رواية الجانب المظلم الفصل الأول 3 للكاتب محمد عصمت
(3)
نظر لزوجته التي تنام بجواره متسلحة بوداعة لا وصف لها، آلمه ما آل لها بسببه، أحيانًا يشعر أنها تعيسة الحظ بزواجها منه وأحيانًا أخرى يشعر أنه محظوظاً أن رزق بها، تململت في نومها فتوقف عن التنفس ولو كان بإمكانه أن يوقف دقات قلبه لفعل، استرخت مرة أخرى، متوسطة الجمال هي لكنها تحمل من الطيبة والحنان أطناناً بين ضفتي وجنتيها وبحورًا من الحنان والحب في مقلتيها، شفاها تضم الدنيا بحلوها فقط، مسح بيده على وجهها برفق فابتسمت، لم يعد يستطيع النوم بسهولة، يعزو الأمر لكبر سنه ولقلقه على جنا صغيرته الوحيدة التي رزقا بها بعد سناً من العذاب والقلق، نظر في المرآة التي تواجه فراشهما ليطالع تجاعيد وجهه التي نحتها الزمن بمخالب من قسوة، شعره الذي خفّه الزمن وعيناه السوداوان الذابلتان، امتلاء جسده الخفيف لم يمنعه من التحرك بسهولة، ابتسم لنفسه فظهرت أسنانه الصفراء التي لا يهتم بغسلها أو نظافتها، قام من الفراش ببطء كي لا يقلقها، اهتز الفراش فتململت مرة أخرى، مد يده ليجذب الغطاء كي تلتحف به خوفًا من أن تصيبها لفحة هواء شريرة، ابتسم، أحيانًا لا يعرف من هو، يشعر أن هناك آخر يعيش بداخله، تجاهل الأمر وهو يخرج للصالة، النافذة المفتوحة تبعث هواءً بارداً يملأ فراغ الغرفة، أصابته القشعريرة وبحركة تلقائية مد يده ليحكم إغلاق منامته، فتح باب غرفة صغيرته برفق وتأكد من نومها، قبل جبينها ويدها وخرج متسللاً حين لمح شبح ابتسامة يُرسم على محياها، وقف في النافذة يناجي النوم عله يأتيه، لمح بطرف عينه علبة دواء ملقاة على الأرض تحت الأريكة، يبدو أن جنا كانت تمارس شقاوتها كالمعتاد، لكن مرأى العلبة لم يمر على نفسه مرور الكرام، أثار عواصف من الشجن بداخله، شعر بضيق حقيقي فألقى بكوب الماء في فمه وتجرعه على مرة واحدة، مسح فمه وعاد للنافذة مرة أخرى.
بعد زواجهما بعام واحد بدأ الأهل في سخافاتهم المعتادة، سائلين عن شيء قادم في الطريق دون الوضع في الاعتبار مشاعرهما، كانا يتألمان، يبتسمان وينظرا لبعضهما البعض محاولين إخفاء الألم والحزن قائلين للجميع أن كل شيء بأمر الله وأن كل شيء حين يأتي في موعده يكون أفضل وتكون فرحته أكبر، لكنهما كانا يعلمان جيداً أنهما يخدعان أنفسهما قبل أن يخدعان الناس، من حقهما أن يقلقا، خصوصاً وأنهما يحاولان باستماتة، قررا ألا يذهبا للطبيب سوى بعد مرور عام وها قد انقضي العام وتحول الفضول في أسئلة الوافدين للقلق والشفقة، تحولت نظراتهم من السعادة للحزن، كانا قد انتهيا من وجبة الغداء وجلسا أمام التلفاز كالمعتاد يشاهدانه بلا أدنى اهتمام حينما بدأ برنامج طبي لطبيب وسيم الوجه واثق من نفسه، كان يتحدث مع المذيعة الحسناء عن نسب الشفاء العالية التي حققها مركزه لعلاج تأخر الإنجاب وعن نسبة نجاح عمليات الحقن المجهري عندهم، وبطبيعة الحال استقبل البرنامج اتصالات من كل حدب وصوب تنهال بالدعاء للطبيب بعد أن كان سبباً في شفائهم، طبعًا حينها لم يعلما أنه دفع مبلغاً طائلاً لإدارة القناة كي يخصصوا له هذه الفقرة، نوع جديد من الإعلانات، عرفا عنوان المركز وقررا زيارته في نهاية الأسبوع، اتصلا ليحددا ميعادًا، وفي الموعد كانا يدخلان من بوابة المركز، لم يسمح لهما رجل الأمن بالدخول قبل أن يتأكد من هوياتهما، قالت زوجته مزحة عن أن المصعد أنظف من شقتهما، ابتسم بتوتر وهو يدعو الله ألا يكون ما توقعه صحيح، حينما وقف المصعد فتح الباب عن جنة، غرفة واسعة مرآها يسر الناظرين، سكرتيرة حسناء تبتسم بسعادة حقيقية وهي ترحب بهما بالاسم، هنا لا وقت للانتظار، دخلا ليقابلا الطبيب، ابتسم وهو يستقبلهما ببشاشة، جلسا أمامه وسألهما برفق عن سبب زيارتهما، سمعهما حتى النهاية وابتسم مطمئناً، طلب بعص التحاليل وبعض الفحوصات ووصى بمركز طبي تابع له كي يذهبا إليه بحجة أنه يثق فيهم ثقة عمياء، مبلغ التحاليل أصابه بهلع لكنه لم يظهر هذا خوفاً من حزنها، جاءت نتائج الفحوصات مخيبة للآمال، هي سليمة تماماً وبويضاتها جاهزة للتلقيح أما هو فحيواناته المنوية ضعيفة مرهقة لا تقدر على أداء المهمة، طمأنهما الطبيب أن الموضوع سهل لا يستحق الخوف والحقن المجهري وُجد لمعالجة حالات كهذه بل قادر على علاج حالات أكثر صعوبة، كتب رقماً على وريقة وأعطاها لهما مغلقة، فتحها لتصدمه الأصفار الأربعة، مبلغ ضخم لا يملكه، بلع ريقه بصعوبة وابتسم، شكر الطبيب ووعده بالاتصال قريباً ورحل.
نقاش حاد بينه وبين زوجته، هو مصمم على التصرف في المبلغ أياً كانت الطرق وهي تنصحه أن يحتسب أمره الله والله قادر على كل شيء، قال لها بغضب إن زمن المعجزات قد انتهى وأنه ليس نبياً، خرج المنزل تاركاً دمعاتها رفيقات لها وحزنها مؤنساً لوحدتها لكن حين عاد لها كان يمسك بورقة شاحبة من جريدة قديمة ولفافة بها كيلو من الكباب والكفتة، أكلا وراضاها وفتح أمامها اللفافة التي كانت تحتوي على المبلغ المطلوب، طلب منها ألا تسأله عن مصدر المال وطمأنها أنه حلال، استعاذت بالله في سرها من قهر الرجال وقبلت يده وناما بأمان.
زارا الطبيب بعدها، استقبلهما هذه المرة بترحاب أكبر، أخذ المبلغ ورفض عده أمامهما، ضغط زراً فدخل طبيبًا صغيرًا ومعه عدة أوراق، وضع الأوراق أمامهما، عقوداً تنص على أنهم لن يقاضوه إذا فشلت فهذا قضاء الله وقدره، أيضًا نصت العقود على ضرورة اتصالهما ببرنامجه كي يشكراه على نجاح العملية إذا نجحت كذلك هناك بند ينص على ألا تلقي الأم أي حقن من الحقن المستخدمة في العلاج كي يوثق بها الطبيب الحالة، اشترط عليهما أن يكون من حقه تصوير أي صور يرغب بها لتساعده في الدعاية والإعلان وتحسين صورة مركزه الطبي، مضيا العقود أمام الطبيب الذي ابتسم وخرج، قال لهما بعد خروجه أن يتجها للغرفة رقم (3) ليبدأ في مرحلة التأهيل والعلاج، وكانت تلك المرة الأخيرة التي قابلاه بها...
الطبيب لا يعمل، يكتفي بسمعته وصورته فقط لكن هناك العديد من الممرضات الجيدات والأطباء الماهرين الذين يتعاملون مع المرضى بكل احترافية، مرت الأيام صعبة طويلة وكان يشعر بكل حقنة تدخل جسدها كأنها ضربة قوية تدك حصون قلبه ورجولته، بكي كثيرًا دون أن تراه، وجاءت النتيجة سلبية في النهاية، لم يقدر لهما الله أن يريا ابناً أو ابنة تتقافز من حولهما.
ظروفهما المادية لم تسمح لهما بتكرار التجربة، بكت كثيراً وبكي أكثر، اعتذرت له أنها خذلته واعتذر لها عن قهره وعجزه عن تحقيق حلم الأمومة لها، ومرت الأيام بحلوها ومرها إلى أن تكرر اليوم بحذافيره بعد عدة سنوات، خرج من المنزل قبل أن يعود لها مُمسكًا بورقة شاحبة من جريدة قديمة ولفافة بها كيلو من الكباب والكفتة، أكلا وراضاها وفتح أمامها اللفافة التي كانت تحتوي على المبلغ المطلوب، طلب منها ألا تسأله عن مصدر المال وطمأنها أنه حلال.
تكررت التجربة للمرة الثانية وإن وقعها هذه المرة على قلبه ورجولته كان أقوى وكسابقتها فشلت!
عدة سنوات مرت وتكرر اليوم، اللفافة القديمة، الكباب والكفتة، المال حلال، الحقن، فشلت المحاولة!
لكن المرة الرابعة كانت مختلفة، الممرضة المسئولة عنهما دست بيدها رقم هاتف محمول بخبث وابتسمت بتوتر وهي تتبادل النظرات مع طبيب نحيل بارتباك قبل أن يرحلا من المركز، قبضتها ظلت مغلقة على الوريقة، توحدت مع ألمها متناسية ما حدث، حينما دخلت بيتهما احتضنها زوجها برفق وهو يحتويها، بكت في حضنه كما لم تبكي من قبل، خانتها قبضتها فانفتحت وتهاوت من بين أناملها الوريقة، سقطت أرضًا فشعرت بها، تركت حضن زوجها مرتبكة، شعرت لو أنها تُخلع من بين ضلوعه، فهي منها خُلقت وإليها عادت، انحنت لتلتقطها برفق وهي تنظر لزوجها، تبادلا نظرة صامتة قبل أن يُقررا أن يأخذا خطوة ويتصلا بهذا الرقم، كانت ترتجف خوفاً وتوترًا فتركت له هذه المهمة، عبر أثير الهاتف جاءه صوت شاب مرتبك، عرف فيه صوت الطبيب الشاب، أخبره الطبيب الشاب أن الطبيب الشهير يفعل هذا متعمداً، يفعلها مرة تلو الأخرى ويدعي أن المرة القادمة ستكون أفضل، يتاجر بحلمهم وألمهم، لكن الطبيب الصغير قرر أن يترك المركز، سيبدأ حياته مع الممرضة التي أحبها بين جدران المركز، أبلغا أكبر قدر ممكن من المرضى قبل أن يرحلا، شكره الرجل شكرًا جماً وهو يدعو له بالتوفيق في زيجته، بكي وبكت زوجته كثيرًا، فوض أمره الله في هذا الطبيب التاجر الظالم، الطبيب الذي لا يعرف للرحمة معنى، لكن سبحان الله، طبيب آخر وزميل مهنة أنقذه من براثن هذا الاستغلال والقذارة.
توعد وسب ولعن وثار وهاج وماج وانطفأت ثورته وجلس بجوار زوجته الباكية ينشج في عنف، لم يعد عمره الذي تجاوز الأربعين يتحمل هذا المجهود وهذا الغضب، كاد يلفظ أنفاسه في ثورة غضبه، هدأته خشية عليه، لا تريد أن تقضي ما تبقي من عمرها وحيدة، لا تريد أن تموت وحيدة.
لا تعرف ما الذي حدث لكنه هذه المرة اختفى لثلاثة أيام متواصلة، كادت تموت من التوتر في الأول.. كادت تموت خوفاً في الثاني.. كادت تموت كمداً في الثالث، لكن اليوم الرابع رقص قلبها فرحًا، عرفت منه أنه اتفق مع مركز آخر مشهور له بالنزاهة والأمانة وأن الطبيب الشاب وجد ظرفاً يحوي عشرين ألفاً من الجنيهات مخطوط عليه كلمة شكرًا بخط جيد، شعرت بالحيرة، من أين يأتي بكل هذا المال.
فهم التساؤل في عينيها وقرر وأده، طمأنها أنه مال حلال وأنه لن يقبل بمال حرام، لم تقتنع لكنها أرادت أن تقتنع فابتلعت كلامه مُرغمة غير مصدقة، مرت الأيام وتأكد الحمل.
لم تسعهما الدنيا من الفرحة، طارا من السعادة، شعرا بمشاعر غريبة مختلطة، لكن وصول جنا طرد كُل المشاعر جانبًا وترك السعادة فقط أميرة متوجة تحتل قلوبهما، أمسك بها غير مصدق، بكي.. بكي كما لم يبكِ من قبل.
لو زاره ملك الموت الآن لن يحزن.
ابتسم وهو يكاد يدخُل للغرفة قبل أن يسمع ترانيم الدرويش التي جذبت انتباهه، راقب الصراع الذي نشب سريعاً بأعين تتسع خوفًا، انتهي الصراع لصالح المعلم الذي رمقه بنظرة نارية فدخل شقته سريعاً، لا يخشى المعلم لكن الحكمة تقتضي ألا يغضبه، دخل مرتجفاً من مرأى الدم لكنه نام سريعاً كي ينسى ما حدث.
في الصباح تجهز للعمل، كان يعمل محاسبًا في شركة تابعة للقطاع الخاص، حينما هبط للشارع وجد المعلم يقف في مدخل البيت يعبث بشاربه مبتسماً، ضبش يغلق باب البيت بجسده النحيل ونبوته العريض، شعر بالقلق، حاول أن يخفي رجفة خوف ألمت به، قشعريرة باردة أوقفت شعر ساعده وهو يبتسم للمعلم قائلاً: "صباح الخير يا معلم ضو"
ابتسم المعلم بسخرية يقول: "صباح النور يا قلب المعلم الضو"
ارتبك من السخرية القاسية، حاول أن يستجمع شتات نفسه، ابتلع ريقه بصعوبة وهو يسأله: "خير يا معلم؟"
نظر المعلم لضبش الذي راقب الشارع خشية تدخُل أحدهم، اقترب منه المعلم وهو يقول بقسوة: "كل خير إن شاء الله، اسمعني جيداً يا أستاذ كامل، جنا الصغيرة على حد علمي هي أغلي ما في حياتك، تخيل لو أن قاتلاً - لا قدر الله - قتلها أو أن مختطفًا - لا سمح الله - اختطفها، أنا أعلم أنك عقيم وأن المدام عانت معك، أو أنها عقيمة وأنت تحملتها، لكن هذا لا يعنيني، الذي يهمني كجاركم هو البنت الصغيرة، لا قدر الله لو حدث لها شيء سيتمزق قلبي، البنت حلوة وصغيرة، ربنا يحفظها لكم".
أعطاه ظهره وكاد يخرج لكنه توقف وهو يقول له بصوت محيف ونظرة كادت تمزق قلبه: "خُذ بالك على البنت يا أستاذ كامل".
ابتلع كامل ريقه بصعوبة، لم يخرج المعلم من هنا إلا وقد تأكد أن كامل بيه المحاسب فهم رسالته المستترة، ابتلع كامل ريقه بصعوبة مرة أخرى وهو يقرر أنه لن يذهب للعمل اليوم.
سيصعد ليقضي ما تبقى من يومه في أحضان ابنته وزوجته.
تركه وصعد غير عالم أنهما سيبدآن رحلة رعب خام لم يكونوا يتخيلوها.
خرج من باب البيت غير دارٍ أنهم سيبدآن رحلة فزع لم يكونوا يحلمون بها...
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا