1. تحليل حالة المجرم
لي ابن عم في الخامسة والعشرين من العمر، منذ صغره يحمل شخصية خاصة به، فكان يعتدي على هذا ويضرب ذاك. ولم يبق في المدرسة سوى الصفوف الثلاثة الابتدائية، ثم انحرف عن الطريق المستقيم وأقام بعض الأحيان بين رفاق السوء، فكان والده (أي عمي) يتشاجر معه وبعض الأحيان يتضاربا سويا. كل هذا جعلني أنظر إليه نظرة خوف واشمئزاز، إلى أن ارتكب جريمة قبل فترة قصيرة بإقدامه على قتل سيدة اعترضت سبيل مآربه، وهو الآن ملقى في غياهب السجن منتظراً حكم العدالة.
إنها قصة قد تتكرر في كل عائلة ولكن ما أريده هو أن اقرأ تحليلكم في نفسية المجرم.
وليد. ز
الجريمة، وهي نوع من السلوك جدير بأن يوجه إليه اهتمام خاص عاجل. وفهم الجريمة، والهيمنة على شؤونها، وبعبارة أخرى فهم شخصية المجرم يعد من المسائل التي ترحب بأي ضوء يلقى عليها أياً كان مصدره. والتحليل النفسي يعقب الجريمة والاعتداء على الآخرين. ويعزوها إلى الصراع النفسي في المواقف المختلفة. وتؤيد بحوث هيلي وبرونر هذا الموقف. وقد بحثا ألاف الحالات وتعقبا تاريخها ثم وضحا بجلاء أن دراسة التحليل النفسي تعزز ما سبق أن سجله أطباء النفس، فإن عوامل الإصابة بالأمراض العصابية وتسببها للجريمة تمتد إلى نطاق أوسع من النسبة المئوية الصغيرة للمجرمين المصابين بالأمراض العصبية النفسية.
ويتفق الخبراء في الجريمة على أن العامل السائد في ارتكاب الجرائم هو البيئة، وقسوة الحياة، ولا سيما في الحياة الاقتصادية. فهذا العامل يسجل أكبر رقم في إحصائيات الجرائم، وفي التحليل الدقيق يتوازى الاستعداد لارتكاب الجريمة مع استلام المريض العصبي لعلته، وخاصة بين الشبان، فالجريمة هي بالتأكيد إحدى مشكلات الشباب. فالفشل الاجتماعي - وهو جريمة - وفشل المريض بأعصابه يشتركان في أن كل منهما تسيطر عليه دوافع قوية ومقاومة ضعيفة.
وبعض المحللين النفسيين، مثل، ألكسندر، يطبقون وسائل التحليل النفسي بكل تفاصيلها على المجرم، وينسون المدى التافه الذي يصدق عليه من هذا التطبيق. ويرى أخرون في التحليل النفسي مفتاحاً جديداً لفهم شذوذ السلوك الذي ينشأ من الظروف الاجتماعية والشخصية. ومن المعترف به أن الجريمة فصل من فصول علم النفس الشاذ. وأن أنواع الصلات كثيرة بين ضروب الضعف العصبي، والجريمة تعاود الظهور عن طريق التحليل النفسي، وتجعل كل من الصراع الشخصي والاجتماعي يضيء الآخر. ومشكلة المجتمع تقبع في سيطرته على الدوافع النفسية، وتحليلها النفسي هو أول خطوة في سبيل حلها، أما في التطبيقات الاجتماعية فإن فكرته وحدها تجعله مساهمة قيمة في حل مشكلة الأجرام.
ولا تزال الجريمة أحد فصول التحليل النفسي الفردي، أما التطبيقات الاجتماعية فمن طراز آخر، فهي تنقل الاكتشافات التي عثر عليها في أثناء دراسة الفرد لتعمم على الجماعة. وقد حلل مارتن، عقلية الحشد، وطبق كولناى مدركات التحليل النفسي على المنتجات الاجتماعية، ودرس ريفرز تأثير البواعث النفسية التحليلية في ميدان السياسة، وصور لا زول السمات النفسية عند المهيجين السياسيين والمشرعين وربطها بسمات الأمراض العصابية، وحالة الأسرة، واقترح بارو في عبارات مبهمة إعادة كتابة التحليل النفسي على أسس اجتماعية.
وسنتوسع في تحليل حالة المجرم مبينين ما رمزنا إليه أعلاه.
يبدو الفارق بين الإنسان والحيوان بأن الغريزة لا تنفرد بحكمه، بل تحكمه معها قوى منتظمة ذات طاقة انفعالية هي العواطف. فالإنسان لا يتصرف بناء على انطلاق حيوي صرف بل بناء على عمليات حيوية نفسية تستمد بعض كيانها من الحضارة التي تحيط به بكل ما تدعو إليه وتنأى عنه، ومن ثم كان الإنسان محكوماً من ناحية بالنزعات التي تسعى إلى الإشباع ومن ناحية أخرى بالظروف والمشاعر والتقاليد التي تقف في وجه ذلك.
ويتم الجانب الأكبر من التلوين النفسي للفرد في صدر الطفولة، كما أن البيئة والظروف مسؤولة إلى حد كبير عن سلامة النمو النفسي وخاصة في فجر الحياة، حيث الصورة التي تبدو فيها الحياة للطفل ذات أثر كبير في إدراكه لمعناه ونظرته إلى حياة الآخرين وصلته بهم وتكييف شعوره نحو المجتمع ورسم أسلوبه في هذا الكون.
أن ظروف الطفل قد تكون من القسوة، أو تبدو له من القسوة، بحيث يظن أن الحياة كلها تألبت عليه وأحدقت به. وكلما ازداد ما يصادفه من عقبات كلما تفاقم لديه هذا الشعور. ومن هنا تظهر لنا الصلة بين اضطراب النمو العاطفي وبين السلوك المتصف بالأجرام.
وفوق هذا وذاك يحتاج الطفل إلى الحب والاعتراف بشخصيته وقدره مع إعطائه فرصة الشعور بالقوة والخلق والإنتاج والاستحواذ، وأي ضغط يمنع نشاط هذه النزعات سوف يولد في الطفل مشاعر السخط والحرمان والغيرة والعجز وكلها مقدمات للسلوك اللااجتماعي. أن هذه النزعات تسعى إلى الإشباع بأي وسيلة وأغلاق المصارف الاجتماعية لها بفتح الطريق لإشباعها عن طريق جانبية غير مشروعة. وقد يقال أن العوامل الخارجية المحيطة بالطفل في بيئته مثل الرفقة السيئة والمثل السيء لها أثر، وإنني لا أنكر ذلك، ولكني أعتقد أن اضطراب النمو العاطفي قوة حبيسة في نفس الطفل ما أن تطرقها العوامل الخارجية حتى تنطلق معها في طريق الجريمة، وكلما كان الاضطراب العاطفي أشد كان الضغط الخارجي المتطلب لحدوث الجريمة أدنى.
ولعل أهم العوائق في سبيل الإشباع السليم للنزعات الحيوية للطفل يكون في نطاق الأسرة حيث غالباً ما يكون موقف الوالدين وغيرهما متأثراً بما يعانونه هم من قلق وسخط وحرمان. أن العملة التي يعرفها الطفل في عائلته هي التي سوف يتعامل بها فيما بعد مع المجتمع، ولذا كانت مسؤولية الوالدين عن الصلات الاجتماعية للطفل مسؤولية عظمى.
يشعر الطفل دائماً بالنقص بالنسبة إلى الكبار، كما يشعر بنزعة إلى التساوي بهم بل والتفوق عليهم وهو شعور طبيعي في مرحلة الطفولة لا يدل على أية شذوذ، فالطفل لا يشعر في علاقته بالكبار بتخلف حقيقي بل يدرك إنه في مرحلة باكرة سوف تمضي ويمضي معها نقصه عندما يصبح في عداد البالغين. ولكن يحدث أحياناً أن لا يكون لدى الطفل هذه الثقة في المستقبل والطمأنينة إليه، وقد يكون هذا نتيجة نقص ما، أما من الناحية البدنية أو العقلية أو الصحية.
وتبدو العيوب البدنية من أشد الأمور قسوة على بني الإنسان ولا يرجع ذلك إلى وطأتها الذاتية بقدر ما يرجع إلى قسوة المجتمع الذي لا يرحم في تعامله مع أصحابها. فالطفل الذي يعاني أي نقص أو شذوذ بدني يجد صعوبة في مجابهة الحياة على قدم المساواة مع الآخرين لما يتعرض له بين الحين والحين من سخرية وتهكم وتصغير من شأنه، وعند ذلك تعمل عقدة النقص عملها في الشخصية فيكثر الطفل من الالتجاء إلى الأساليب الملتوية من كذب وادعاء وتمثيل واختلاف .. هؤلاء قد لا يجدون أحياناً إلا الانطواء على أنفسهم ويقيمون بينهم وبين المجتمع سداً من الكراهية أو عدم المبالاة. فالعيب البدني، مثل القدم المشوه، يشعر الطفل بالمهانة إزاء أقرانه، فيتجه إلى أنواع النشاط الأخرى التي يتعامل فيها بالقيود المتصلة بعاهته والتي يستطيع بها أن يغطي هذه العاهة بشكل ما وقد يكون هذا النشاط في ميدان الرذيلة أو الجريمة وما أشبه. وقد يلجأ هؤلاء الأشخاص، نتيجة القلق المسيطر عليهم، إلى الإدمان على الخمر والمخدرات والميسر أو إلى أنواع من النشاط اللااجتماعي كالكسل البالغ والسفه والتبذير والكذب المستمر والعناء الشديد والغيرة المبالغ بها.
ولا يعني هذا دائماً أن ينشأ عن الشعور بالنقص نقص في الشعور الاجتماعي. فقد يستطيع الفرد تعويض هذا الشعور بالنقص تعويضاً سليماً لا يضر المجتمع بل قد يعود عليه بالفائدة. ومركب النقص لا يعمل في الأفراد فحسب، بل يعمل في الجماعات أيضاً، وهذا حال الأقليات المضطهدة أو المنبوذة في المجتمعات المختلفة والتي تعامل معاملة مجحفة نتيجة التمييز العنصري أو الديني وما أشبه. أن المنتسبين إلى هذه الأقليات ينشأون منذ الصغر على الشعور بالعداء نحو المجتمع وعلى الانطواء له على الحقد مما يسيء إلى الروح الاجتماعية ويؤهلها للخروج عن القانون ورادعه.
وهناك مسببات أخرى للإجرام منها المزاج العام للشعب، وهو السمات العامة التي يغلب وجودها في أفراد الشعب والتي أشتهر بها، وهذا المزاج العام لم يعرف نتيجة بحوث علمية ولكنه عبارة عن صفحات توافرت على مر الأجيال في هذا الشعب وعرفت نتيجة استقراء طويل لشؤون هذا الشعب وشؤون أفراده. والمعتقدان المزاج العام لشعب من الشعوب يصبغ محصوله من الجريمة بصبغة خاصة. فمثلاً تزداد جرائم الاعتداء على الأشخاص لدى الشعوب السريعة الانفعال. على هذا يقال - أن صح ذلك الاستقراء - أن الإنكليز معروفون بقوة الأعصاب والبرود العاطفي والنشاط وتقديس القانون والشعور بالمسؤولية والميل إلى المساواة.
كما أن التقاليد هي اعتقادات تدين بها جماعة من الجماعات وتنحدر من السلف إلى الخلف على مر الأجيال حتى تحظى بالقداسة والاحترام دون حاجة إلى مناقشتها أو إخضاعها للتفكير، فلا تقوى على ردعها كل الزواجر والعقوبات، وقد تكون للتقاليد قوة تفوق قوة القانون لأن المجتمع كله يحميها حتى نجد الكثيرين يرتكبون الجريمة التي يحرمها القانون (مثل القتل أخذاً بالثأر المعمول به في معظم الأقطار العربية، كمصر ولبنان على وجه التخصيص) احتراماً للتقاليد التي تقضي بارتكابها، والتقاليد لا تخضع لمنطق أو عقل وقد لا يكون لبعضها معنى كالتقاليد المتصلة بالعزاء في الموتى، والطقوس التي تقام بعد الموت والتي تستمر أياماً أو أسابيع، وقد يكون بعضها مخالفاً لأبسط قواعد العدالة مثل قتل البريء أخذاً بالثأر لمجردان له صلة بالجاني، مع ذلك فإن هذه التقاليد تفرض احترامها ولا يجرؤ أحد أن يحيد عنها بغير أن يعرض نفسه إلى الاحتقار والازدراء من قبل ربعه.
كما يحيط بالإنسان بيئة اجتماعية تشمل الأسرة التي يعيش فيها والمدرسة التي يتعلم فيها والمكان الذي يؤدي فيه عمله والجهات التي يقضي فيها وقت فراغه والحي الذي يسكنه. والإنسان مفطور على التأثر والتقليد إلا أن مدى ما يتأثر به الفرد من البيئة المحيطة به يعتمد على استعداده الشخصي الطبيعي ومعنى ذلك أن البيئة الاجتماعية عامل احتمالي الأثر يعتمد على الامتزاج والتفاعل بين طبيعة الفرد وطبيعة البيئة، وتعتبر البيئة العائلية أهم بيئة في حياة الفرد أو هي أول ما يفتح عليه عينيه ليقضي فيها السنوات الأولى من حياته. وهذه السنوات لها أثر كبير في تكييف شخصيته، وتلي البيئة العائلية في الأهمية باقي البيئات الخارجية التي يغشاها الإنسان وتؤثر في شخصيته أيضاً كالمدرسة والشارع والمعمل والمكتب والمقهى وغيرها مما يصعب حصره. والتأثير في شخصية الفرد قد يعرقل عملية نضج الضمير في الفرد ولا يحرص على اتباع قواعد الآداب واحترام التقاليد ويتجه إلى السلوك الإجرامي غير عابئ بما يفرضه القانون من عقوبات، وقد يكون التأثير في شخصية الفرد بإذكاء نضج الضمير فيه حتى يتحول الفرد بالروادع اللاشعورية رويداً رويداً نحو الوعي فيسلك سلوكاً سليماً.
ويرجع بعض المحللين النفسانيين العلاقة القائمة بين الأحوال الاقتصادية والجريمة إلى أن الفرد الذي يعيش في مجتمع يخضع لتعاليمه وأوامره ويكبح في سبيل ذلك نزعاته ونزواته، إنما يرضى بذلك في مقابل أن يوفر له هذا المجتمع حاجاته التي تحفظ عليه حياته وتيسر له سبل العيش، فإذا ما أخل المجتمع بهذا الوجه فقد يرى الفرد أنه في حل من التزاماته ومن ثم يمضي في سبيل الجريمة والرذيلة، ولا شك أن أقوى المظاهر التي لها علاقة بالظواهر الاقتصادية بالجريمة الكساد وما يتصل به من البطالة والفاقة، والرخاء وهو أيضاً يعد عامل من عوامل الجريمة.
أن الكساد يؤدي إلى البطالة وهي بدورها تؤدي إلى انقطاع موارد العيش أو انخفاضها، أي إلى انتشار الفقر والفاقة وبين الفاقة صلة معروفة. ولا شك أن المسؤولية عن البطالة هي مسؤولية اجتماعية وليست فردية. فالفاقة عندما تصيب الإنسان تضيق سبل العيش حتى لا يجد أمامه إلا الانتحار أو التشرد والتسول والجريمة. أما ما يقال عن الرخاء من إنه ما دام الكساد ينشط عوامل الجريمة، فلا بد أن الرخاء يضعفها فينخفض منسوب الأجرام، فإن الواقع أن الرخاء له هو الآخر نزعته المنشطة للجريمة وأن يكن هذا النشاط عن غير السبل التي يسلكها الكساد.
هذه العوامل مجتمعة أو منفردة لها تأثير فعال، بدون شك في تهيئة الجو لحالة المجرم.
* * *
لما انتهيت من إعداد هذا الكتاب. وقد ناهز وقت عملي به ما يقارب التسعة أشهر، خطر لي أن أضيف التعليق التالي للتحليل الأولي لنفسية المجرم.
ليس من السهل أن نعرف أن القاتل السفاح من مرآة الخارجي ولكن في الإمكان معرفة نفسيته وشرح غوامضها. وإذا فحصت وجوه كبار المجرمين الذين خلد التاريخ أسماءهم - كآل كابوني وديلنجر وغيرهما - لم تجد في مظهرهم الخارجي ما يشف عن ميلهم الإجرامي. إلا أن نفسياتهم تختلف كل الاختلاف. ولعلماء النفس مباحث جليلة في هذا الشأن تدل على أن نفسية الذين يرتكبون جريمة القتل تختلف عن نفسية الذين يرتكبون السرقة مثلاً، وعن نفسية الذين بينهم وبين الإجرام أية صلة. وليس ذلك فقط، بل أن الآلات التي يستعملها المجرمون كثيراً ما تشف عن تلك النفسية.
والنفسية بالاعتبار السيكولوجي عامل ذو شأن عظيم. وكثيراً ما دفعت صاحبها إلى ارتكاب جريمة القتل. فإذا أمكن درسها درساً صحيحاً أمكن منع صاحبها من ارتكاب الجرائم في حالات كثيرة وكان من المرجو إصلاحه.
ولعل أول الصفات التي يمتاز بها مرتكب جريمة القتل تغلب عواطفه ومشاعره وعدم استقرارها على حالة واحدة. وقد درس بعض الاخصائيين نفسية الكثير من المجرمين والصفات التي تمتاز بها هذه النفسية فأتضح لهم أن القاتل المتعمد سريع الانفعال سريع التغلب في أهوائه وقلما تستقر عواطفه ومشاعره في اتجاه واحد. ولما كانت الحالات التي درسها أولئك الاخصائيون تعد بعشرات الألوف وتتضمن درس نفسيات المجرمين المختلفين - من القاتل الذي يعتمد القتل إلى الشخص الذي يقتل خطأ - فقد تسنى لأولئك الاخصائيين وضع مبادئ عامة يمكن الاستدلال بها على المجرم والحكم بإمكان إصلاحه أو عدم إمكانه. وفي مقدمة تلك المبادئ أن المجرم المتقلب في عواطفه هو أخطر أنواع المجرمين وقلما يرجى صلاحه بل قل أن صلاحه متعذر.
ولو أمكننا درس نفسيات المجرمين الذين يرسفون في الأغلال بين جدران السجون في جميع أنحاء العالم لوجدنا أن عامل تقلب العواطف هو أكثر شيوعاً بين مرتكبي جرائم القتل منه بين أي فريق آخر من المجرمين. أن نسبته عند أولئك القتلة إلى نسبته عند غيرهم هو كنسبة أربعة إلى واحد. وإذا أخذت مجموع عدد المحكوم عليهم بالسجن لجرائم اعتيادية وجدت عدد الذين يمتازون منهم بتقلب العواطف والمشاعر لا يزيد - نسبياً - على ربع عدد الذين يمتازون بتلك الصفة من المتهمين بجرائم القتل المتعمد أو غير المتعمد. وهنالك جرائم قتل يرتكبها أصحابها عند اشتداد صورة الغضب. ويقول الأطباء الذين درسوا نفسيات المجرمين أن أمثال هؤلاء ليسوا من النوع الذي يتعمد القتل أو الذي يريد الاستمرار في المعيشة في الجو الإجرامي. ولذلك يرجى صلاحهم أكثر مما يرجى صلاح السفاحين الآخرين. وفي الواقع أن جريمة القتل التي يرتكبها أمثال هؤلاء هي - في عرف علماء السيكولوجيا - طارئة. لأن مرتكبها إنما يرتكبها وهو في غير حالاته الاعتيادية، وإذا صحا من صورة غضبه ندم على ما فعل.
وكما أشرنا في التحليل الأول فإن لهذا النوع من الإجرام علاقة بالجنسية. فبعض أجناس البشر أشد إسراعاً إلى صورة الغضب من غيرهم، وامزجتهم أسرع انفعالاً من امزجة غيرهم. وفي هذا دليل على أن للأحوال الجوية تأثيراً في نفس المجرم. فأهالي الأقاليم الباردة أقل اندفاعاً إلى ارتكاب القتل في ساعة الغضب، كما أنهم أقل ارتكاباً لجرائم القتل المتعمد، لأن تعمد الإجرام يكون في الغالب في الأقاليم المعتدلة.
ويؤخذ من إحصاء أمريكي يوثق به أن أكثر مرتكبي جرائم القتل في أمريكا هم من الجنس اللاتيني الأوربي الأصل. ويليهم زنوج أمريكا بسبب الاضطهاد العنصري الذي يلاقونه من البيض. ويلي هؤلاء الجنس الارلندي، ومعظمهم يرتكب ما يرتكبه من الجنايات بين السابعة والعشرين والحادية والثلاثين من أعمارهم. وأغلبهم من غير المتعلمين وممن يميلون إلى الوهم والخيال. أي إنهم سريعو الانفعال والتشبث بالأوهام. ومن الملاحظات على هذه الطائفة من المجرمين أنك قلما تجد بينهم من هو قبيح الشكل أو دميم المنظر.
ويؤخذ من الاحصاء المشار إليه أن نحو ثلث مرتكبي جرائم القتل - مصابون ببعض الخلل في قواهم العقلية. وفي الواقع أن الذين يرتكبون جريمة القتل من ذوي العقول الراجحة أو من أصحاب الذكاء المفرط قليلون جداً، بخلاف الذين يرتكبون جرائم التزوير والاحتيال والسرقات المالية فإنهم في الغالب ممن تسمو قواهم العقلية على المتوسط ولهذا تجد الفرق كبيراً بينهم وبين مرتكبي جرائم القتل من جهة التعليم، فإن هؤلاء غير متعلمين في الغالب وقد تكثر الأمية بينهم إلا الذين يرتكبون القتل في أثناء صورة الغضب، والخطر من نقص القوى العقلية يزداد شدة إذا كان المرء من مدمني المسكرات أو المخدرات أو من المصابين ببعض الأمراض التي لها صلة بإدمان المسكرات، كالزي مثلاً فإن مثل هذه الحالة تزيد في ميل المرء إلى الإجرام.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا