ورود وحيل ... وغرام
للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry
قذف (رافنيل) الرحالة الشاعر الفنان بالمجلة على الأرض، فقفز من هول ذلك (سامي براون) كاتب السمسار والذي كان مستنداً إلى النافذة مبحراً في عوالم أخرى!.
- ما الأمر (رافينل)؟ سأله، أعاد النقاد إلى شن هجوم لاذع على إنتاجك ثانية؟
- قضت الرومانسية نحبها - رد بهدوء ... وعندما يتحدث بتلك النبرة فإنه يعكس جدية لا يتطرق إليها شك، وعاد فالتقط المجلة ثم نشر أوراقها في يأس.
- لا يخفى هذا العبث السائد على أبسط المحافظين أمثالك يا سامي، تأمل هذه المجلة التي طالما ازدانت صفحاتها بإنتاج ثر لفطاحل الأدب مثل (بو) و(لويل) و(ويتمن) ...
انظر إلى ما تحويه راهناً: تقرير عن مستودعات الفحم في السفن الحربية، وعن فنون إعداد سجق الكبد، وقصة عن فتاة أمضت أسبوعاً عملت فيه جاسوسة متخذة من الخياطة ستاراً يحجب ذلك، وقصة سخيفة أخرى لا تقل سطحية عن ذلك، إلى جانب مقال عن الاستراتيجية الحربية موضحة ببضع مقاطع من أسطول "الأرمادا " الإسباني ... وأخيراً تسع عشرة صفحة من هراء دبجه طاقم التحرير في الإشادة باتساع رقعة توزيع مطبوعتهم المبجلة ...
ولى زمن الإبداع يا فتى وما حوته المجلة هو خير شاهد على احتضار الرومانسية.
واسترخى (سامي براون) على المقعد الجلدي المحاذي للنافذة المفتوحة .. كان أنيق الملبس حقاً ... بدلة ذات لون بني فاتح، تتخلله مربعات واضحة للعيان ناسبت لون أطراف السيجار المتدلي من جيب صدريته، أما لون حذائه فبني فاتح ارتدى تحته جوارب رمادية، فيما استقرت ربطة عنقه الزرقاء وقد وشاها دبوس اتخذ نقوش فراشه فردت جناحيها فتجلت روعة ألوانها، وكان وجهه مستديرة متورد الخدين يريح النظر فكأنك تعرفه منذ أمد بعيد، على أنك إن حدقت النظر في عينيه فلن تعثر أبداً على ملاذ لغرام مهاجر!
وكانت نافذة شقة (رافينيل) تطل على حديقة عتيقة تحوي أشجاراً وأزاهير شتى، وتظلل أحد جوانبها، فيما كان يفصلها عن الشارع سور من الطوب، وأما ما واجه النافذة فبيت قديم غطت معظمه أشجار كثيفة، كان كقلعة حصينة محاصرة بالحشائش والغبار، على أن مالكه المسن القاطن فيه لم يكن ليبيعه أبداً.
واعتاد (سامي براون) أن يأتي لزيارة شقة صديقه عدة مرات كل أسبوع، إذ إنه كان من أعضاء نادي الشاعر رغم أن التجارة قد قست طبعه وكادت تحيد به عن رقة الشعر وعذوبته وتهذيبه. ما ذرف على الرومانسية المحتضرة دمعة واحدة إذ إن عمله ككاتب سمسار ما كان ليتيح لغير رنين النقود أن يطريه. وكان يهوى الجلوس على ذلك المقعد الجلدي بجانب النافذة، ولم يكن ذلك ليضايق (رافنيل) الذي أحب فيه حسن إصغائه وطابع الحداثة في سماته، كان باختصار خير أنموذج لكبش الفداء.
- سأخبرك عما حل بك - قال (سامي) بكل ذكاء السماسرة.
- لقد رفضت المجلة نشر بعض أشعارك وهذا ما كدرك!.
- حدسك هذا ما كان ليخيب لو أنه كان في (وول ستريت) أو ضمن حملة لترؤس جمعية نسائية - قال (رافتيل) بهدوء. إليك بقصيدة لي - إن جازت التسمية - ضمن هذا العدد من المجلة
- اقرأها علي! قال (سامي) وعيناه تتبعان سحابة دخان حلقت مغادرة المكان عبر النافذة المفتوحة إذ نفثها لتوه.
وفتح (رافنيل) المجلة ثم شرع يتلو ما أبدعته قريحته:
(الوردات الأربع)
* إحدى الورود قد جدلتها أنا ...
في ليل شعرك الطويل ...
بيضاء كانت ... سامقه
تحكي علو قدرك ...
* وثانية .. أنت التي وضعتها بشعرك
حمراء كانت ... تروي خروج حبنا إلى الحياة
* وثالثة! قد اقتلعتها من الجذور
وردة شاي كانت
ترمز للموافقة ...
* ورابعة .. أهديتها إليّ في خفر ...
لكنها كانت مليئة بكل شوك ... الذكريات
- رائع جداً! قال (سامي) بإعجاب.
- هناك خمسة أبيات أخرى - قال (رافنيل) بذات الهدوء السافر.
- فلنسمع البقية إذاً - قال في لهفة -
لكن (رافنيل) ما زاد على أن وضع المجلة جانباً.
- حسناً، قال (سامي) بمرح نؤجل ذلك إذاً إلى المرة القادمة، سأذهب الآن .. لدي موعد في الخامسة تماماً.
وألقى نظرة أخيرة على الحديقة الظليلة الخضراء ثم غادر المكان مطلقاً صفيراً هزلياً ساخراً للحن معوج!.
عصر اليوم التالي كان (رافنيل) يهذب أحد أبيات قصيدة سونية حين أطل من النافذة فلاحت له من بين الأشجار نافذة البيت العتيق لذاك البارون الذي أبى أن يبيعه فظل وفياً للذكريات ... وهناك رأى فتاة أحلامه وملكة أشعاره .. كانت تطل منها وقد ارتدت رداء أبيض ... بدت شابة عذبة كقطرة ندى جميلة رشيقة، كثلة من الياسمين البري، يهدهد النسيم أعطافه في خميلة يانعة ملهمة، كقصيدة شاعر في زهرة عبقرية الشذى ... كانت تلك هي المرة الأولى التي تقع عينا (رافنيل) عليها، فأثملته نشوة النظرة الأولى، وتمهلت قليلاً ثم اختفت مخلفة حسرة في فؤاده وبضع مقاطع من دندنة حالمة ابتلعها هدير السيارات وجلبة المرور وكأنما كان ذلك الطيف قد بُعث كيما يتحدى تعلق الشاعر بالرومانسية، وتفانيه فيها، وعقاباً له على إيغاله في تفنيد الجمال والصبا، فقد اخترق كيانه وتغلغل في أعماق روحه وهجاً لا ينطفئ ... ملك عليه فؤاده ومشاعره بسرعة البرق ... أجل - ناجى نفسه - ما تعدى الأمر دقائق معدودة تغيرت فيها ذرات وجوده فهو إنسان آخر ... وحتى تلك العربات الثقيلة التي مرت بجوار بيتها كانت كأنما هي تعزف لحناً وترياً عريضاً شجياً في منظومة العاطفة ذاتها، وبدا له صراخ باعة الصحف الصغار كما لو كان شدو بلابل، ورأى نفسه فارساً مغواراً يصول برمحه وسيفه في أرجاء الحديقة باحثاً عن مبارز!
كذا تتبدى الرومانسية بين غابات من الحديد والإسمنت، أما هي فقد تاهت بين أصقاع المدينة وكان لابد من إطلاق صافرة الإنذار للعثور ثانية عليها.
في الرابعة عصراً أطل (رافنيل) ورمى ببصره عبر الحديقة ليستقر على نافذة أحلامه، فلاحت له أربع فازات أطلت من كل واحدة منها وردة متفتحة كبيرة بهية المنظر ساحرة ... بيضاً كن وحمراً! ورآها وقد انحنت عليهن بكل جمال الشباب وعنفوان الحسن، رافعة نظرها بين الفينة والأخرى .. صوب نافذته في نظرات حالمة ... حزينة. وحينما أحست بأنها قد أثارت اهتمامه الرزين تلاشت ثانية تاركة رموزاً فواحة على حافة النافذة، وعبيراً في ثنايا فؤاده ... رموزاً فواحة! استعاد تلك التسمية ثانية - ما أغباني وإذ لم أفطن لذلك! قال لنفسه لقد قرأت قصيدته (الوردات الأربع) فاخترقت طيات فؤادها، وما أزهارها تلك سوى رد (رومانسي) من جانبها ... أجل لا بد وأنها قد علمت بأن الشاعر (رافنيل) يقطن غير بعيد عنها في الناحية الأخرى من الحديقة، ولا بد أنها قد رأت صورته في المجلة كذلك، إذ لا يمكن تجاهل تلك الرسالة الرقيقة المتواضعة التي بعثت بها ضمناً إليه.
وإلى جانب آنية الزهور لمح (رافنيل) إناء وُضعت فيه نبتة ما وسارع - دونما خجل - بإحضار منظاره المقرب سابراً غور ما زرع في الوعاء فعرف فيه (جوزة الطيب الحمراء) وبحدس الشاعر سارع إلى كتاب (لغة الزهور) باحثاً عن دلالة لذلك فقرأ عبارة "أنتظر لقاء" وكاد الشوق يبحر به إلى عوالم من الأمل المرتقب فالرومانسية لا تعمل على دفعات، بل إنها تمنع ما لديها طراّ - قال في نفسه - ... إنها تستقر في مدخنتك منتظرة منك أدنى إشارة. وابتسم (رافنيل) وفم الشاعر يفتر عادة عن ابتسامة إما شعر بأول دلائل الانتصار، وفكر كم هي رقيقة الحس، شاعرية النبض، إذ ابتكرت فكرة الأزهار تلك، ثم عن له أن يحتال للقائها وخطبتها بعد أن أعطته الضوء الأخضر.
ودخل (سامي براون) يسبقه صفير وصفق أبواب ... اعتاد (رافنيل) ذلك منه. ونظر الأخير إليه فلمح في كاتب السمسار ذي الوجه الطفولي، والهندام الأنيق خير مرافق للضيف الجديد لشقته، لكن (سامي) رنا إلى الحديقة الظليلة عبر الكرسي الجلدي الذي جلس عليه ثم نظر إلى ساعته قبل أن يهب في عجلة من مكانه.
- يا إلهي - قال بانزعاج - الرابعة والثلث يجب أن أذهب فلدي موعد في تمام الرابعة والنصف.
- فلماذا أتيت إذا سأله (رافنيل) في دعابة ساخرة - إذا كان لديك موعد؟ ظننتكم أهل المال والأعمال حريصين على كل دقيقة.
وتوقف (سامي) في خجل قبل أن يصل إلى الباب ثم قال:
- الحقيقة يا (رافنيل) إني لم أعلم بأمر هذا الموعد إلا الآن ... هناك غندورة لطيفة في ذاك المنزل العتيق المقابل لشقتك - أنا متيم بها ونحن في واقع الأمر مخطوبان رغم معارضة والدها. بإمكاني رؤية نافذة (أديث) من هنا. إنها تعطيني إشارة عندما تزمع الذهاب للتسوق، وقد أشارت اليوم إلى إنها تود أن تلقاني في الرابعة والنصف. وربما كان من الواجب إبلاغك بالأمر قبل ذلك على أني قد رجحت بأنك ستفهم. إلى اللقاء!
- وكيف تستقبل تلك الإشارة الدلالية منها - سأله (رافنيل) وابتسامته تفقد بريقها شيئاً فشيئاً.
- عبر الورد ... دليل العشاق - رد سامي فيما يشبه الحلم الغافي في أحضان السعادة المطلقة - أربع منها اليوم وذلك في لغتنا يعني الساعة الرابعة في زاوية شارعي (برودواي) و(الثالث والعشرون).
- ولكن ... كانت هناك جوزة الطيب الحمراء - تابع (رافنيل) في إصرار عنيد ملاحقاً دون أمل خيط ولهة المنساب.
- أوه ذاك يعني والنصف.
- صاح سامي من نهاية القاعة - أراك غداً!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا