(4)
يقولون إن الأزمات تصنع الرجال لكن كعادتنا نجتزئ الكلام لنرضي أنفسنا، كما تصنع الأزمات رجالًا تصنع وحوشاً، تنحت القسوة ملامحهم ويصب الغضب شروره صباً بقلوبهم، يصنع رجالاً يتمتعون بالصلابة لكنه يخلق وحوشاً يتمتعون بالصلادة
حسان الممرض واحد ممن خلقتهم الأزمات وصب الغضب قلوبهم وملأها سوادًا، بدأت رحلته في عوالم القسوة والسواد منذ طفولته، كان أبوه قاسيًا مُدمنا، عامل قمامة، كان راتبه هزيلاً لا يكفي دخان سجائره، لكن أدمن البانجو بجوار السجائر، أدمن ضرب أولاده بقسوة تصل حد الجنون، أدمن معاشرة زوجته أمامهم وتحت ناظرهم، روتينه اليومي كان معروفاً، في الصباح يكنس الشوارع، يشحذ بعض الجنيهات بحجة علاج أولاده، يسرق بعض المحلات ليوفر لأصدقائه بعض المخدرات، يدعي الفقر والمرض وهو فقير ربما لكنه ليس مريضاً، له من الأولاد ستة ذكور، يعملون جميعًا ويسرق نقودهم بحجة مصروف البيت، لكن البيت يتضور جوعاً، حتى الموقد اشتاق وجاع للعمل، هجروا المطبخ وهجروا المنضدة، صاروا لا يأكلون إلا الفتات.
لو كنت قد قابلت شحاتة الزبال كما يطلقون عليه كُنت ستعرف جيداً ما نتحدث عنه، كهل عجوز منحني الظهر رغم أنه لم يتجاوز الأربعين لكن الكذب والسرقة والإدمان نخروا صحته وتركوه بقايا رجل، كان يتمتع بضرب أولاده، ربما لإشباع سادية تستوطن روحه وربما ليثبت لنفسه أنه رب البيت رغم فقره، بيد أن الضرب لم يؤثر فيهم كثيراً، سرعان ما تعودت أجسادهم على الصفعات واللكمات، سرعان ما فقد الضرب تأثيره المادي لكنه احتفظ بتأثيره المعنوي على أرواحهم فكسرها ودهسها، كرهه حسان وكرهه إخوة حسان، بدأ تجمعهم الصغير ينصهر، تركهم السيد أخوه الكبير وهرب أثناء الليل بعد أن سرق بضع أشياء من البيت، ربما عنداً وكسرًا لأنف أبيه وربما كي يبيعها ويبدأ بثمنها حياة جديدة.
تبعه شحاتة الصغير بعد أن حلق شارب أبيه أثناء نومه بحرص ومزق له كُل جلابيبه بالمقص أثناء الليل وهرب.
تلاهم جمعة الذي كان يعمل كصبي في ورشة عبد السلام الميكانيكي، سرق سيارة من الورشة وهرب تاركًا لأبيه أزمة لا مناص منها.
ظل حسان وباسم وركة في البيت، انتقم منهم بسبب إخوتهم الهاربين، ضربهم ضرباً مبرحاً، كسر أكثر من قدم وساق وهشم أكثر من ضلع، لكنه فطن بعد حين أن الضرب لم يعد يؤثر كما سبق فلجأ لحيلة جديدة، كان يعاشر أمهم أمامهم، يضربها ويذلها أمامهم أثناء المضاجعة، كان يتعمد ألا يعاشرها سوى في وجودهم واستيقاظهم، كرهه حسان حد الجحيم، وضع له سم فئران في طعامه وهرب، عرف أنهم أنقذوه وأنه لم يمت وأنه يبحث عنه كالمجنون، هرب لمحافظة أخرى وبدأ يتعلم حتى وصل للدراسة بالمعهد الفني الصحي وتخرج منه ممرضًا ماهراً، الأزمات خلقت منه مسخًا خبيثاً، كان ذكياً ماهرًا لكنه كان فاسدا قذرًا، مارس كل قذاراته في المستشفى العام بالمدينة التي تخرج منها، زاد فساده حتى شم رائحته فاسدين آخرين، أتنه، أتته ممرضة لتخبره خلسه أن الطبيب الشهير سامي عباس وصاحب مشفى الصحة العالمي يطلب مقابلته، كاد قلبه يقف، ذهب في الموعد مرتديًا أفخم ملابسه لكن برغم هذا كان منظره قمينًا باهتاً، استقبله سامي ينفسه وبجواره ثلاثة أطباء آخرين يعرفهم جيداً، بدأ سامي كلامه دون لف أو دوران كما يقولون، أخبره أن المشفى الآن يحدث به نسب وفيات عالية وأن هذه النسبة ستؤثر على سمعته وأنه يحتاجه أن يسجل بعض تلك الوفيات بالمستشفى الحكومي العام الذي يعمل فيه مقابل مبلغ مالي مُحترم لا يُرفض، لم يفكر في الأمر سوى بضع ثواني قليلة قبل أن يوافق، ابتسم سامي وهو يعطيه ظرفاً به عشرة آلاف جنيهاً وبضع أسماء مطلوب منه أن يسجلها ضمن وفيات المستشفى وسامي سيتولى الباقي، بالطبع سيحتاج حسان أكثر من نصفهم لإقناع بعض الفاسدين الآخرين بتسهيل الأمر.
لم يتصل به سامي مرة أخرى، انتهت النقود وعاد حسان للفقر، قلق وعبثت برأسه آلاف الأفكار السيئة، كاد يبكي أكثر من مرة بسبب غبائه وسوء استغلاله للفرصة حين أتته، حين أتاه اتصال سامي التالي كان جاهزاً بشروطه، أن يعيّن بالمستشفى العالمي، وافق سامي وبمرتب لم يكن يحلم به حسان.
لفت نظره شيئًا خطيرًا لا يدري كيف فات عليه في بداية الأمر، تقريباً أكثر من 90 % من الموتى تتشابه أسباب قتلهم، سيطرت على ذهنه فكرة خبيثة وقرر التأكد منها بنفسه، تسلل للمشرحة وهاله ما رأى، هذه الجثث أجساد خاوية، لا أعضاء داخلية فيها، تأكد من ظنه الآن.. حان وقت المساومة مرة أخرى، صور كل ما رأى بكاميرا جواله وهو يبتسم ابتسامة شريرة وخرج من المشرحة.
في الصباح كان يساوم سامي، لحظة واحدة.. هل اعتقدتم أن ممرض بهذا الفساد سيساوم من أجل العدل؟
العكس تماماً، كان يقترح على سامي أن يزيدوا عدد الموتى وأن يتركوا له أمر تسجيلهم بالمستشفى الحكومي طالما سيدفعون له ما يرضيه ويسكته.
التجارة بالأعضاء البشرية تدر الكثير من المال ولا تحتاج للكثير من الجهد، ما يعيبها فقط هو قلة الموارد وصعوبة التخلص من الأجساد الخاوية لكن بظهور حسان وشبكة علاقاته الفاسدة النتنة صار الأمر أسهل كثيرًا، وهم أذكياء للغاية، لا يضحون سوى بالحالات المتأخرة الميؤوس من علاجها كي لا يثيروا الشك، شبكة فساد كاملة متكاملة.
ينهي حسان ورديته الصباحية والتي يشترط أن تكون دائماً صباحية كي يستطيع السهر مع أصدقائه الأوباش ليلاً، هبط على سلم بيته يدندن أغنية "الحلوة دي" وهو يعبث بمفاتيحه بكسل، لم يروعه ما رأى بالأمس، بمجرد أن خرج إلى الشارع لمح المعلم يجلس على المقهى المواجهة لبيته، نظر له بتحدي، حسان لا يخشى أحدًا، رفع المعلم يده بالتحية وهو يقول: "صباح الخير يا دكتور حسان، تعال اشرب كوباً من الشاي".
رمقه بنظرة سخرية وابتسم نصف ابتسامة قبل أن يستعد للرحيل، فاجأه صوت المعلم يقول بقسوة: "ألن تكلف نفسك عناء رد السلام حتى(، عجبت لك يا زمن!"
وقف حسان وهو يرتجف من الغضب قبل أن يقول ساخرًا محاولاً إخفاء ضيقه: "وهل بيننا سلام أو كلام يا... يا ضو؟"
ضحك المعلم بقوة وهو يقول: "مقبولة منك، أريدك في موضوع هام يا دكتور".
نظر له حسّان باستهزاء وهو يقول: "حينما يسمح لي وقتي سأحدد لك موعداً".
وقف المعلم بغضب وهو يطيح بكوب الشاي جانباً بقبضة يده صارخاً: "قلت لك أريدك".
بدأ المارة يتابعون الأمر بتوتر، يبدو أن مشكلة ستنفجر قريباً وعادةً المشاكل التي يكون المعلم طرفاً بها تنتهي ببحور من الدماء، نظر حسان للكوب مطولاً قبل أن يقول: "العصبية ليست جيدة بالنسبة لك يا معلم خصوصاً بعدما حدث بالأمس".
فهم المعلم التهديد المستتر بكلام حسان، ارتبك لوهلة وكاد يتلعثم لكن ابتسامة ثقة تسللت سريعاً لشفتيه وهو يقول بصوت أجش يحمل تحذيراً لكل أهل المنطقة: "ما حدث أمس((، يا هل ترى ماذا حدث أمس؟".
نظر له حسّان وهو يقول: "أعتقد أنك تعرف أنا أعرف وهؤلاء الجبناء جميعاً يعرفون"
صمت قليلاً وهو يتبادل مع المعلم نظرات تحدي قبل أن يقول حسان وكلماته تسكنها ثقة مفرطة: "لا داعي أن تتحداني، تذكر دائماً ألا تتحدى الشخص الذي ليس لديه شيء ليخسره".
ضحك المعلم بثقة وهو يراقب مدخل الحارة قائلاً بزهوة نصر سيتحقق بعد حين: "حقاً؟ لا شيء لديك لتخسره".
شعر حسان بالقلق من الثقة التي يتحدث بها المعلم، التفت خلفه يبحث عما يطالعه المعلم، ظهر ضبش من خلف حسّان وبصحبته رجلًا عجوزًا منحني الظهر وهو يقول بلهجة مرحة مخاطبًا معلمه: "أنظر يا معلم من وجدت!"
ارتجف حسان بقلق حينما طالع الرجل، نظر له العجوز وبعينيه نظرة اعتذار تخبره أنه لم يقدر على الرفض، هز رأسه للرجل يطمأنه أن كُل شيء على ما يرام قبل أن يسأله المعلم بشماتة: "ألن تسلم على عم جابر؟"
ضحك ضبش بسخرية وقال: "يبدو لي أنهم لا يعرفون بعضهم البعض يا معلم، لنعرفهم ببعضهم".
نظر المعلم لضبش قائلاً بلهجة من يحسم المعركة: "سيشرب عم جابر الشاي ويرحل.. لن يتحدث في أي شيء".
فهم حسان الرسالة واستوعبها جيداً، ابتلع ريقه محملاً بمرارة الذل والانكسار، هز رأسه قائلاً: "حسناً، بعد إذنك يا معلم"
تركه حسّان ورحل غير عالم أنهما سيبدآن رحلة رعب خام لم يكونوا يتخيلونها
جلس المعلم على المقهى غير دارٍ أنهم سيبدآن رحلة فزع لم يكونوا يحلمون بها..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا