رواية الجانب المظلم
للكاتب محمد عصمت
الفصل الأول
(بداية الحكاية)
(1)
تصاعد الدخان الأزرق في الهواء لينساب بهدوء حول المصباح اليتيم الذي يُضيء تلك الغرفة الفقيرة التي يستخدمها خالد الضو وصبيه النحيل الأسمر حامد ضبش بالطبع خالد الضو ليس اسمه الحقيقي، اسمه الحقيقة الحقيقي خالد الدكروري لكن الضو هذه لازمته منذ بداياته في الفتونة والبلطجة حين اتخذ كلمة لا كشعار ليرفض بها كل الأوامر التي وجهت له من قبل الأهالي أو العقلاء في الحي أو حتى مأمور القسم الذي حذره مراراً وتكرارًا لكنه كان رجلاً صلدًا وتحدى الجميع بكلمة لا وفرض الإتاوات واتخذ من البلطجة سبيلاً لفرض سيطرته وقوته على تلك الحارة الفقيرة، وقتها اشتهر الفنان أحمد عبد العزيز بدوره في مسلسل "المال والبنون" بجملته الشهيرة التي أصبحت فيما بعد علامة للمعارضة "عباس الضو بيقول لا"
اتخذ خالد كلمة لا شعارًا ومن هنا تحول خالد الدكروري ليُصبح خالد الضو وحينما مرت السنون وأكلت من صحته ما أكلت اضطر لاتخاذ صبياً شاباً يسانده ويساعده في استمرار فرض سيطرته على الحارة فاتخذ من ضبش ذراعًا يمنى وأثبت ضبش أنه ذراعاً قوية ويُعتمد عليها فأصبح شر خلف الشر سلف، وبمساعدة ضبش فرض الضو سيطرته على الحارة مرة أخرى بعد أن كادت تنساب كالماء الرقراق من بين أصابعه.
نظر ضبش لمعلمه الذي ظهر السن على وجهه وقد أراح قدميه على الأريكة وهو يدخن نارجيلته المطعمة بالحشيش الأفغاني الذي يمدهم به الولد مكس الديلر، كان المعلم خالد كما يحلو لضبش أن يناديه قوي البنية رغم كبر سنه، طويل القامة وأسمر البشرة يمتاز بعينين قويتين تلتمع فيها القوة والشجاعة والبأس وشفتين غليظتين يموت عليهما الأدب وتحيا البذاءة والسفالة تحت شاربه المشعث، لديه في وجهه خصوصاً وفي الكثير من مناطق جسده عموماً العديد من العلامات التي سببتها ضربات السيوف والخناجر والمدي والتي يفتخر ويطلق عليها لقب أوسمة ونياشين الرجولة، لاحظ خالد أن صبيه ضبش قد أطال النظر إليه فاعتدل في جلسته وهو يبتسم بسخرية ويقول: "أراك تهيم في وجهي حباً يا ضبش؟"
ضحك ضبش وهو يقول لمعلمه بنفاق: "لا يا معلم خالد وإنما أراقبك كي أتعلم منك الرجولة والقوة"
أعجبته الإجابة لكن لابد له من مشاكسة صبيه، سحب نفساً طويلاً من نارجيلته قبل أن ينفثه في وجه ضبش وهو يقول: "أيحلم مثلك أن يكون رجلًا كالمعلّم خالد الضو؟".
ابتسم ضبش بفخر فهو يعلم جيداً أن معلمه يحبه ويعبر عن حبه بهذه الكلمات التي تبدو في ظاهرها قاسية، أمسك بقطعة من الكرتون المقوي ليهوي بها على نارجيلة معلمه كي يشتعل الحجر بقوة، طقطق الحجر والتمعت ناره فابتسم المعلم وهو ينظر لصبيه.
برغم قدم الحجرة التي يجلسون فيها إلا أن لها باباً خشبياً قوياً يمنع أعين المتطفلين عما يحدث بداخلها من مغامرات وصراعات بين النارجيلة المعمرة بالحشيش وبين المعلم وصبيه ويمنع المتطفلين أيضًا من رؤيته فتوة حارتهم وصبيه وقد أطار الحشيش هيبتهما وصارا طائري العقل كالأطفال، ولا يمنع الأمر من مغامرة عاطفية أو اثنتين حينما تأتي الست وردة بائعة الخضار لتزور أختها بهية قاطنة الحارة ولا ترحل قبل أن تمر على المعلم في غرفته القديمة لكي ينال منها حلاوة المرور فهي تشتهيه كما يشتهيها، خارج الغرفة كانت الحارة تسبح في صمت تام وظلام دامس، الساعة الآن تقترب من الثالثة فجرًا، أغلق الكل محلاتهم ونام أغلب سكان الحارة استعدادًا ليوم جديد من الشقاء بالغد، وبرغم سمك الباب الخشبي إلا أنه لم يمنع بضع نطفات الدخان أن تتسلسل من بين شقوقه لتخرج خارج الغرفة.
كانت الحارة ساكنة ساكتة إلى أن ظهر الدرويش على أولها، بخطوات بطيئة واثقة ظهر يطوي الأرض طياً كأنه ملكها، ناظرته كلاب الحارة للحظات قبل أن تترك القمامة لشأنها وتفر هاربة من أمامه بفزع، كذلك صمتت البومة الوحيدة التي تتخذ من ليل الحارة مسكناً لها، يطير حوله عشرات الغربان السود، يتبعون خطاه كأنهم أتباعه، دق الأرض دقاً بعصاه الخشبية المعقوفة، كان غريب الشكل عجيب الثياب مبهرجها رغم اتساخها وتهتكها، يرتدي قفطانًا أزرقاً فاتح اللون فوق جلبابه ناصع البياض رغم اتساخ أطرافه من إثر المشي في الشوارع طوال النهار، يداه مليئتان بالخواتم ومربوط حول معصمه العديد من الخيوط المطعمة بالخرز، طويل اللحية أشعثها، ينظر للسماء كما المجذوب وما هو بمجذوب ويناظر السراب بعينيه كالكفيف لكنه يرى جيداً، يرفع يديه للسماء كمن يناجي ربه لكن سرعان ما تهبطان لجانبه وهو يزوغ بعينيه في الشارع الخالي.
مشي إلى منتصف الشارع قبل أن يقف ثابتاً كصنم لا يتحرك، طارت الغربان لتعشش فوق الموجودات بالحارة، سحابة كئيبة من الغربان ملأت سماء الحارة، لحظات ثقيلة مرت ببطء وهو كالجلمود، رفع يديه للسماء ببطء وبدأ يُرتل شيئًا ما كأنشودة يحفظها جيداً.
"درويش وماشي في الدروب مجذوب
كما أي زاهد سابها عالمولى
عُكازه سانده والنصيب وداه
على حاره واخدة الفجر دا مقاولة"
تململ الضو في مجلسه وهو يسب هذا الدرويش الذي يسعى لقلة مزاجه في هذه الساعة المتأخرة من الليل، بصق على الأرض وهو يسعل إثر الدخان الذي نهش رئتيه نهشًا قيل أن يقول لضَبَش: "قم لترى ما يريد هذا المجذوب".
حب ضَبَش نفساً من نارجيلته وهو يقول مترنحاً من إثر الحشيش: "دعه لحاله، سيرحل بعد قليل".
مضي الدرويش متمهلاً حتى وقف في منتصف الحارة تقريباً وهو يرفع يديه للسماء ببطء
"يا رب ليه أمهَلت مفسد كهذا الضو؟!
وتركته حر طليق بيعيث فساد في الأرض
يا رب سيبني أكويه لاجلن يكون عبرة
يا رب سيبني المحبه أو حتى أسخطه قرد".
رمي الضو نارجيلته بعنف حتى كادت تنكسر وهو يقول لضَبَش: "لو أنك يا ابن الزنا قمت لترى ماذا يريد منذ البداية لما تطاول وقال عني نجس".
شعر ضَبَش بخطورة الموقف فانتعل حذاءه بتوتر وهو يقول: "عنك يا معلمي، سأقوم لأفعل اللازم".
صفعه الضو على قفاه وهو يقف كالجبل الشامخ والغضب يلتمع بعينيه: "لا، إذا لم أتدخل فستضيع هيبتي في الشارع خصوصاً أن ابن العاهرة هذا صوته عالٍ".
بصق مرة أخرى وهو يواري بصقته التراب بطرف حذائه ويُمسك بعصاه ويمشي ناحية الباب، فتح الباب وخرج للشارع، نظر له الدرويش بعينيه الناريتين وهو يقول
"خرج النجس وصبيه ماشي وراه
وفي عينه شر ونار وكان مسطول
يا رب ساق في الظلم وانت الحق
ورينا آيتك واجعله مذلول"
رفع يديه للسماء بقوة وهو يقول بصوت عالٍ أيقظ بعض سكان الحارة: "يا رب"
نععقت الغربان وكأنها تؤمن على كلماته، صوتها مزعج يقبض القلوب.
بدأت بعض المصابيح تضاء والقليل من أبواب الشرفات وبعض النوافذ تُفتح بحرص وفضول لتراقب ما يحدث بالشارع، لاحظ الضو ما حدث فثار وهاج و ماج وهو يقول: "فلتخرس يا ابن العاهرة"
ابتسم الدرويش وهو يرفع يديه للسماء مرة أخرى: "قادر تخلصنا منه يا رب".
رفع الضو عصاه عالياً وهو يقول: "إذا كنت لا تعرف من هو الضو أو ما أنا قادر على فعله فعصاي كفيل بك".
سخر منه الدرويش وهو يرفع عصاه للسماء قائلاً: "جبروتك فاض على العباد يا ضو.. آن الأوان تصير عبرة لكل الناس"
جرى الضو ناحيته والغضب يقوده، أطار العاهر الحجرين الذي شربهم الضو، الغضب أعمى عينيه والجنون قاده كالمجذوب، رفع عصاه عالياً وقبل أن يهبط بها على رأس الدرويش ابتسم وقال: "يا رب قادر تنصرني على الشيطان النجس.
يا رب شايفه بيفسد وظلمه ما بينحبس
يا رب سيبنى أكويه لاجلن يكون عبرة..
يا رب سيبني امحيه وبشؤمه راح يتلمس"
نزل الضو بعصاه بكل قوته على رأس الدرويش، سمع صوت العظام وهي تتهشم تحت عصاه، زاغت عينا الدرويش وهو يسقط مكانه صريعاً، سمع شهقة عالية من العمارة التي أمامه، نظر ليجد بسنت الشابة التي تسكن بمفردها بعد وفاة أهلها وهي تتوارى خلف ستار شرفتها، نظر لها نظرة نارية فجرت تختبئ بعيداً خوفاً منه، نظر بعينيه سريعًا فوجد أستاذ كامل المحاسب الذي تجاوز الأربعين يتوارى خلف نافذته وحسّان الممرض الشاب يدخُل سريعاً إلى شقته قبل أن يراه المعلم.
أشار لضبش أن يساعده في حمل الجثة سريعاً قبل أن يراها المزيد من السكان وقاطني الحارة، حملوها ودخلوا إلى غرفتهم سريعاً قبل أن يغلقوها خلفهم جيدًا.
نظر ضَبش للجثة وهو يسأل سيده بتوتر: "مات؟"
نظر له الضو شذراً وهو يقول: "ولو.. لن تكون المرة الأولى أو الأخيرة التي نقتل فيها".
أشار إلى ملابسه وعصاه ولحيته وهو يقول: "لكن مظهره ولحيته يقولان إنه من (بتوع ربنا)".
لكزه الضو بعصاه وهو يقول بغضب: "ونحن يا ضَبش (بتوع الشيطان)؟"
ارتبك الفتى وهو يقول: "لا أقصد يا معلمي بالطبع ولكن.."
لكزه الضو بعصاه مرة أخرى لكن بقوة أكبر وهو يقول بغضب: "اخرس الآن، سنذهب لننام ونترك جثة هذا العاهر هنا حتى الصباح.. والصباح رباح".
تركوا الجثة بجوار حائط قديم وهما يخرجان من الغرفة، بالطبع لو أن الحشيش لم يأخذ دور البطولة في هذه الليلة ما مات الدرويش وإن مات كانوا بالتأكيد سيقومون بدفن جثته بدلاً من تركها بجوار الحائط في الغرفة، نظر الضو للشارع وهو يقول لصبيه بصوت عالٍ كان حريص على أن تسمعه كل الحارة: "في الصباح لابد أن تصبح على أستاذ كامل وحسّان الممرض وبسنت هانم، في الأول والآخر هم أولاد حارتنا"
سعل وهو ينظر لنوافذهم وشرفاتهم ويقول: "الصباح رباح يا أولاد العاهرة.. لن أقضي ما تبقى من عمري في السجن بسببكم".
(2)
في دنيانا هذه دائماً ما نكون كممثلين المسرح ننتظر المخرج لكي يعطينا أدوارنا المناسبة، لكن القدر في هذه اللحظة دائماً ما يتدخل فتجده تارة يعطي دور البطولة لوغد نزق لا يستحق ويعطي أدوار الكومبارس للموهوبين الذين يستحقون.
لكن أحيانًا يقسو القدر علينا فيعطينا دور البطولة في الشقاء والتعب ويخفي عنا الفرح والهناء خلف ستار المسرح، هكذا كانت حياة بسنت.
الفتاة التي حكم عليها القدر أن تكون متوسطة في كُل نواحي الحياة، متوسطة الطول.. متوسطة الجمال.. معتدلة القوام.. تنتمي للطبقة المتوسطة.. حتى إن ترتيبها بين أخواتها جاءت فيه الوسطى أيضًا!
ظل والدها يكافح ويخوض صراعات شاقة كي يحافظ لهم على قدر كريم من الحياة، وفي بعض الأحيان كانت الحياة تقسو عليه لكن كان رجلاً صلبًا صعب المراس فوقف في وجهها ليتحداها وكاد ينجح في معظم الأوقات، أكثر من مرة كاد أن ينجح في نقل المستوي المعيشي من طبقة المستورين للطبقة المتوسطة لكن تضخم الأسعار والأزمة المالية كانا يقفا له بالمرصاد ليرداه خائب الرجا مكسور الخاطر، كان موظفاً محترماً في أحد المصالح الحكومية يحتمل الصباح بكل ما يحمله من شقاء ليهرب منه لعمله كعامل في أحد الأسواق التجارية الضخمة التي انتشرت في مصر مؤخرًا كهايبر وكارفور وغيرهما من الماركات العالمية التي ملأت شوارعنا ومدننا، في النهار يتحمل سخافة المواطنين وعدم فهمهم لروتين حكومي سخيف وفي الليل يتحمل غرور وكبر مواطنين ظنوا أنهم اشتروا الآخرين بأموالهم البائسة، في النهار يتحمل غياب ضمير زملائه والرشوة التي أصبحوا يطلبونها جهاراً نهاراً بلا خشية أو خجل وبالليل يتحمل أوامر شاب لم يتخطى نصف عمره وهو يكلمه كمن ملك الدنيا ويأمره بسخافة منقطعة النظير.
لكن لحظة التحول في حياته كانت أثناء محاولة شخص مُسلّح السطو على إيراد اليوم لولا تدخُل عم إبراهيم ليصرعه أرضًا بإحدى علب السمن غير عابئ بالدماء التي تفجرت من رأس الرجل نتيجة ضربته أو بالدماء التي ملأت ذراعه نتيجة تلك الرصاصة الطائشة، الأمر العجيب أن السوق كان به ما يزيد عن الألفي مواطن ومائة موظف لكن أحداً منهم لم يتحرك لردع السارق انطلاقاً من باب "لماذا سأتدخل أنا دونا عن الباقين"؟
قررت إدارة السوق منحه مكافأة استثنائية قدرها ألفان الجنيهات وأسبوعاً إجازة بإحدى الشقق التي تطل على بحر الإسكندرية، ألفان من الجنيهات مقابل رصاصة ستترك أثرًا بالغ السوء في ذراعه، فرحت الأسرة بتلك الإجازة ونجحوا في التملص من أعباء الحياة من أجل خطف أسبوع من الراحة والابتعاد عن المشاكل.
"لنسرق أسبوعًا من تلك الدنيا بنت الكلب"، قالها عم إبراهيم بسعادة منتظرًا أن تعود له ابنته بخبر موافقة بهجت صديق عمره على الإجازة كي تنضم للأسرة في رحلتها لكن بهجت مثله كمثل باقي الناس رفض الانصياع للعيش والملح وقرر أن يسمع كلام النقود، شرها كما عاهده إبراهيم، قال لها متظاهرًا بالحزن: "كان بودي يا بسنت يا بنيتي أن أمنحك تلك الإجازة لكنك تعلمين الظروف، رباب زميلتك أخذت إجازة لتتزوج ولا أستطيع أن أستغنى عن كلتيكما".
أشارت لعبير ومروة وسيدة وإسراء وهي تقول: "فيهم البركة يا عم بهجت، السوق نائم والهدوء يسيطر على الأمور، أسبوعًا فقط وأعدك ألا أخذ إجازات بقية العام"
هز رأسه وهو يتشدق ببعض الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع عن الظروف الاقتصادية وعن أن العمل لا يجوز فيه الانصياع للعواطف، تجاهل دموعها التي ملأت محجري عينيها وصعد بيته كي يتناول غداءه.
عادت لأبيها باكية تندب حظها وتنتوي عدم الذهاب للعمل مرة أخرى لكن ظروف أسرتها المالية السيئة منعتها من الإفصاح عن الأمر، أمام الباب مسحت دموعها وعدلت من وضع حجابها وهي تدخل متظاهرة بالابتسام كي تفصح عن عدم ذهابها معهم بمرح متعللة بزواج رباب وعن ضغط العمل الذي يمر به المحل، ابتلع أبيها كذبتها محملة بمرار الحاجة وابتسم بأسي قبل أن يدخل حجرته لينام استعدادًا لرحلتهم الطويلة بالغد، سيذهبون بسيارتهم التي تتعطل كلما حاول أحدهم حثها على العمل لكنهم يحتاجون لتوفير كل قرش من أجل إقامتهم هناك.
في الصباح استيقظت لتجد إفطارها على المنضدة بينما أشباح الصمت تحتل أركان المنزل فارضة كآبتها وعمها على بسنت.
في الظهر انقبض قلبها دون سبب فاستعاذت بالله من شيطان رجيم وطردت تلك الانقباضة بغير رجعة.
عصراً حاولت الاطمئنان على أهلها لكن هواتفهم كانت مغلقة عاودتها تلك الانقباضة السابقة لكنها مُمتزجة بقلق نهش روحها.
بعد صلاة المغرب جاءها الهاتف التي تمنت لو أنها صُمّت قبل أن تجيبه، انقلبت بهم السيارة وماتوا جميعاً، تركوها في الدنيا بمفردها، فقيرة هزيلة لم تتخط الثامنة عشر، خانوها وتركوها تحارب طواحين الهواء بمفردها، خانوها واستراحوا لكن بعد أن سلموها مفاتيح كُل أبواب الشقاء التي ستمر خلالها.
الغريب أن عم بهجت قرر أنه أنقذ حياتها حين لم يسمح لها بالسفر معهم ومكافأة له قرر أن يخفض راتبها للنصف اعتمادًا منه على أنها وحيدة بلا سند أو ظهر واستغلالاً لحاجتها الشديدة للمال.
الأغرب أنها ارتضت بانكسار دون أدنى مقاومة، مُستسلمة لفكرة عدم حاجة السوق لفتاة تحمل شهادة الثانوية العامة فقط ولا تعرف في الحياة سوى فن إقناع الزبون بشراء لعبة أو هدية لخطيبته أو زوجته.
والأعجب أن أحداً لم يلمها...
عاشت بسنت في شقة والدها بمفردها تجتر آلامها وتندب حظها، نست الأكل والشرب حتى أضحت هيكلاً عظميًا يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، لفظت كل الرفاهيات واكتفت بلقيمات الخبز وأكواب الماء والشاي كوسيلة للحياة وارتضت بمحاربة الشقاء كهدف للوجود.
عاشت وحيدة في حالها لا تختلط بالآخرين إلى أن قادها حظها العسر إلى الوقوف في شرفتها متوارية خلف الستار تراقب كلمات الدرويش وهي تطير بالباقي من عقل المعلم المليء بالمخدرات مرورًا بهراوة المعلم وهي تطيح برأس الدرويش وتصرعه انتهاءً بتلك النظرة النارية التي رمقها بها المعلم قبل أن تتوارى خوفًا بغرفتها، بكت يومها حتى مطلع الفجر، ليس حزنًا على الدرويش بل خوفاً من معلم شرير شرس لا يعرف للرحمة معنى.
بكت حتى جاء ميعاد العمل فقامت كي تغتسل من حزنها وتتجهز للنزول، تتجهز للشقاء والمحاربة تلك الدنيا الكريهة إلى أن يأتي الموت ليريحها من شقائها، أمسكت بيدها النقود التي ستشتري بها إفطارها المعتاد من عم رجب الفواّل، مشت بخطوات مُرتعشة حتى وصلت لمحله ووقفت تنتظر طلبها المعتاد الذي لا تطلب غيره إفطاراً، وغداءً وعشاءً.
انهمك عم رجب في تجهيز شطائر الأستاذة كما يدعوها بينما شعرت بشخص يقف خلفها، عرفت من نظرات عم رجب الخائفة أنه شخص كريه، ومن كريه بتلك الحارة أكثر من المعلم، التفتت ببطء وهي تحاول أن تخفي دموع الخوف ورعشة الرعب بجسدها، نظر لها وهو يعبث بشاربه في تأنٍ، رائحة السجائر تنبعث من بين شفتيه لتنفر منه أكثر مما تخافه، قال لها بابتسامة ثقة: "عدم اللا مؤاخذة يا أستاذة، أريدك في كلمتين على انفراد".
ارتبكت وهي تقول محاولة التظاهر بالقوة: "عم رجب في مقام والدي.. تحدث يا معلم خالد".
أمسك ذراعها بقوة وهو يجذبها ناحية زقاق جانبي متفرع من الحارة قائلاً بشراسة: "قلت.. على.. انفراد".
تركت له يدها يقتادها بغلظة للزقاق، نظر لبعض الأشخاص المارين بقسوة فانصرفوا تاركين له الزقاق خالٍ تماماً، نظر لها وهو يقول بلهجة تحمل من الشر أطناناً: "طبعاً سيادتك رأيتِ ما حدث بالأمس".
هزت رأسها كاذبةً محاولة أن تنجو بحياتها لكنه أحكم قبضته على ذراعها فتألمت بضعف وهو يتابع حواره: "محسوبك ليس حماراً، رأيتك تنظرين وعرفت أنكِ رأيتني أقتله، اسمعيني جيداً يا أستاذة".
هطلت الدموع من عينيها لتنحت وجنتيها حزنًا وألماً وهو يتابع: "أنت عازبة وحيدة ومع ذلك ورغم حُسن سلوكك وسمعتك التي تكاد تطابق الجنيه الذهب لكن عرسانك قليلون، لكن تخيلي أن يتم اغتصابك ليلاً من مجهول وأن يتم تصويرك أثناء الاغتصاب، بل تخيلي معي لأسوأ، أن ينتشر هذا الفيديو على صفحات ذلك (المدعوق) الفيس بوك ليراها الملايين، ناهيك عن سكان الحارة الذين سيحفظونه صم، هل تتخيلي أن ينظر لك شخص بعد ذلك دون أن يراكِ لقيمة سائغة تدعوه لينال نصيبه خصوصاً وأنتِ بلا سند ولا ظهر في تلك الدنيا".
نظرت له بهلع وهي تبتلع تهديده وقد فهمته تماماً، ابتسم وهو يقول: "لكن هذا لن يحدث لا سمح الله طوال فترة وجودي، أنت بنت حارتي وواجب علي حمايتكِ"
هزت رأسها متفهمةً ومستوعبة لتهديده المخيف، لكنه تابع والشر يلتمع بعينيه كالمجنون: "لكن كما تعلمين لكل شيء مقابل.. السكوت والصمت ونسيان ما حدث سيكون المقابل".
هزت رأسها كالمجنونة وهي توافقه على كلامه، رفع هراوته عالياً وهو يقول: "لكن لو علم مخلوق بما حدث.. لا.. بل لو حلمت حتى بما حدث.. سيكون تهديدي واقعاً وستملأ فيديوهاتك الفيس بوك ليراها المراهقين وهم يستمنون في الحمامات".
ترك يدها فسقطت أرضًا وهي تبكي بخوف لا مثيل له، الخوف الذي كانت تشعر به في تلك اللحظة كان خوفاً قاسياً تشعر به للمرة الأولى في حياتها.
تركها ورحل غير عالم أنهما سيبدآن رحلة رعب خام لم يكونوا يتخيلونها
راقبته يرحل غير دارية أنهم سيبدآن رحلة فزع لم يكونوا يحلمون بها...
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا