انقشع النور لتجد نفسها في سجن كبير، والقضبان الحديدية تحيط بها من كل جانب. كانت رؤيتها في بادئ الأمر مشوشة، وأحست أنها تقف على سطح نحيل زلت قدمها منه لتسقط على الأرض، التي كانت كما أحست مغطاة بالورق. نهضت بسرعة وأحست خلال نهوضها برشاقة لم تعتد عليها، وقبل أن تتفحص المكان حولها رأت رجلا مسنا عملاقا يطل عليها من وراء القضبان وهو يقول:
ما بك يا صفير؟ ما الذي أوقعك؟
ارتعبت هياء من ذلك المنظر المخيف، ومن وجه ذلك الرجل العملاق وهو يحدق بها ويتحدث معها فصرخت بقوة، لكن صراخها خرج من حنجرتها كتغريد وزقزقة العصافير، فرفعت ذراعيها أمام نظرها لترى أنهما جناحان أصفران، فأدركت أنها عصفورة محبوسة في قفص، وأن ذلك الرجل لم يكن عملاقا، بل هي التي كانت طائراً صغيراً. ابتسم الرجل المسن وقال:
اليوم ستزورني ابنتي.
هياء وهي تستوعب ما يحدث: أنا طائر.
سار العجوز مبتعداً عن القفص المعلق في منتصف غرفة معيشته، وجلس على كرسي خشبي هزاز، وبدأ يحتسي مشروبا ساخنا وينظر للخارج من نافذته بصمت. بدأت هياء تحرك جناحيها وتقفز مكانها لكي تصعد نحو العصا الخشبية أعلى منها، وبعد محاولات كثيرة تأقلمت وحلقت وجلست عليها. التفت العجوز نحوها باسما وقال: اليوم جميل، أليس كذلك يا صفير؟
هياء وهي تتحدث للعجوز بصوت عال: هل تستطيع فهم كلامي لو تحدثت معك؟
ابتسم العجوز لها وقال: غناؤك هو سلواني الوحيد في وحدتي.
هياء بصوت مرتفع: أنا لا أغني! أنا أحاول الحديث معك!
رن الهاتف، فنهض العجوز ورفع السماعة وتحدث قليلا، وخلال ذلك الحديث تغير وجهه وأغلق الخط. عاد إلى مكانه وجلس بوجه حزين صامتا يحدق بأطراف حذائه. نظرت هياء له وقالت بصوت مغرد: ما بك؟
رفع الرجل العجوز رأسه نحوها وقال بحزن: لا يا صفير، ابنتي لن تتمكن من الحضور اليوم.
هياء بتغريد عال: لا تحزن من أجلها، فهي لا تستحق!
العجوز وهو يضع خده على كتفه ويقول بحزن: لا أعرف لم تعاملني بهذه الطريقة؟ ربما كنت قاسيا عليها قليلا عندما كانت صغيرة، لكني كنت أفعل ذلك لمصلحتها. لقد كبرت وأصبحت طبيبة ناجحة، ولا أريد منها شيئاً سوى رؤيتها ورؤية أحفادي مرة في الشهر على الأقل. ربما أنا أستحق ما يحدث لي.
هياء بحزن: أنت لا تستحق ذلك. هي الحمقاء لأنها لا ترى كم تحبها.
العجوز وهو ينهض ويتوجه نحو القفص مبتسما ويضع كتفيه حوله: أنت الوحيدة يا صفير التي تتحدثين معي، وربما لأنك حبيسة في قفص فقط.
هياء وهي تغرد: لو رأت ابنتك مدى حبك لها لما تركتك يوما وحدك.
العجوز وهو يفتح باب القفص: لن أجبر أحداً على البقاء معي.
فتح العجوز باب القفص، وسار مبتعداً عنه نحو النافذة التي كان ينظر منها سابقا وفتحها وهو يقول: يمكنك الخروج من أسرك يا صفير، لست مجبرة على البقاء معي.
جلس العجوز بعدها مكتئبا على كرسيه الخشبي، ودعك عينيه ليمسح بعض الدموع التي تسللت من محجريه. حلقت هياء خارج القفص، لكنها لم تخرج من النافذة، بل حطت على رأس الرجل، وبدأت تفل شعره بمنقارها وهي تقول مغردة: من يريد ترك رجل لطيف مثلك؟
ابتسم الرجل العجوز، ورفع كفه إلى قمة رأسه، فحطت هياء عليه لينزلها أمام وجهه قائلا: أنت حقا تحبيني يا صفير.
هياء تنقر أنفه وتغرد والرجل يضحك مبتهجا.
أمضت هياء في منزل ذلك الرجل العجوز عدة أيام تأقلمت خلالها على نظامه وروتينه اليومي، وتعلمت فيها كيف تأكل الحبوب وتشرب الماء بمقدارها. كان الرجل يغطي قفصها ليلا بخمار رقيق من القماش، ويزيله أول الصباح عندما يستيقظ باكراً كما عتاد كل يوم. علمت هياء الكثير من التفاصيل عن حياة الرجل العجوز، لأنها كان يتحدث معها على الدوام، وبالذات عن ابنته وعن أحفاده الذين لم يرهم من قبل، لأن ابنته. منذ زواجها. لم تزره مرة واحدة بسبب سخطها عليه لما كانت تسميه قسوة عليها خلال تربيتها. لم تر هياء تلك القسوة التي تحدث عنها الرجل وأقرها على نفسه. لم تر إلا رجلا طيبا وحنونا بقلب مكسور. كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تزوره ابنته ولو مرة واحدة، لأنه كان يهذي بها على الدوام، ويحكي قصصا كثيرة عن طفولتها وعن الأشياء التي كانت تحبها وتكرهها.
رن الهاتف ظهيرة أحد الأيام، فرفع الرجل العجوز السماعة، وبعد ثوان تغيرت ملامح وجهه وأنيرت عيناه واتساع محجراه، وبعد إغلاقه السماعة جرى برشاقة لم ترها هياء من قبل، وقال لها بعدما هز قفصها بيديه: سوف تأتي اليوم! سوف تأتي اليوم!
غمرت السعادة هياء، وبدأت تغرد وتقفز على العصا الخشبية التي كانت تقف عليها، فقال العجوز: أعرف أنك سعيدة مثلي يا صفير! يجب أن أبدأ بتنظيف المكان وإعداد طبقها المفضل!
استمرت هياء بالتغريد بسعادة للرجل الذي فتح باب قفصها وهو يقول ضاحكا: يمكنك التحليق في المنزل كما تشائين، لكن لا توسخي المكان بريشك!
أمضى الرجل العجوز ما تبقى من ظهيرة ذلك اليوم في تنظيف المنزل وترتيبه، وأعد طبقا من حلوى الجيلاتين الأحمر المحبب لابنته عندما كانت صغيرة، ووضعه في البراد، ثم جلس بعدها يراقب الباب وكأنه ينتظره أن يطرق حطت هياء على رأسه، وبدأت تعبث بشعره فقال وهو يحدق بالباب: لا تقطعي تركيزي يا صفير، فقد تطرق ثرية الباب ولا أنتبه وترحل. توقفت هياء عن العبث بشعره وهي مسرورة لحماسه وتراقبه بسعادة غامرة. لم يدم صمت الرجل طويلا حتى تحدث وهو يراقب الباب: ستكون هذه أول مرة أرى فيها أحفادي. هل سيحبونني؟
هياء وهي تغرد: بالطبع سيحبونك!
الرجل العجوز بحزن وهو يحدق بالباب: معك حق، قد لا يحبونني
هياء بتغريد عال: لا تضع في فمي كلاما لم أقله!
طرق الباب.. نهض الرجل من مكانه بسرعة وتوجه نحوه.. حلقت هياء من على رأسه وهبطت فوق القفص تراقب اللقاء بحماس.
فتح العجوز الباب بابتسامة عريضة، فدخلت سيدة بوجه متجهم تلبس لباسا أسود وضيقا، وفي شعرها غرست زهرة بنفسجية جافة، وسارت إلى وسط الشقة متجاهلة أباها تماما. نظر العجوز خلف الباب وهو يقول باسما: أين أطفالك يا ثرية؟
ثرية وهي تجلس على كرسي أبيها الخشبي وتضع ساقا على ساق: أنا لن أطيل المكوث، ولم يكن هناك سبب لقدومهم.
الرجل العجوز: وهو يغلق الباب بحزن: لكني كنت أريد رؤيتهم.
ثرية: أنا بحاجة لبعض المال.
الرجل العجوز وهو يسير نحوها ويفرك أصابعه: كم تحتاجين؟
ثرية وهي تهز ساقها وتنظر من النافذة متحاشية النظر في وجه أبيها: خمسة آلاف.
الرجل العجوز: حسنا سأحاول توفير المبلغ وتحويله لحسابك غدا، لكن لنتحدث الآن قليلا، فأنا مشتاق لك كثيراً.
سار الرجل نحو المطبخ وهو يحاول استعادة ابتهاجه بالقول: لقد أعددت طبق الجيلاتين الأحمر المفضل لك.
فتح العجوز الثلاجة وحمل الطبق بيد، وباليد الأخرى أغلق بابها ومعها سمع صوت باب شقته وهو يغلق، فسار بخطوات متسارعة نحو غرفة المعيشة ليجد المكان فارغا ويكتشف أن ابنته قد رحلت. وقف مصدوما بوجه يضج بالحزن وطبق الجيلاتين البارد في يده. انزعجت هياء كثيراً مما حدث، وحلقت نحوه وحطت لى رأسه وهي تغرد وتقول: لا تحزن، فهي لا تستحق محبتك!
سار العجوز بصمت وجلس على كرسيه الخشبي، ووضع طبق الجيلاتين جانبا، وأدار رأسه باتجاه النافذة، وبدأ يحدق بالخارج بصمت. حاولت هياء إخراجه من حالة الكآبة والحزن التي كانت واضحة عليه بالتغريد والطيران عند وجهه، لكن دون فائدة، فحلقت عائدة نحو قفصها وحطت على العصا الخشبية تراقبه بحزن. بقى الرجل على حاله دون حراك حتى المساء، ولم تبدأ هياء بالقلق عليه حتى تجاوزت الساعة السادسة مساء، وهو الموعد الذي اعتاد فيه إعداد عشائه: فحلقت خروجا من القفص نحوه وبدأت تغرد في وجهه وتقول: هيا، إنس الأمر وقم لإعداد عشائك!
لم يرد الرجل، لأنه مات لحظة جلوسه و نظره للنافذة، واكتشفت هياء ذلك عندما حلقت بالقرب من أنفه وتحسست أنفاسه حطت في حجره وبدأت بالبكاء، وكان بكاؤها تغريدا أشبه بالصياح المنقطع، تبعه وهج ونور قوي يأتي من النافذة أحاط بها.
بعد انقشاع النور وجدت هياء نفسها في غرفة معيشة أمين تجلس أمامه، وبمجرد عودتها رأته يغلق كتابه مبتسما ويقول: كانت رحلة جميلة. نظرت له لثوان ثم بدأت عيناها بالاحمرار، تبعها جريان لبعض الدموع.
أمين: هل كان الكتاب سيئاً.
هياء وهي تدمع: على العكس تماما.. لقد رأيت قبحي فيه.
أمين: ماذا تقصدين؟
هياء وهي تف وتسمح دموعها: هل يمكنني الاستئذان؟
أمين: ماذا عن بقية الكتب؟
هياء وهي تهم بالخروج: سأعود.. أمهلني بضع دقائق فقط.
أمين بصوت مرتفع: أحضري بعض البن من منزلك؟
جرت هياء مسرعة نحو القصر ودموعها تنهمر أكثر مع كل خطوة تخطوها نحوه. فتحت باب القصر وبدأت تنظر حولها، ورأت أباها يقف عند المدفأة الخامدة يدخن غليونه ويتمعن بالتحف المنصوبة على الجدار، فاندفعت نحوه وعانقته من الخلف وقالت وهي تبكي: سامحني يا أبي!
الأب وهو يسحب غليونه من فمه بتعجب: ماذا فعلت الآن؟
هياء وهي لا تزال تعانق أباها وتبكي: سامحني لأني لم أعبر عن امتناني من قبل!
الأب باستغراب وهو يحاول أن يستدير باتجاه ابنته: امتنان؟
عن ماذا تتحدثين؟
هياء وهي تفك عناقه وتنظر في عينيه بعينها الدامعتين: امتناني بأنك لا تمن علي بشيء مما تقوم به لأجلي. أحبك لأنك أبي.
أحبك لأنك بالرغم من وقاحتي طوال تلك السنين. لا تزال تحبني.
ابتسم الأب ووضع كفه خلف ظهر هياء وضمها لصدره وهو يقول: وسأظل أحبك دائما.
هياء وهي تفك عناق أبيها وتجري مسرعة نحو باب القصر: سأعود لتناول الغداء معك اليوم، انتظرني!
الأب وهو يضع غليونه في فمه مبتسما محدثا نفسه: ما الذي طرأ عليها؟
جرت هياء نحو منزل أمين ودخلته على عجالة: وتوجهت مباشرة لغرفة المعيشة وجلست أمامه بحماس: ما الذي سنقرؤه الآن؟
أمين: أين البن؟
هياء: أين بن؟
أمين بإحباط: لا شيء إنسي الأمر.
هياء بحماس متجدد ما الذي سنقرؤه الآن؟
أمين: لقد قرأت الكتاب الذي قرأته.
هياء: أي كتاب؟
أمين وهو يرفع الكتاب الذي قرأته هياء قبل خروجها: هذا..
لحن الأشواق.
هياء وهي تنظر للكتاب بحزن: نعم كان كتابا مؤلما. كنت طائراً مثلي ورأيت ما حدث لذلك الرجل المسكين. أليس كذلك؟
أمين: لا، لم أكن طائراً، ولم يكن هناك رجل عندما قرأت الكتاب.
هياء باستغراب: ألم تقرأ الكتاب نفسه؟
أمين: نعم، لكن هذا لا يعني أننا سنمر بالأحداث نفسها، وإنما فقط المشاعر نفسها. أخبرتك بهذا من قبل. هل نسيت؟
هياء بفضول: ماذا كانت قصتك إذا.
أمين مبتسما: قصة جعلتني أراجع نفسي في علاقتي مع بعض الأشخاص.
هياء: هذا ما حدث معي تماما. من هو الشخص الذي تغيرت نظرتك إليه؟
أمين: شخص خرج من حاتي منذ زمن طويل وكنت ساخطا عليه، لكني سامحته الآن.
هياء: هل يمكنني معرفة من هو؟
أمين: مبتسما بحزن: ابني
هياء: ابنك؟ لم أكن أعرف أنك متزوج ولديك أبناء.
أمين وهو يزفر بحزن: ليس أبناء.. مجرد أبن واحد فقط.
هياء: أين هو؟ لم أره يزورك من قبل. وأين أمه؟
أمين وهو يمد يده ويمسك بأحد الكتب المتبقية: النقاش في الكتب ممنوع، هل نسيت ذلك أيضاً؟
هياء مبتسمة بخبث: النقاش كان عنك وليس عن الكتاب.
أمين: لا أريد الحديث عن أي منهما.
هياء: حسنا كما تشاء. أعتذر على تطفلي.
أمين وهو يمد ل هياء كتابا بعنوان قمم من باب العدل أن تقرئي ما قرأته اليوم قبل أن نكمل قراءة بقية الكتب.
هياء وهي تقف لنأخذ الكتاب وتنظر لعنوانه: أذكر أنك خرجت سعيداً من هذا الكتاب.
أمين مبتسما: نعم.. لا أعلم ما سترين، لكني متيقن أنك ستشعرين بما شعرت به تماما.
هياء: وهل سأخرج سعيدة مثلك؟
أمين: افتحي الكتاب واكتشفي بنفسك.
جلست هياء وفتحت الكتاب ليخرج وهج نور قوي غطاها بالكامل.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا