6)
بحث الجميع عن روايات الرعب وقصصه وأفلامه بشغف غير طبيعي، يحب الجميع إحساس هذا يحدث مع الآخرين فقط، يحب الجميع شعور اندفاع الأدرينالين في العروق، نشوة انتهاء مشهد الرعب أو فيلم الرعب في القلوب والأرواح نشوة عارمة لا يعرف قيمتها إلا الباحث عنها.
يعشق الجميع شعور القلوب وهي تدق بسرعة، شعور الدماء وهي تجف في العروق، شعور الأجساد وهي ترتعد بعد الاطمئنان، شعور الخوف الذي يلازم الفرد فترة بعد انتهاء تجربته، التلفت حوله بهلع بحثاً عما يختبئ في الأركان المظلمة، انتصاب شعر العنق والقشعريرة التي تنتاب كل الجسد، شعور ابتلاع الريق بصعوبة والتنفس الحاد، الألم الخفيف الناتج عن تسارع دقات القلب، كلها تجتمع سويًا لتخلق نشوة لا يعرف قيمتها إلا الباحث عنها.. عاشق الرعب فقط.
لكن مهما كان المرء شجاعًا جسورًا لا يخاف، مهما ضحك أو تضاحك أمام شاشات العرض في السينمات، مهما قال أو كرر جملة: "لم أخف" الشهيرة التي يعشق الصغار تكرارها متظاهرين بالشجاعة بينما ترتعد قلوبهم خوفًا داخل صدورهم، مهما حدث...
حينما يجد الفرد نفسه بطلًا لواحدة من القصص المرعبة، حينما يجد المرء نفسه عالقاً في لحظة من اللحظات المخيفة يتوقف العالم كله ويصبح ضحلاً من حوله، تختفي كل الموجودات ويظل وحيداً يجابه الرعب وحده، يبحث كثيرًا لكن حين يبدأ الرعب الحقيقي... يصبح كل شخص بمفرده تماماً!
* * *
أمام عينيها كانت دميتها الكبيرة تجلس على طرف فراشها، ابتسامتها اللطيفة التي كانت تُزين شفتيها البلاستيكيتين كانت الآن ابتسامة شرسة.. ابتسامة مفترسة، نظرت لها الدمية وهي تميل برأسها ناحية اليسار قليلاً، يدها مرفوعة أمام شفتيها لتشير لها بالتزام الصمت.
اتسعت عينا بسنت بخوف لا مثيل له، مئات الأفكار ترددت في رأسها وآلاف الأسئلة التي لا إجابة لها أبحرت تائهة في بحور خوفها، لكن شعورًا واحدًا سيطر عليها تماماً.. رعب لا مثيل له!
ارتعدت شفتها السفلى وهي تحاول أن تتحدث، لكن صوتها هاجر حنجرتها مرتعدًا، أبى أن يساندها في هذا الموقف، عدلت الدمية من وضع رأسها ببطء، حركتها ديناميكية بطيئة، هبط ذراعها جانباً، رمشت بعينيها ببطء وهي تتأمل الدموع التي هطلت من عيني بسنت، كانت ترتعد خوفًا، مدت الدمية يدها ببطء شديد وهي تمسح دموعها، كانت يدها ذات ملمس صلب، بارد ومخيف!
مسحت بسنت دموعها بسرعة وهي تعتذر بكلمات غير مفهومة وهمس غير مسموع، رفعت الدمية يدها لشعر بسنت، مسدت شعرها بيد قاسية تحمل برودة غير طبيعية، ارتعدت بسنت، تغيّر جو الغرفة فجأة ليصبح قارساً شديد البرودة، رائحة عفن سيطرت على المكان بأكمله، أغلقت بسنت عينيها بخوف وهي ترتعد من الخوف، تكاد تتبول على نفسها من شدة الفزع، تحسست الدمية ملامحها لفترة قبل أن تبتعد عنها، فتحت عينيها لتتأمل ملامحها المرعبة، لطيفة كانت حين كانت دمية لكنها مُخيفة حين تحولت فجأة لكائن حي، رغم ظلام الغرفة إلا أنها كانت تراها جيداً، تكيفت عينيها على الظلام سريعاً فميزت حدودها وتحركاتها، رفعت الدمية يدها فجأة بحركة سريعة فأنار مصباح صغير في الصالة، أنار الغرفة قليلاً، الضوء الخاف وظلاله أبشع ألف مرة من الظلام، أشارت لها الدمية أن تسمعها جيداً، بصوتها الطفولي الضعيف سألتها: "هل.. تعرفين.. لماذا.. أنا.. هنا؟"
نطقت الكلمات متقطعة ببطء مُرعب، كان قلب بسنت يتوقف مع كُل كلمة، تمنت لو أن الذي تراه وتسمعه وتعيشه ليس حقيقياً لكن للأسف كان حقيقيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هزت رأسها ببطء وهي تبكي بخوف، مالت الدمية برأسها ناحية اليمين وهي تقول ببطء: "أنت.. معاقبة"
هزت بسنت رأسها دلالة على موافقة الدمية على كلامها، لا تعرف لماذا هي معاقبة.. لا تعرف من الذي يعاقبها.. لا تعرف سوى شيء واحد فقط.. أنها تريد لهذا كله أن ينتهي تماماً وبأقصى سرعة، مالت الدمية برأسها تجاه اليسار وهي تقول بصوتها المرعب: "هل تعرفين.. لماذا؟"
هزت رأسها نافية تمامًا أن تكون عالمة بما يحدث، رفعت الدمية يدها ببطء وهي ترفع خصلة شعر ابتلت بالدموع، نظرت في عيني بسنت بعيني لا تحملان أي إحساس على الإطلاق، عينين ساكنتين جامدتين يلتمع فيهما شر وحقد اقتربت منها الدمية ببطء شديد وهي تنظر في عينيها بقوة، لم ترمش الدمية وهي تقول لها ببطء: "هل.. تذكرين.. حامد؟"
هزت بسنت رأسها ببطء، بالطبع تذكر حامد وبالطبع فهمت لماذا تعاقب، قشعريرة باردة اجتاحت جسدها بأكمله، أغلقت عينيها وهي تهز رأسها بعنف محاولة أن تطرد ما يحدث من رأسها، محاولة أن تنفي واقع أن هذا يحدث فعلاً، فتحت عينيها لتجد الدمية تقف أمام فراشها تنظر لها بتحدي وهي تشير بيدها تجاه ساعة الحائط المعلقة، نظرت لها بسنت وهي تتأمل الوقت بغير فهم لحظات بطيئة مرت وهي تتأمل الوقت ببلاهة قبل أن تدرك هذا الوقت بالضبط هو الوقت الذي قتل فيه الدرويش...
حينما فهمت حركت الدمية يدها في حركة دائرية، تسارعت عقارب الساعة تدور بسرعة جنونية، اهتزت الساعة بجنون والحائط يتشقق من خلفها، تساقط طلائه أرضًا والساعة ترتجف هلعاً قبل أن تسقط على الأرض، تابعتها بسنت بعينيها قبل أن يبحث بعينيها عن الدمية لتجدها في مكانها تقبع بلا حراك كأي دمية أخرى، الشق الذي اجتاح الحائط والساعة التي تفككت أوصالها كانوا أدلة لا تحمل الشك على صحة ما رأت..
نظرت للحائط مرة أخرى وهي تتذكر حامد، أغلقت عينيها وتركت الذكرى تسري لجسدها الذي انتهكته الرجفة!
* * *
كل أب في هذه الدنيا يحلم أن يرى ابنته فعروسًا تطل بالأبيض لترقص وسط صديقاتها بفرح أمام فتى أحلامها الذي يرمقها بأعين تلتمع حبًا وفخرًا وامتناناً لربه الذي رزقه هذه الفتاة، ويكره أن يرى ابنته في أي شر أو ضرر، يكره دموعها حين تسيل من عينيها لأنها تشعره بضعفه وعجزه، يكره حُزنها لأنه يملأ قلبه بالمرارة والألم..
لكن في بعض الأحيان يجد الأب ابنته في مكان لا يُحسد عليه، تأمل كامل بأعين سكنها الخوف ابنته الوحيدة في شاشة التلفاز، لم يكن يفهم ما الذي يحدث، في البداية توقع أنه فيلم أو مسلسل مرعب من هؤلاء التي تعج بهم القنوات وأن بطلته طفلة تُشبه ابنته لكن قلب الأب لا يخطئ ابنته أبداً، كانت تنظر له عبر الشاشة وهي تبكي وتناديه بصوت يرتعش خوفًا، انتفض قلبه من موضعه، لو لم تكن ابنته لما شعر بهذا الخوف، اعتدل على الأريكة بفزع، سالت الدموع من عينيه دون أن يدري، وقف واقترب من شاشة التلفاز المعلقة على الحائط خطوة، أمام عينيه كانت ابنته وحيدة في الغابة التي رآها في حلمه، غابة سوداء مظلمة، أشجارها ذابل أوراقها ضامر جذعها، يسكنها الخوف والفزع ولا يسمحان لغيرهما أن يقترب منها، تغرب شمسها لتسمح لهما بتملك قلوب قاطنيها، كانت ابنته تركع أمام شاشة التلفاز وهي تبكي وتناديه وصوتها يرتعش من شدة الخوف: "بابا!!!"
مد يده ليلمس شاشة التلفاز، تابعت ابنته حركة يده، إنها تراه6، قرص نفسه بقسوة ليتأكد أنه لا يحلم، لكنه شعر بألم رهيب ناتج عن قرصته، إنه لا يحلم، تأمل ابنته وهي تستغيث به وعلى وجهه أعتى علامات البلاهة.
شمس من نار بدأت تشرق في سماء الغابة السوداء لتملأها بنور أحمر مقبض يُرجف القلوب من الوجل، شمس ضوؤها كالنار تحرق قلبه من شدة قلقه على ابنته، كان يتمنى لو يتحرك أو يجد طريقة لإنقاذها لكن الخوف شل جسده تماماً، من خلفها بدأت تتضح ملامح الغابة، أشجار ذابلة وأوراق ساقطة أرضًا، جذوع أشجار مائلة لتستند على أخريات سليمة نهش جذعها الدود، ثعابين ضخمة مفترسة تزحف أرضًا حول ابنته وتتلوى حول بعضها البعض بشكل مرعب، طيور تحوم في السماء منتظرة مقتل ابنته لتأكل من كبدها، لمح حركة قادمة من طرف الشاشة فانتفض جسده بقوة لم يتوقعها، رجلان عاريان تماماً يقتربان من ابنته ببطء لكنه لا يرى ملامحهما بوضوح، أخذا يقتربان من ابنته ببطء وهو يبكي، اقترب من الشاشة مرة أخرى وحاول أن يجد مدخلاً أو مخرجاً يستطيع عبره إنقاذ ابنته لكن الشاشة المصمتة صدته ببرودة وجفاف، صرخ بها: "اهربي يا صغيرتي"
انتبهت لهلعه وخوفه، أشارت له على أذنها أنها لا تسمعه جيداً، كانت يدها ترتعش وعيناها حمراوان من نزف الدموع بغزارة، أشار لها بيد ترتعش من الفزع تجاه اللذين يقتربان منها من خلفها، استدارت ببطء ورأتهما، طرقت بقبضتها الصغيرة على الشاشة الزجاجية لكن بدون فائدة، هو يسمعها ويشعر بها وهي تراه فقط، أشار لها أن تهرب بعيداً لكن الابن حين يخاف ينتظر من والده أن يتحول لرجل خارق لينقذه فما بالك أيها الأب تقف أمام الشاشة مرتجفاً بلا حول أو قوة!
اقترب منها الرجلان ببطء، صرخ فيهما بخوف أن يبتعدا عنها، لكن ملامح وجهيهما لم تتغيّر حينما اقتربا من الشاشة وأدرا وجهيهما إليه فهم لماذا لم ير ملامحهما منذ البداية، وجهيهما عبارة عن قطعة من اللحم بلا ملامح، فقط قطعة من اللحم، حركا رأسيهما تجاهه ورغم أنها بلا ملامح إلا أنه شعر أنهما يبتسمان بسخرية، شعر بالغضب، صرخ بهما أن يبتعدا عنها.. أن يتركاها لحالها.. أن يأخذاه بدلاً منها، حاولت الهرب إلا أن الأوان كان قد فات أمسكاها من ذراعيها وجراها بعيداً عن الشاشة، كانت تصرخ وهي تستغيث بأبيها الذي يقف أمام الشاشة مرتجفاً وقلبه يكاد يقف من شدة شعوره بالعجز، استيقظت زوجته فزعة وهرعت لغرفة المعيشة وهي تصرخ باسم ابنتها التي على صوت صراخها حتى كاد يوقظ الأموات، سمعها تشهق وهي تحوقل وتبسمل من خلفه تجاهلها وهو يراقب أحد المسخين وهو يجرح ذراع ابنته بمخلبه الذي يشبه مخالب الحيوانات ويخط على جبينها كلمة كاد قلب كامل أن يتوقف ويقرأها، كلمة واحدة بدلت كُل شيء
"سلمى"!!
* * *
طارت ثمالته بعيداً وحل التعقل مكانها سريعاً، حاول عقله أن ينفض عنه غبار الترنح ويستعيد سيطرته على الأمر لكن الخوف أزاحه جانبًا.. فقد آن أوان فرض سطوته على الجميع ها هنا..!
تراجع حسان للخلف سريعاً وهو ينظر لما بداخل الخزانة بدهشة وغير تصديق أو لنتحرى الدقة قليلاً.. ينظر لمن بداخل الخزانة بدهشة وغير تصديق.
أمام عينيه يجلس مهرجًا مصبوعًا بالألوان أرضًا في خزانته الواسعة وهو ينظر له وعيناه تحملان من المرح أطنانا، يمسك بيمناه مطرقة ضخمة ملوثة بالدماء أما يسراه فتحمل حقيبة قماشية سوداء اللون تبدو محتوياتها جلية خلال سحابها الصدئ الذي رفض العمل فتركها مفتوحة عرضة لنظرات أعين تنهش داخلها، ضحك المهرج ضحكة ساخرة، لو سمعها حسّان ذات يوم في السيرك لابتسم تلقائياً، لكن اليوم وفي الظلام وفي غرفة نومه الخاصة لم يملك معها سوى أن يرتعد بخوف وهو يضع يده على قلبه كأنما يرجوه أن يهدأ قليلاً، خرج المهرج على أربع من الخزانة ووقف وهو يتمطى بألم، تأمله حسان بدهشة، هذا المهرج يتصرف كما لو أنه في بيته، حاول حسان أن يتسلل تجاه باب الغرفة بهدوء لكن المهرج قال وهو يعدل من وضع ملابسه الفضفاضة الملونة حذره بكلمة واحدة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليه: "إياك!"
صرف حسان الفكرة عن رأسه تماماً، لكن من خاف سلم كما يقولون، توقف بجوار الباب مستعدًا للهروب عند أي بادرة خيانة، أمسك المهرج بحقيبته وهو يخرج منها مسدساً ويتأكد من ذخيرته قبل أن يشير له أن يبتعد عند الباب ويجلس على حافة الفراش، أخرج من حقيبته أصفادًا صدئة ورماها له على طرف الفراش وهو ينظر له بلامبالاة ويقول بصوته الساخر: "خيارك.. إما هذا أو هذا!"
فهم حسان التلميح، إما أن يقيد نفسه بالأصفاد أو تزوره رصاصة، أمسك بالأصفاد بيد مرتعشة وتأملها قبل أن يسأل المهرج وهو يبتلع ريقه بصعوبة: "هل أقيد يدي أمامي أم خلفي؟"
أشار له بالمسدس بعلامة النفي وهو يقول له بسخرية: "أمامك.. أمامك حتى نستطيع أن نلعب سويًا واحدة من تلك الألعاب التي أحبها".
سأل حسّان بخوف وقد نسي بأسه وشدته أمام ثقة وسطوة المهرج: "وتلك اللعبة، هل.. هل سأحبها؟"
ضحك المهرج ضحكته الشهيرة وهو يقول: "لا لن تحبها.. أنا فقط الذي أحبها".
قيد حسّان نفسه بالأصفاد وهو يسأل: "ما تلك اللعبة؟"
أشار له المهرج أن يصبر دون أن يحدثه أو ينظر له، أخرج محتويات الحقيبة ووضعها بهدوء وترتيب على الفراش أمام عيني حسان اللتان كانتا تتسعان بدهشة ممزوجة بالخوف مع كل شيء يخرجه.
هرش المهرج شعره المستعار الأخضر المشعث وهو ينظر لمقتنياته بحيرة بالغة وكأنه لا يعرف بماذا سيبدأ، نظر له وهو يقول بحيرة: "هلا ساعدتني؟"
سأل حسّان بخوف وخشية: "بماذا؟"
ضحك المهرج وهو يقول: "لا أعرف بماذا سأبدأ وعليك أن تساعدني"
تنفس حسان بصعوبة وهو يغلق عينيه ويقول بصوت مليء بالرجاء: "هل لي أن أسألك سؤالاً؟"
هز المهرج رأسه بصمت، سأله حسان سريعًا قبل أن يغيّر رأيه: "لماذا تفعل هذا؟"
ظهرت علامات الدهشة جلية على وجه المهرج للحظات قبل أن يقول بصرامة: "رغم أني كنت أتوقع سؤالاً آخراً لكن على أية حال لا تقلق أو تشكك في كرمي.. سأجيبك عن السؤالين.. الذي سألت.. والأهم هو السؤال الذي كان من المفترض أن تسأل".
صمت للحظة وهو يعدل من وضع أنفه الأحمر بهدوء قبل أن يقول: "السؤال المهم أولاً.. أخبرتك سابقاً أننا سنلعب لعبة.. حقك كمشارك في اللعبة أن تعرف قواعدها.. في البداية سأخيرك بين أمرين.. يجب أن تعرف أن كليهما سيء ويحمل خلفه شيئًا سيضرك.. ستقبل أحدهما وترفض الآخر.. الجولة التي تليها سأخيرك بين أمرين أحدهما جديد والآخر هو الذي رفضته في الجولة السابقة.. وبكل جولة ستزداد الأمور سوءاً ولكنك دائماً.. مُجبر على الاختيار".
سكت للحظات وهو يتأمل وقع كلماته على وجه حسّان الذي تبدلت ملامحه لما يشبه البكاء، استكمل المهرج كلامه: "أما عن سؤالك.. هل تذكر عم نبيه يا حسّان.. أراهن أنك تتذكره جيداً!"
* * *
دخل عم السيد للغرفة بهدوء، ضيفًا قديماً قد غاب ما غاب عن مكانه الأثير لكن آن للفراق أن ينتهي وأن لعم السيد أن يعود لمجلسه المفضل بجوار صديقه القديم وصبيه التعس، خالد وضبش اللعينان اللذان أوحشاه وأوحشته النارجيلة الفاخرة التي تطير بسببها المشكلات بنفس السهولة التي يطير بها دخانها، نظر لهما بدهشة وهما يتأملاه بفزع، دخل إلى الغرفة وأغلق الباب خلفه، تأمل عيني ضبش المفتوحتين في بلاهة وفمه الذي يكفي الآن لعبور قاطرة حربية دون أن يشعُر.
دخل إلى منتصف الغرفة ووقف بتحدي أمام خالد وهو يتأمله بسخرية قبل أن يعبث بشاربه، رفع جلبابه قليلاً كي يشعر بحرية الحركة وهو يجلس على كرسي قديم مهشم، تأمل المكان وعيناه جائعتان للذكريات قبل أن يقول: "مازال المكان قذرًا كعهدي به.. وكيف سيتغير وأنتما مسئولان عنه يا نبع القذارة".
ضحك بصوت عالٍ كعادته التي نساها خالد وصبيه منذ حين، سعل بشدة قبل أن يستكمل ضحكاته وهو مستمتع بنظرات الخوف الممزوج بعدم الفهم التي سكنت أعينهم، تحرك خالد أخيرًا مُتظاهرًا بشجاعة فرت منه وتركته وحيداً يقاتل اللافهم بقلة وعي، أمسك نبوته ورفعه عالياً وهو يصرخ بصوت حاول أن يجعله قويًا متماسكاً لكن ارتعاشة الخوف خانته ففضحته، صرخ بخوف: "من أنت يا ابن العاهرة؟".
ضحك السيد وكأن ما يسمعه الآن يشنف آذانه ويطرب قلبه قبل أن يقول: "تراك نسيتيني يا ولد يا خالد.. نسيت عمك السيد.. صديقك وصاحبك وزميل عراكك؟"
جرى ضبش كأن الشياطين مسته ليختبئ خلف معلمه وهو يتأمل النقاش الدائر بينهما، بلطجي ميت القلب.. مُستعد أن يذيب الحديد ليمر خلاله كما يقولون.. لكن ما يحدث أماه الآن لا قبل له به ولا يريد أن يكون له أي صلة به.. أبدًا.
صرخ خالد بخوف ممزوج بالغضب ثانية: "لا بالطبع لم ولن أنسى عم السيد.. لكن أنت.. أنت مستحيل.. أنت لست عم السيد يا ابن الزنا أنت"..
ضحك مرة ثانية وهو يشير بيده لضبش قائلاً من بين ضحكاته: "عمر لي حجر يا ولد يا ضبش كي يروق دماغي وأستطيع التعامل مع معلمك".
تمتم ضبش بخوف من خلف معلمه: "والله لن أتحرك من هنا مهما حصل".
قام عم السيد من مكانه وهو يترنح كالمصاب بالدوار وهو يقول: "ولماذا أرجوكما يا جوالي القمامة.. أعرف مكان النارجيلة ومكان الفخم وعليكما اللعنة إن لم أجد حشيش".
قام من مكانه وحمل قطعتين من الفحم ووضعهما على النارجيلة، أشعلهما بولاعة قديمة قبل أن يلقيها أرضًا، عبث بين طيات فراش قديم قبل أن يخرج لفافة بلاستيكية وهو يقهقه بعنف قائلًا: "كعادتك يا ولد يا ضو.. تضع الحشيش تحت رأسك كي تنام وأنت تتنفسه".
أخرج قطعة الحشيش ووضعها بيده بين الفخم مُتجاهلاً الفحم الذي احمر حين لمسته أنامله، عبث بيديه بين الفحم والمعسل قبل أن تتصاعد رائحة الدخان الأزرق لتملأ المكان.
همس ضبش لمعلمه: "معلمي.. لقد عبث بالولعة دون أن يبالي بالفحم المتقد".
استغرق السيد ما يقترب من العشر دقائق دون أن يعترض أحدهما، سحب نفساً من النارجيلة وأغلق عينيه ببطء وهو يستمتع بالحشيش الذي أوحشه منذ حين كان ضبش يقف في ركن الغرفة متسلحاً بنبوته الذي يمسكه بأيد انتهكها الهلع ومن خلفه يتوارى ضبش يراقب ما يحدث بنصف وعي وكأنه يحلم، فتح السيد عينيه فجأة وقد أشعلهما الغضب نارًا وهو يقول: "أكنت تظن أنك لن تراني مرة أخرى؟!
همس خالد بخوف لم يحاول هذه المرة أن يواريه لكنك.. لكنك..".
كان أضعف من أن يُنهي جملته لكن السيد قرر أن ينهيها وهو ينظر له بتحد: "لكنني ميت!"
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا