهو يحاول الاعتدال على الفراش ليكتشف أين هو لكن القيد الحديدي الذي يربطه بالسرير المعدني منعه، آلمته الحركة المفاجئة الناتجة عن جهله بالأمر، تأوه بصوت عال، أتته ممرضة سألها أين هو فأجابته أنه في مستشفى السجن ينتظر محاكمة عادلة، سأل عن زملائه فأخبرته أنهم في رحلة بلا عودة بصحبة ملك الموت بلع ريقه بصعوبة وهو يعرف أنه أتعسهم حظاً، سيكون كبش الفداء الذي ستتم التضحية به من أجل إظهار البطل والحرص على عدم اهتزاز صورة الداخلية في أعين المواطنين.
كانت محاكمة صورية انتهت بالحكم عليه بخمسة عشر سنة من السجن مع الأشغال الشاقة، على عكس العادة ابتسم وهو يحمد ربه أنه لم يعدم، قرروا نقله لأحد السجون الشهيرة.
في السجن ساقته الأقدار للتعرف على المعلم العرباوي، في بدايات أيامه في السجن حاول بعض السجناء القدامى الاعتداء عليه، لكن صيحة غاضبة زلزلت قلوبهم جعلتهم يصرفون النظر عنه، ذهبوا ليبحثوا عن شخص آخر من "الإيراد الجديد" يمارسون بلطجتهم التي تكون جزءاً لا يتجزأ من حياة السجن اليومية، نظر يومها الحوراني لمصدر الصرخة فوجد رجلاً صغير الجسد نحيله، أنهكه السن فثني جسده كأنه يحمل من الهموم أطناناً فوق كتفه، كان يجلس متكئاً على الحائط وحوله يقف ثلاثة من الثيران البشرية، أشار له الرجل النحيل أن يقترب، كان يمضغ عودًا من الكبريت وهو يراقصه بين أسنانه، اقترب وهو يرتجف هلعاً، أشار له أن يجلس بجواره فكر في الرفض ولكن نظرة نارية من أحد الثيران جعلته يتراجع عن فكرة التردد.
أشار الرجل النحيل لواحد من الثيران البشرية وقال بلهجة آمرة: "اذهب وأحضر لنا كوبين من الشاي المخصوص يا عبده".
هرع عبده بلا نقاش كي يحقق للعجوز أمنيته فقال له كي لا ينسى بصوت عالٍ كأنه مالك هذا السجن: "لا تنس الأفيونة".
نظر له النحيل بتروي للحظات قبل أن يقول: "أنت الحوراني الذي حاول سرقة الضابط"؟!
هز الحوراني رأسه بخوف وهو ينتظر ردة الفعل، أطال العجوز النظر له قبل أن يقول بهدوء: "أنت ولد جدع وفيك بذرة خير".
قال الحوراني بصوت خافت: "شكراً يا معلم".
صفعه أحد الثيران على قفاه بقسوة وهو يقول بغلظة: "حينما يتحدث المعلم العرباوي يسكت الجميع".
كاد يرد عليه وهو دامع العينين لكن نظرة نارية رمق بها العرباوي الثور جعلته يدرك أنه بأمان، نظر الثور للأرض في خجل وهو يهرب من نظرات العرباوي النارية، أكمل العرباوي حديثه وهو يشير لأسنانه تساقط معظمها: "أسناني وقعت وشعري شاب من كثرة الأهوال التي فعلتها في صغري.. قضيت في السجن أكثر مما قضيت مع زوجتي وأولادي.. أولادي الذين لو رأوني في الشارع لن يعرفوني.. أخبرني يا
حوراني يا ابني.. هل تظن أنني كسبت من حياة السجن؟"
لم يعرف الحوراني الإجابة الصحيحة، من الممكن أن يكون قد كسب فهو الآمر الناهي في هذا السجن رغم كبر سنه وضعفه الظاهر للعيان ومن الممكن أن يكون قد خسر حياته الأسرية ودفئ وجوده بين أولاده وزوجته.
قرر السكوت نظر له المعلم العرباوي لوهلة منتظرًا إجابة لم تأتِ قبل أن يقرر الإجابة على سؤاله بنفسه قائلاً: "خسرت يا حوراني. خسرت كُل شيء.. ولا أريدك أن تخسر مثلما خسرت".
تجرأ الحوراني ليسأل سؤالاً، الفضول كان ينهش أعماقه، لفظه بسرعة كأنه يخشى أن يكتمه أكثر من ذلك: "لماذا تقول لي هذا الكلام يا معلم؟"
لمعت عينا العرباوي وهو يقول: "لأنك تذكرني بنفسي.. أنا دخلت السجن لأول مرة في محاولة لسرقة شقة ضابط.. الفرق بيني وبينك هو أنني دخلت الشقة كنوع من أنواع التحدي".
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا