الجانب المظلم 7 للكاتب محمد عصمت

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-11-03

الفصل الثاني 

(الجانب المظلم)

(7)

(بسنت)

تصاعدت الضحكات من أمام أحد الأماكن الشهيرة بالدروس الخصوصية، هذا الوباء الذي ينخر جسد التعليم في مصر برعاية القائمين عليه، هذه الأماكن أو كما يسمونها ال (سناتر) أصبحت بين ليلة وضحاها بديلة للمدارس، ففيها يشرح المدرسين المناهج وفيها يتلقى الطلاب العلم. 

ولأن هذه التجمعات تجمع من البشر ألوانًا فمن الطبيعي أن تجد فيها الحالمات والرومانسيات، تلك الفتيات التي تخطت الحد الفاصل بين الطفولة والأنوثة لتقف ورائه حائرة بجسد طفلة وروح أنثى، كانت بسنت فتاة خجولة، ليس لها أصدقاء كثيرون، تفضل الوحدة وتقدس العزلة لكنها كأي فتاة تحلم بفارسها الوسيم الذي سيأتيها ممتطياً جواده القوي لينتشلها من قسوة الظروف، الظروف التي جعلتها بنت موظف فقير يكد ويكدح في وظيفتين كي يكفي قوت يومه بالكاد، الظروف التي جعلتها متوسطة الجمال، متوسطة الذكاء وحرمتها حتى من جسد يفور بالأنوثة كي تجذب أنظار الشباب، لكنها أبداً لم تحرمها من نقاء الروح وصدق المشاعر، كانت تُراقب الثنائيات التي تقف على كورنيش النيل يتهامسون وقد تلاصقت أجسادهم وتشابكت أناملهم لتنقل من الحب ما لا تستطيع الكلمات نقله، لكم حلمت بأمير وسيم يصب الغزل صباً في أذنيها، ولكن من أين سيأتيها هذا الوسيم وهي بنت حارة شعبية صغيرة بحي فقير، من أين سيأتيها هذا الفارس وأغنى شخص بحارتهم هو المعلم رجب ليبتون صاحب ليبتون صاحب المقهى الصغير الذي يتصدر مدخل الحارة بشموخ، لكن عقلها وجد حلاً، اقترح عليها يوماً أن اجتهدي وتفوقي وستجذبين أنظارهم إليكِ إعجابًا بعلمك، تحلي بالأمل.. لكنه لم يعلم أن الألم رغم تشابه حروفه مع الأمل إلا أنه أقسى وأقوى، وكانت النتيجة هي أن دفنت نفسها في مناهجها ودروسها متجاهلة كل شيء منتظرة ظهور أي فارس حتى لو يكن وسيماً، ورغم صغر سنها إلا أن قلبها كان متعجلاً للحب، عطشاً للعاطفة. 

كانت تجلس في مكانها تستمع للمدرس وهو يشرح درساً مُملاً، سيطر الملل على كُل الموجودين حتى المدرس نفسه والذي بدأ ينظر بساعته كل دقيقتين وكأنه يتعجل انتهاء هذه المحاضرة، شعرت بالفتاة التي تجلس بجوارها تربت على كتفها، شعرت بالدهشة وهي تنظر لها، تراها في بعض الأحيان ولكنها لم تتحدث إليها من قبل ولا تتذكر اسمها، ربما كانت سناء أو سماء أو شيء من هذا القبيل، أشارت لها الفتاة بطرف خفي تجاه أحد الشباب الذين يجلسون في المقاعد المجاورة لهم، كان الفتى وسيماً، رياضي الجسد، بني الشعر أخضر العينين، كان ساحرًا بحق، كان ينظر لها وعينيه تلتمعان بنظرة إعجاب لم يحاول إخفائها، شعرت بالارتباك وهي تهرب بعينيها بعيداً لتنظر للفتاة نظرة لوم تخفي خجلاً أنثوياً قبل أن تعود بلا وعي لتتابع المدرس، بعد دقائق شعرت بنفسها تنظر تجاه الفتي الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساحرة وهي يرمقها بنظرة إعجاب، هربت بعينيها مرة أخرى، هذه هي السنة الثانية في المرحلة الثانوية وهي مرحلة مهمة للغاية ويجب عليها أن تركز فيما يقوله.. هذا الفتى الساحر ذو العينين الجميلتين والابتسامة الكاملة!! 

هذه المرة لم تستطع أن تقاوم، لملمت حاجياتها ووقفت لتعتذر للمدرس بنبرة مرتبكة وحروف تأبى أن ترتب فتكون جملاً أن ظرفًا طارئاً قد حل ويجب أن ترحل، سألها عما يهم.. هل دفعتي نقود المحاضرة؟ 

حين أتت إجابتها بنعم قرر السماح لها أن ترحل بعيدًا.... خرجت من الغرفة مرتبكة دون أن تنتبه لقلمها الذي سقط منها ليتوارى أسفل أحد المقاعد ودون أن تنتبه لزوج العيون الخضراء الذي يتابعها بإعجاب! 

* * *

بكت ليلتها كما لم تبك من قبل، بكت حتى اعتقدتها والدتها ممسوسة أو شيء كهذا، سألتها مراراً وتكرارًا عما حدث لكنها كانت ترد بنفس الإجابة.. لا شيء 

عزت الأم الأمر لهرمونات الفتاة التي عبرت بالكاد من عالم الطفولة لدنيا المراهقة، وبالطبع لم تترك الأمر يمر مرور الكرام، زفت الخبر لوالدها وهي مبتسمة وكأنها تزف له خبر خطبتها، نظر لها الرجل ببلاهة للحظات قبل أن يسألها عن طبق الملوخية المتبقي من غداء البارحة، تركته ودخلت إلى المطبخ كي تنهي العمل الذي لا ينتهي، من أين تأتي كل هذه الأطباق المتسخة؟.. هل تتكاثر؟! 

لم تنم بسنت جيداً، بين الندم وكنها فعلت جرماً عظيماً والتوتر من أن هذا الوسيم يراقبها هي دون غيرها سرقها الوقت دون أن تشعر. 

قررت ألا تذهب للمدرسة وقررت أن تنام، على أية حال لا جدوى من الذهاب للمدرسة فلا مدرس يشرح ولا طلبة تحضر، تركت الأمر يرحل مؤقتاً وهي تستمتع بساعات قليلة من النوم قبل أن تستيقظ لتمارس روتينها اليومي في التنقل بين أماكن الدروس الخصوصية كي تحصل العلم الذي لن ينفعها في شيء فيما بعد. 

مرت الأيام وانتقلت تلك الذكرى لمؤخرة رأسها تتوارى بخجل خلف مشاكل عظيمة من مسائل الفيزياء التي لا حل لها وتجارب كيميائية عجيبة لا طائل منها، لكنها حين رأته توقف بها الزمن وقفزت تلك الذكرى لتزيح كل الموجودات على أرض دنيانا وتتصدر هي المشهد، تجمدت مكانها على الرصيف المقابل لمكان الدرس وهي تتأمله يقف مع صديق له يتناقشان بشأن شيء لا تعرفه، تباً لوسامتك! 

لمحها فخلع نظارته الشمسية في حركة سنيمائية شهيرة وهو ينظر لها بوله قاطعه انفجار صديقه ضحكاً بسماجة منقطعة النظير على الأداء المسرحي المبالغ فيه الذي خلع به نظارته، لكن نظرة واحدة منه كانت كفيلة أن تقطع نظرات زميله وتجعله يتقهقر بارتباك بعيداً عنه، تلاقت عيناهما للحظات كانت كفيلة أن تزرع بروحها ارتباكاً هائلاً وتوتر بلا حدود، نظرت أرضًا وهي تعبر الشارع بارتباك، مرت بجواره سمعته يقول لها بلوم: "من فضلك لا تعبرين الشارع مرة أخرى وأنت تنظرين أرضًا". 

تجاهلته وقررت أن تضع لهذه المهزلة حلاً رغم قلبها الذي يرقص طرباً الآن داخل صدرها، في نهاية الدرس الذي لم تسمع منه شيئًا ولم تعِ منه سوى أن العينين الخضراوين في الإضاءة البيضاء تكونان ساحرتان بشكل لا يصدق، ساحرتان لدرجة خطيرة وأن ابتسامته المنمقة توقف القلوب عن النبض من شدة جمالها!! 

في نهاية الدرس اقتربت من المدرس بخجل وهمست له ببضع كلمات سمعها جيداً قبل أن ينتقل بنظراته بحثًا عن الفتى الذي استشعر في نظرات المدرس صرامة تنبئ بقرب حدوث مشكلة، وضع أشياءه في حقيبة ظهره وهو يتعجل الرحيل لكن إشارة من يد المدرس جمدته مكانه وهو يتابع شفتيها تصبان الكلمات صباً في أذن المدرس وراقب تحول ملامح المدرس من الاستماع والتركيز للغضب، أشار المدرس للجميع أن يرحلوا إلا بسنت وهذا الفتى، أغلق الباب وطلب منهما الجلوس، سأل الفتى عن اسمه، أجابه بصوت مرتبك: "حامد فاروق الفقي" 

مصمص المدرس شفتيه للحظات وهو يرتب كلماته: "انظر يا فقي.. سأكون مختصراً في كلامي.. هذا مكان لتحصيل العلم فقط.. إذا أردت أن تمارس مراهقتك وحركاتك الصبيانية فعليك أن تمارسها بعيداً عن هنا". 

جاءه الرد بدهشة بصوت بسنت: "ماذا؟" 

حاول المدرس أن يحسن من موقفه قائلًا: "أقصد.. أقصد.. مارسها بعيداً عن هنا واترك فايزة لحالها". 

للمرة الثانية جاءه صوت بسنت محتجاً بدهشة: "بسنت". 

نظر لها وهو يسألها: "من بسنت؟" 

أجابته بغضب: "أنا بسنت!!" 

ابتلع ريقه وهو يصيح بالفقي: "نعم.. بعيداً عن هنا وعن بسنت.. إذا تكررت منك تلك الأفعال فسأضطر أن أطلب منك ألا تأتيني مرة أخرى وسأبلغ والديك بما تفعل". 

غلب على صوته اللهجة التحذيرية وهو يسأله: "هل فهمتني جيدًا يا فقي؟" 

ابتسم الفتى بسخرية وهو يمد يده في جيبه ليخرج منها قلماً عرفته هي جيداً: "من فضلك يا أستاذ أنا لم ولن أعاكس أختاً لي، كل ما في الأمر أنها أسقطت قلمها وأنا وجدته وكنت أريد أن أرد إليها ضالتها لا غير". 

خطفت القلم من يده وهي تتأمله بارتباك وتتفادى نظرة اللوم التي تعتمل في عيني المدرس وللمرة الثانية تعتذر بخجل وصوت غير مسموع قبل أن ترحل وخلفها الفقي الذي نظر للمدرس بلوم للحظات وهو يخرج من الغرفة خلفها. 

 

(كامل)

حين تُحاصرك الأزمات تمر بعدة مراحل من أجل تقبل الحزن، نموذج كيوبلر روس المعروف ب مراحل الحزن الخمسة هو نموذج يصف خمس مراحل للطريقة التي بتعامل بها الإنسان مع الحزن الناتج عن المصائب، خاصة لو كان الشخص قد شخص بمرض قاتل أو عانى من خسارة كارثية، خسارة كارثية كأن يعرف المرء مثلاً أنه غير قادر على الإنجاب، أن يرى زوجته تضحي بسنين شبابها وربيع عمرها في سبيل عدم التخلي عنه، أن يرى وفاءها وهي تقول للجميع أن العيب منها وأن زوجها تحملها بصبر يُحسد عليه. 

مر الأستاذ كامل بكل هذه المراحل أثناء فترة انعزاله في البيت بعد رحلة تعيسة للطبيب عرف خلالها أنه لن ينجب مهما حدث، مر وقتها بالمرحلة الأولى وهي مرحلة "الإنكار". 

كلما سأله أحدهم السؤال السخيف عن سبب عدم إنجابهم حتى الآن، تجهم وجهه وهو يجيبه بجمود كالإنسان الآلي: "أنا بخير!"

وهي إجابة بالطبع لا علاقة لها بالسؤال، ولأن الشخص الذي يسأل زوجين جديدين سؤالاً كهذا ويسمح لنفسه بهذا التدخل السافر في علاقتهما، فغالبًا ما يسأله مرة أخرى: "هل حدث شيء لا قدر الله؟" 

للمرة الثانية يظهر على ملامح كامل الشرود وهو يجيب بجمود: "لا يمكن أن يحدث هذا، ليس لي". 

في تطبيق محترم للنظرية الشهيرة (هذا يحدث للآخرين فقط), تستمر هذه المرحلة لبرهة من الوقت قبل أن يتحولّ الإنسان للمرحلة الثانية، وهي مرحلة "الغضب". 

المرحلة التي سهر فيها كامل ليالٍ طويلة يبكي وهو يصرخ بألم بصوت مكتوم كي لا تسمعه زوجته التي تبكي بدورها في غرفة النوم، يصرخ بألم يعتصر قلبه: "ماذا فعلت كي يحدث هذا لي؟ 

سأل السؤال ذاته مراراً وتكرارًا وهو لا يعي أن هذا ابتلاء من الله يجب عليه احتماله، تساءل مرات ومرات: "لماذا أنا دونًا عن غيري؟"

غضبه الذي كان يتصاعد كُل دقيقة والدماء التي غلت في عروقه كانت تهدأ يوماً بعد يوم لذا كانت آخر تساؤلاته: "من الملام على ما يحدث لي؟.. ومن سيتحمل عواقبه؟" 

وبفعل السحر يتبدل الغضب وتنطفي الثورة ليحل محلهما الرجاء والأمل كضيوف شرف في المرحلة الثالثة وهي مرحلة "المساومة". 

المرحلة التي يهدأ فيها القلب ويتحولّ لمرحلة صدق فيها كامل أن يمكنه فعل أي شيء كي تستمر الحياة وتمضي الأيام بلا ألم أو مرار يملئ القلب، المرحلة التي بدأ كامل فيها المساومة مع الأمل، المرحلة التي وعد نفسه فيها أنه مستعد لعمل أي شيء مقابل أن يسعد زوجته ويعوضها عما آل لها بسببه، المرحلة التي شكر فيها الله على ابتلائه مهما كان قاسياً والمرحلة التي عرفت رجوعه لسجادة الصلاة مرة أخرى وتعطيرها بدموعه وهو يحمد ربه على مصابه الأليم، بهذه الأفعال قطع تذكرة عبوره للمرحلة الرابعة وهي المرحلة الأسوأ، مرحلة "الاكتئاب".

المرحلة التي أطلق فيها لحيته الخشنة وجلس في أحد أركان غرفته يبكي بحسرة وهو يقول لنفسه بصوت ملأه الحزن وسيطر عليه الاكتئاب: "سنموت.. سنموت كلنا في النهاية.. نحن ضيوف في هذه الحياة". 

حاولت زوجته أن تلملم شتات نفسها وتهون عليه ألمه، أخبرته أن كُل شيء سيصبح على ما يرام، الله قادر على كل شيء، نظر لها بعينين تترقرقان بالدموع وهو يخبرها بنبرة منكسرة أن زمن المعجزات انتهى، قالت له أنهما تعاهدا على السير معاً، تعاهدا على الوقوف بجوار بعضهما البعض في الضراء قبل السراء، أخبرها ودموعه تتساقط على وجنته: "آفل نجم حلمنا.. فلماذا سنستمر في هذه الحياة بعد الآن". 

في يوم استيقظ وقد شعر أن هماً انزاح من فوق قلبه، كأن غطاء أسود كثيفًا قد أزيل عن حياته فأشرقت شمس التفاؤل لتملأ قلبه بالسعادة، قامت زوجته لتجده يقف أمام المرآه يحلق ذقنه وهو يصفر بلحن أغنية يحبها، ابتسمت وهي تقول بابتسامة صادقة: "سأحضر لنا الإفطار".

أجابها بصوت عالٍ كي تسمعه وهي تقف في المطبخ: "لا تنس.. البيض بالسمن البلدي" 

جلسا يومها على منضدة الطعام وبصحبتهما ضيف هو المرحلة الخامسة، مرحلة "التقبل" المرحلة الأخيرة التي يملئ سماءها الجملة الألطف على الإطلاق (لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن تستعد لما سيأتي) وهي المرحلة التي ملأ فيها السلام قلب كامل، تفهم الفقد الذي حدث في حياتهما وبدأ يرضى بما كتب الله له، من المفترض أن تنتهي فصول الحكاية عند هذا الحد، لكن لكل قاعدة شواذ، لذلك لم يخرج كامل من نموذج كيوبلر روس بخير لكنه عاد مرة أخرى للمرحلة الثانية، توقف عند سؤالاً مهماً للغاية. 

(من الملام على ما يحدث لي؟.. ومن سيتحمل عواقبه؟)

(حسان)

يقولون دائماً إن الإنسان هو من يصنع النقود وأن النقود لا تصنع إنسان أبداً، وأن النقود حين تجري في الجيوب لتحول صاحبها من الفقر للثراء لكن أصحاب الأصول لا يتملكهم الغرور ويسيطر على تعاملاتهم مع غيرهم من البشر، وحسان لم يكن من أصحاب الأصول.. أبداً!

حين زادت نقوده نسي حارته التي نشأ فيها وتحول لمسخ يمشي بينهم الخيلاء يسبقه غروره، يعرف جيداً أنهم يكرهونه لكن يظن أنهم يكرهونه لأنه أحسن منهم، الذي لا يعرفه أنهم يكرهونه لأنه مغرور سيء الخلق، بمرور الأيام وبسبب خلقه السيء صار الجميع يتحاشوه كأنه مصدر بمرض معدٍ.

وجد نفسه في الوحدة بعيداً عن هؤلاء الرعاع الفقراء كما كان يراهم، ووجدوا راحتهم في تجنب هذا القميء المغرور، اكتفى بمهنته التي تدر عليه أموالاً كثيرة ورفض الانتقال لأي مكان آخر كي لا يلفت الأنظار إليه، كي لا يقف يوماً أمام وكيل نيابة شاب كث الشارب ليسأله: "من أين لكَ هذا أيها الممرض"؟!

اكتفى بحسابه السمين في البنك الذي أخذ يتضخم ويسمن دون أن يدري أنه من الممكن لهم أيضًا أن يسألوه من أين لك هذا لكنه طالما في أمان فلا داعي لاتخام العقل بافتراضات سيئة، واكتفى بأصدقائه الذي يسهر معهم يومياً بعد أن اشترط على صاحب المستشفى أن يعمل دائماً وأبداً في ورديات الصباح فقط، أصدقاؤه الذين تمتلئ جلساتهم بالشكر والعربدة، يعود ليلاً يترنح من أثر السكر والثمالة ويصعد لشقته وحيدًا بعيداً عن أعين المتطفلين وفي الصباح يجبره المنبه على الاستيقاظ، يتطلب الأمر فنجانًا من القهوة كي يستعيد بعض تركيزه ويبدأ يومه المتعب، يعود لينام قبل أن يستيقظ ليلاً ليبدأ سهراته المحببة إلى قلبه. 

لكن يوماً ما اضطر حسّان أن يغير من روتينه حين استيقظ على رنات هاتفه، مد يده ليبحث عن هاتفه على كوموده المجاور لفراشه وهو مغمض العينين، وجده وأسكته دون أن يفتح عينيه، أراح رأسه على الوسادة مرة أخرى وهو يعد نفسه بنوم هانئ لا تقطعه رن... 

رن هاتفه مرة أخرى فمد يده وهو مغمض العينين للمرة الثانية لكن هذه المرة سكنت علامات الضيق ملامحه، أسكته للمرة الثانية وهو يمطط جسده ويحاول أن ينام مرة أخرى لكن للمرة الثالثة تعالت رنات هاتفه، فتح عينيه وهو يقاوم الضوء الذي شعر به عارماً يغتصب عينيه، وضع يده أمام عينيه كي يهدئ من حدة الضوء وهو يحاول أن يرى اسم المتصل، صوت الهاتف يتغلل في رأسه فيدكه دكًا، نبضات الألم تعيث في رأسه فسادًا، اضطر أن يرد دون لأن يتبين اسم المتصل: "هل هذا ميعاد مناسب للاتصال(، الساعة لم تتجاوز الخامسة فجراً!" 

أجابه صوت هادئ: "حسّان.. أنا سامي" 

اعتدل على فراشه وهو يمسد رأسه بيده الحرة متسائلاً في اهتمام: "دكتور سامي عباس؟" 

"نعم.. أنا دكتور سامي" 

"خير يا دكتور، ماذا حدث؟" 

"أريدك أن تحضر للمستشفى في أسرع وقت ممكن" 

أبعد الهاتف عن أذنه ونظر للساعة قبل أن يقول لسامي: "ساعة وأكون في المستشفى" 

سمع صوت محدثه يعج بالضيق وهو يقول: "نصف ساعة يا حسان.. نصف ساعة" 

أغلق سامي الهاتف دون أن يودعه، اعتدل حسّان على الفراش وهو يستشعر أهمية الأمر، سامي لا يحادثه شخصياً سوى إذا كان الأمر هاماً عاجلاً لا يحتمل التأجيل، الصداع يدك حصون رأسه فيطرد التركيز شر طردة، دلك رأسه قليلاً دون جدوى، قام مُتكاسلاً ليضع رأسه تحت ماء الصنبور البارد لعل الماء ينجح في طرد الدوار، تناول حبتان من مخدر شهير هدفه أن يزيد من الحماس والطاقة في عروقه قبل أن يخرج هاتفه ويستعمل أحد التطبيقات الشهيرة بخدمة طلب السيارات، انتظر قليلاً حتى أتاه إشعار بوصول سائقه، نزل من شقته ليجد السيارة في انتظاره، سيارة أنيقة وسائق مهذب وخدمة ممتازة، استقبله السائق بابتسامة لطيفة وهو يسأله عن وجهة الوصول. 

* * *

بمجرد أن دلف من باب المستشفى حتى استقبلته موظف الاستقبال بابتسامة رسمية وهو يقول له: "دكتور سامي في انتظارك بمكتبه منذ حين". 

نظر في ساعته، مر من الوقت ساعة كما أخبر سامي، لا يستطيع أبداً الحضور في وقت أقل، أشار لأحد العمال فأتاه سريعاً، يعرف العامل جيداً قدر حسان وشأنه في المشفى، طلب منه حسّان أن يخرج للمقهى الشهير الموجود على بداية الشارع ليأتيه بكوب قهوة كبير، أعطاه عملة مالية تزيد عن ثمن الكوب وطلب منه أن يحتفظ بالباقي لنفسه، لا يهتم حسان أبدًا بعمل الخير لكنه يهتم جداً بألا يرفض له طلب حتى ولو استغل نفوذ نقوده، المهم عنده أن يصبح شخصية صارمة لا يرد لها أمر. 

اتجه للمصعد وضرب زر الدور الموجود فيه مكتب دكتور سامي مدير المستشفى، انتظر في المصعد يعدل من وضع ملابسه، تذكَّر أول مرة قابل سامي بملابسه الرئة المقيتة والآن وهو يرتدي ملابس من ماركات عالمية تباع بمبالغ من الممكن أن تحل مشاكل أسر، أغلق زر قميصه العلوي قبل أن يشعر بالاختناق بعد لحظات فحرره وهو يتنفس بضيق، توقف المصعد وخرج منه حسّان، أشار لسكرتيرة سامي المتواجدة في المستشفى طوال فترة تواجد سامي، أشارت له بالدخول وهي تستعمل الهاتف لتبلغ سامي كي ينتظره، فتح حسّان الباب وهو يبتسم بتكلف، أشار له سامي أن يجلس وهو مشغول بقراءة بعض الأوراق، موسيقى هادئة تملأ الغرفة، نغمات بيانو ساحرة تخلب الألباب، وضع سامي الأوراق أمامه ووضع نظارته فوقها بهدوء وهو يقول لحسان: "شوبان". 

ظهرت البلاهة على وجه حسّان وهو يقول: "شوفان(، هل تريد شوفان؟" 

ظهرت علامات الضيق على وجه سامي وهو يقول له مصححاً: "شوبان.. فريدريك شوبان.. البولندي الأعظم" 

فطن حسّان أنه يتحدث عن الموسيقى فآثر الصمت كي لا يكشف جهله مكتفياً بابتسامة مُجاملة، استكمل سامي حديثه قائلاً: 

"in E Flat Major Nocturne"

خاف حسان أن يتحدث فيقاطع تجليات سامي، سامي لا يحدثه، سامي يفكر بصوت عال: "شوبان كان يغازل قلب البيانو ويجعله يتحدث.. نغماته كالسحر.. دافئة تهدئ القلوب.. أتعرف.. حين أتوتر أهرب لشوبان فورًا.. هو الوحيد القادر على تهدئتي، شعر حسان أن عليه أن يتدخل في الحوار عند هذه النقطة فسأل بهدوء: "ولماذا حضرتك متوتر؟" 

أمسك سامي بالأوراق التي كان يقرأ فيها قبل دخول حسان للغرفة وهو يقول: "هشام محمد النجدي". 

نظر له حسّان بدهشة وهو يقول: "وزير الداخلية؟" 

ظهرت ابتسامة متوترة على وجه سامي وهو يقول: "وزير الداخلية"! 

هنا تغيّرت كل الأمور، سيحتاج حسان لكوب القهوة بجوار موسيقى شوبان هذا كي يستطيع هضم ما يراه أمامه في الأوراق!

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا