من روائع القصص العالمية ترجمة حصة إبراهيم العمار مغامرة في صالون الحلاقة

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-11-01

مغامرة في ... صالون حلاقة 

للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry

حينما ولج (ساعي البريد) إلى دكان الحلاقة بالأمس ما كان هناك مقعد شاغر! عج المحل بالزبائن فتنفس الساعي الصعداء، إذ خيل إليه - لوهلة - أنه بمأمن من الحلاق وشقرته الرهيبة، على أن الأخير فطن إلى وجوده فألهبه بنظرة حادة استقرت عليه.

- دورك بعد هذا - أشار إلى سيئ الحظ الذي أسلمه رأسه. ورمقه ثانية بنظرة حارقة يتطاير من أرجائها الشرر، فما كان من الساعي المسكين إلا أن غاص في كرسي سُمر إلى الجدار وسحابة من يأس مستحكم تكتنف كل ذرة في فؤاده، وأدرك أنه قد أُسقط في يده، وبأنه قد سعى إلى حتفه بظلفه!

بعد عدة ثوان تعالت جلجلة ودمدمة قذف خلالها بالزبون الذي كان على كرسي الحلاقة، والذي ما إن أيقن بالسلامة حتى ولى هارباً ... والعامل الأفريقي يعدو خلفه بمقشته المدببة الأطراف.

فأما ساعي البريد فقد ألقى نظرة طويلة صوب ضياء الشمس وعلق على ربطة عنقه ورقة صغيرة تتضمن عنوانه إذا ما حصل له مكروه، ثم توكل على الله فجلس على كرسي الحلاقة يائساً مستسلماً!

ورداً على نظرة التساؤل الحادة التي رمقه الحلاق بها أفاده بأنه لا يرغب في أن يحلق له، على أنه تلقى نظرة أخرى ملؤها الازدراء واللا تصديق!

وأمال الحلاق الكرسي، ثم عمد إلى رغوة الحلاقة فمزجها، وما إن شرعت الفرشاة في عملها قافزة بين ثنايا وجهه المذعور يمنة ويسرة وشمالاً وجنوباً ملغية حواسه طراً حتى غاص في مقعده منهاراً، ولم يُعِد إليه وعيه سوى صوت تلك الآلة الفولاذية التي كان الحلاق يجرف الرغوة بها ثم يمسحها في كم قميص الساعي!

- بات امتطاء الدراجات الهوائية الشغل الشاغل للجميع الآن!

لسوف يصعب على النخبة قصرها على طبقتهم ... ليس بالإمكان منع الناس من ركوبها والشوارع ملك للجميع كما تعلم ... أنا شخصياً لا أرى ضيراً في تلك الهواية التي تتسع دائرة شعبيتها يوماً بعد يوم ... حتى يستيقظ الناس يوماً والنساء يمخرن بدراجاتهن عباب الطرقات العامة ... من يدري!

إنه تمرين جيد لهن، ولسوف تعوض تلك المزينة بشاعة الشكل الذي ستبدو إحداهن عليه وهي تقود دراجتها كقطيع من القطط المتصارعة فوق حبل غسيل. على أني أعجب من صبرهن على ما يلاقينه في خضم تقليدهن للرجال، أليس بإمكانهن امتهان الرياضة دون الظهور بذلك المظهر الخشن غير اللائق بما حباهن الله من أنوثة ورقة؟! لو أخبرتك بما فعلته إحداهن منذ بضعة أيام فلن تصدقني!

وحدق على إثر ذلك زبونه بنظرة رهيبة جعلت المسكين يصارع الاختناق تحت طبقات من رغوة كثيفة هازاً رأسه مؤكداً تصديقه المطلق للخبر المنتظر.

- تم استدعائي إلى بيت في شارع (مككيني) فحملت عدة الحلاقة واتجهت إلى العنوان المطلوب، وكان ثمة شابة مليحة تجول بالدراجة أمام البوابة مرتدية تنورة قصيرة وجوارب طويلة وسترة رجالية كتلك التي يرتديها معشر الذكور!

وطرقت الباب، ففتحوا وأدخلوني إحدى الغرف، ولم تمض فترة حتى جاءت فتاة الدراجة إياها ... وأعقب ذلك دخول سيدة خمنت أن تكون والدتها - باشِر الحلاقة - قالت الشابة: وليكن ذلك مرتين على التوالي لا تتأخر فلدي ارتباط!

وصعقت لهول المفاجأة!

- تابع الحلاق - على أني تمالكت نفسي فأخرجت عدة الحلاقة. كان جلياً أن تلك الشابة تتحكم في أمور البيت دون منازع. وهمست والدتها في أذني بأن ابنتها من تلك الفئة التي ترأس جماعة طلابية تطالب بتحرير المرأة وأن تمكنها من إطالة شاربها قد أتاح لها مكان الصدارة عليهن، واسترخت الشابة في مقعدها فأقفلت عينيها، أما أنا فغمست الفرشاة في معجون الحلاقة ثم مررته برفق على شفتها العليا وما إن فعلت حتى قفزت من مقعدها في غضب صاعق مفاجئ تطاير شرره من عينيها.

- كيف تجرؤ على إهانتي - قالت كزوبعة جارفة وكأنها توشك أن تلتهمني!

اترك المكان فوراً - اخرج من هنا. صاحت مستشيطة.

وألجمت المفاجأة لساني ثم عدت فخمنت أنها طائشة متهورة فجمعت على عجل عدتي واتجهت صوب الباب الذي ما إن وصلت إليه حتى عاودني شيء من حضور الذهن فقلت لها:

- أنا متأكد آنستي أني لم أفعل ما يوجب الغضب، إنني أتصرف كشخص مهذب متى استدعى الأمر - كيف أهنتك؟

- غادر!. كررت وضبابات من مواقد الغضب الغالية بمرجل ذاتها لما تزل تلقي على محياها بظلالها إن بإمكاني تمييز القبلة المتسللة!

وهكذا فقد غادرت المكان. ما رأيك؟ سأله الحلاق بعد أن دفع بأصبعه كمية لا يستهان بها من معجون الحلاقة في فم الساعي!

- يخيل إليّ ... أنه من الصعب بمكان تصديق قصة كهذه!

قال الساعي بعد أن استدعى كل ما يملك من شجاعة.

وتوقفت يد الحلاق عن العمل فجأة ثم رمق فريسته بنظرة خبيثة حوت ضراوة هدوء ما قبل العاصفة جعلت الأخير ينتفض فرقاً ويسارع إلى قول:

- على أنه من الجليّ أنها حدثت كما قلت.

- لقد وقعت أحداثها فعلاً - قال الحلاق - باستطاعتي إثبات ذلك ... أترى ذلك الإبريق الأزرق على الرفّ؟ الثالث من اليمين؟ حسناً إنه الإبريق الذي حملته معي ذلك اليوم - أعتقد أنك الآن قد صدقت ما قلت.

- وما دمنا في معرض الحديث عن الرؤوس الصلعاء - قال الحلاق رغم أن أحداً ما نبس ببنت شفة عن الرؤوس الصلعاء فقد تذكرت قصة ذلك الرجل الذي خدعني هنا في (هيوستن) .. أنت تعرف أنه ما من شيء - غير الله - بقادر على إعادة الشعر إلى رأس أصلع ... كم من الأدوية تباع إذكاء لذلك الأمل على أنه لا يمكن إنبات جذور ماتت وشبعت موتاً.

جاء رجل إلى دكاني الخريف الماضي وطلب مني أن أحلق له. كان رأسه أصلع أملس ككوب شاي، ولم يكن بإمكان مستحضرات العالم إصلاح الحال. كان الرجل غريباً بالنسبة لي لكنه أخبرني أنه يدير مزرعة في أحد أطراف المدينة.

وجاء إلى المحل مرتين ثم فاجأني في الثالثة برغبته في أن أعيد الشعر إلى رأسه.

وتوقف الحلاق عند ذلك عن الكلام المباح، ثم عمد إلى رفّ أحضر منه شريطاً لاصقاً للجراح قبل أن يحدث بذقن الساعي جرحاً غائراً ألصق عليه قطعة منه وتابع:

- حينما يطلب الرجل محلول شعر في دكان حلاقة فمن السهل أن يحصل عليه. بإمكانك تركيب مستحضر يظل الإنسان يستخدمه لفترة طويلة قبل أن يكتشف عدم جدواه ... ويظل يتردد إبان ذلك عليك لتحلق له ذقنه، لقد أوهمت زبوني أن الدواء الذي وضعته له كفيل - إما واظب على استعماله - بإنبات الشعر في أملس الرؤوس.

لقد جلست فامتشقت ورقة وقلماً وكتبت له وصفة أخبرته أن بإمكانه الحصول عليها من أقرب صيدلية تتولى تركيبها ... وأمرته ألا يخبر أحداً بمحتوياتها لأني بصدد استصدار شهادة ملكية تحفظ حق تصنيعها لي، هكذا قلت له.

كانت الوصفة تحوي أشياء عدة غير ضارة: أملاح وزيوت اللوز وماء الورد وعناصر أخرى كتبت ذلك كله بشكل عشوائي لم أكن معه لأتمكن بعد مرور نصف ساعة من استحضار المواد الموصوفة ثانية، ودفع الرجل لي دولاراً ثم اتجه بها صوب إحدى الصيدليات.

وجاء إلى دكاني للحلاقة مرتين ذلك الأسبوع مؤكداً أنه يواظب على استعمالها ثم توقف عن المجيء لمدة أسبوعين وفاجأني بحضوره ذات ظهيرة معلقاً قبعته فور دخوله!

وصعقت حينما نظرت إلى رأس يعلوه أنعم وأغزر شعر رأيته ... مستحيل!

- قلت في نفسي أن يكون هذا الرأس بعينه هو ذلك الذي كان قبل أسبوعين أصلع كأكرة باب! وأكد لي أنه غاية في السرور وأن سعادته بشعره الجديد لا تضاهى وعصرت - وأنا أحلق ذقنه - فكري محاولاً تذكر بعض ما كتبته من محتويات تلك الوصفة العجيبة فما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وأُسقط في يدي ... إذ إني كنت على ثقة بأني قد وقعت بمحض الصدفة على تركيبة تعيد الشعر للرأس الأصلع ... تركيبة قد تعود علي بمليون دولار لو تمكنت من استحضار عناصرها - تركيبة قد تدر علي أكثر ما يدره منجم ذهب! وقررت استرجاع تلك الوصفة منه؛ لذا فقد قلت له وهو يهم بترك المحل ... بلهجة عادية: لا تخامرها رنة اهتمام:

- بالمناسبة سيد (بلنكت) لقد أضعت كتاب الوصفات الطبية وحيث أن على تحضير زجاجتين منه فإني آمل أن تعطيني تلك الورقة التي دونت لك الوصفة فيها، أود استنساخ صورة لها ما دمت هنا.

ويبدو أن القلق ساعتها كان بادياً على إذ إنه احتواني بنظرة طويلة غرق بعدها في ضحك عميق وقال:

- أقسم بالله إنك لا تحتفظ بوصفة لها، وإنك إنما كتبت عناصرها بشكل عشوائي فأصبت مستحضراً عبقرياً دون أن تدري - لا ريب وأني سأريح الملايين من ورائها.

سأكلف أحد المعامل بإنتاج كميات كبيرة منها.

وشرع الرجل في مغادرة المحل فناديته ثانية وانتحيت به ركناً قصياً أمضيت فيه نصف ساعة معه ... محاولاً إقناعه ببيعها لي - الوصفة أقصد - وبعد طول جدل وافق أن يتخلى لي عنه مقابل مائتين وخمسين دولاراً أدفعها له نقداً. وهرعت إلى المصرف من فوري فسحبت جميع ما ادخرت البناء بيت جديد، عندها سارعت بدفع المبلغ له فأعطاني الوصفة العجيبة بدوره ووقع على تنازل كامل لي بالحقوق ذات الصلة، كما وافق على التوقيع على اعتراف منه - كمجرب فعلي - بالنتائج المذهلة لها. خلال أسبوعين فقط من بداية الاستعمال.

وبدا الحلاق في امتطاء الاكتئاب والحزن الغاضب فأدخل أصابعه في ياقة الساعي بحدة تمزقت معها فتحة الزر الذي انطلق كصاروخ عبر الباب عابراً الرصيف إلى الطريق العام.

- في اليوم التالي شرعت في تنفيذ تلك المهمة - تابع الحلاق - فعبأت في "واشنطن" طلباً بحق ملكية وصفتي تلك، واتفقت مع إحدى الصيدليات الكبرى في "هيوستن" لتتولى تسويق منتجي، وبريق الثروة المتوقعة يكاد يذهب ببصري وبصيرتي، ثم قمت بتخصيص إحدى الغرف لتركيب ذلك الدواء إذ إني لم آمن عليه أن يسرق إذا ما قامت الصيدلية بتجميعه، ودفعت به إليهم فوضعوا الملصق عليه بعد أن قاموا بتعبئته في زجاجات أنيقة.

وتفرغت لذلك كلياً حتى إني تركت عملي بدكان الحلاقة، وكان السيد (بلنكت) قد زارني مرتين أو ثلاثاً فلاحظت أن شعره لم يتوقف عن النمو. ولم تمض فترة حتى تمكنت من إعداد ما قيمته مائتا دولار على أن يوافيني السيد (بلنكت) يوم السبت كيما يقدم شهادته المتفق عليها لأقوم بدوري بطباعتها على دوريات ومنشورات أغرق المدينة بها، وكنت أنتظره في غرفتي التي ركبت المستحضر فيها الساعة الحادية عشرة من يوم السبت حينما فتح الباب ودخل السيد (بلنكت)! كان غاية في الانفعال والغضب:

- اسمع - صاح قائلاً - ماذا دهى محلولك الجهنمي؟

ورفع قبعته فلاحظت أن رأسه كان أصلع لامعاً كبيضة من الصيني.

- لقد سقط عن بكرة أبيه! قال بصوت أجش. كان ينمو بشكل طبيعي حتى صباح الأمس حيث بدأ في التساقط إلى أن غدا بلقعاً كصحراء قاحلة هذا الصباح. ما فائدة دوائك؟

- سألني بغضب - إن كان يطيل الشعر ليسقط بكامله لاحقاً!

- ناشدتك الله سيد (بلنكت) - قلت متوسلاً - ألا تتحدث عن ذلك وإلا خربت بيتي. لقد استثمرت جميع ما أملك في هذا الدواء وعليّ أن أستعيد نقودي. ادل بشهادتك كما اتفقنا لقد أعطيتك مائتين وخمسين دولاراً.

لكنه كان غاضباً جداً وهددني بأنه سيشهر بي كمحتال ولم يلجم ثورته سوى مائة دولار وافق أن يأخذها مقابل صمته، وخرجت فاستدنت المبلغ ودفعته إليه، عندها قام بتحرير شهادة ذيلها بإمضائه وغادر المكان.

- وهل وفقت في بيع مستحضرك؟ سأله الساعي بنبرة رقيقة حرص ألا تستفزه - على أن الحلاق رمقه بنظرة احتقار وسخط قبل أن يقول بمنتهى السخرية:

- أجل ... بالطبع نفذت الكمية بكاملها. وتوقف قبل أن يقول متهكماً - ما بعت منه سوى خمس زجاجات، جاء مشتروها بعد شهر لاستراد ما دفعوه ... ما نمت شعرة واحدة في رأس أي منهم -.

- وكيف تفسر نمو الشعر إذاً في رأس السيد (بلنكت)؟

سأله ساعي البريد.

- وكيف أفسر ذلك؟

- كرر الحلاق السؤال بنبرة خطيرة مرعبة جعلت الساعي يرتعد فرقاً - كيف أفسّر ذلك سأقول لك كيف:

ذهبت يوماً إلى أقصى المدينة حيث يقطن السيد (بلنكت) وسألت عنه.

- أي سيد (بلنكت) تريد؟ سألني رجل أطل من البوابة ز

- هيا! دع المزاح! السيد (بلنكت) الذي يقطن هنا.

- لقد رحل كلاهما.

- ماذا تقصد (بكليهما)؟ قلت ... ثم أعملت الفكر فسألته:

- صف لي الأخوين (بلنكت).

- إنهما (كفولةٍ) قسمت نصفين - كانا توأمين متشابهين إلى درجة بات من المستحيل معها التميز بينهما مظهراً أو صوتاً، الفارق الوحيد بينهما هو أن أحدهما كان يتمتع بشعر كثيف، فيما كان رأس الآخر أصلع كبيضة دجاجة.

- وهكذا. قال الحلاق ساكباً سائلاً لزجاً داخل قميص الساعي - هكذا أفسر ذلك! كان (بلنكت) الأصلع يأتي يوماً، ويفد أخوه ذو الشعر يوماً آخر دون أن أتمكن من التمييز بينهما على الإطلاق.

عندما انتهى الحلاق من عمله ... لاحظ ساعي البريد أن الأفريقي كان يترصد بمكنسته المدببة له، فما كان منه إلا أن فر عبر الباب الخلفي قبل أن يتسلق جداراً من الطوب فتبتلعه إحدى الحارات الجانبية

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا