k2. الصراع..
شعر (برودي) بآلام بشعة في معدته، وهو يقاوم بقايا الاشمئزاز في أعماقه، في أثناء كتابة تقرير الحادث، وخفتت تلك الآلام بعض الشيء، وعندما انتهى من كتابة التقرير، تاركاً خانة (سبب الوفاة) خالية، فأزاح الأوراق جانباً، وارتشف رشفة أخرى من قدح القهوة، في محاولة لتخفيف توتر معدته، ولكن رنين الهاتف تصاعد، فالتقط سماعته، وسمع صوت طبيب الشرطة يقول:
- أنا (كارل) يا (مارتن).. قل لي: هل لديك شك في وجود جريمة قتل، خلف حادث مصرع (كريس)؟
غمغم (برودي) في دهشة:
- جريمة قتل؟!
أجابه (كارل),َ
- إنه احتمال مستبعد بالطبع، ولكن قد يكون أي شخص مجنون قد استخدم فأساً ومنشاراً، و..
أعاد الحديث إلى ذهن (برودي) ذكري مشهد بقايا الجثة، وبدأت معدته تنقبض على نحو سخيف، فقاطع (كارل) قائلاً:
- لا يا (كارل).. لا أعتقد هذا، فلا يوجد دافع أو سلاح جريمة، أو حي مشتبه فيه.
صمت (كارل) لحظة، ثم قال في حزم:
- إنه قرش إذن يا (برودي).. قرش مجرم كبير، له أسنان رهيبة، فحتى رفاص عابرة محيطات لا يمكنه تمزيق الجثة هكذا.
قال (برودي) في توتر:
- قرش؟!.. هل أنت واثق يا (كارل)؟
أجابه (كارل) في حزم:
- سأذكر هذا في تقريري الرسمي، ما لم تكن لديك شكوك أخرى.
قال (برودي) في شرود:
- لا يا (كارل).. اكتب ما تراه مناسباً.
وأنهى الاتصال وهو يشعر بتوتر بالغ..
.. إنه أكثر من يدرك مدى حساسية الأمر، في مثل هذا الوقت من العام، فهو الآن في بداية الصيف، وكل سكان (أميتي), البالغ عددهم ألف شخص، يعتمدون في معيشتهم طيلة العام، على أشهر الصيف الثلاثة، حيث يفد ما يقرب من تسعة آلاف مصطاف إلى البلدة، فينعشون التجار، من أصحاب محال الأجهزة والأدوات الرياضية، ومحطتي الوقود، والصيدلية، وإلا فما استطاعوا مواجهة الشتاء، أو حتى توفير الطعام لعائلاتهم، وصيف واحد سيئ يحطم هذه البلدة الصغيرة، ويضاعف من عدد العائلات المطالبة بالإعانات الاجتماعية، بل قد يضطر بعض أصحاب المتاجر إلى إغلاق متاجرهم، والرحيل إلى بلدة أخرى، بحثاً عن عمل.
باختصار صيف واحد فاشل يكفي لهجر (أميتي) كلها، وتحويلها إلى مدينة أشباح..
و(برودي) يدرك هذا جيداً، وكذلك يدركه (هاري ميدوز), رئيس تحرير الجريدة المحلية (أمتي ليدر0؛ لذا فإنهما يتعاونان، (برودي) و(ميدوز), لمنع أية عوامل، قد تتسبب في فشل أي موسم صيفي، ولو قام بعض شبان المصطافين بأعمال شغب في المدينة مثلاً، فإن (برودي) يمنح (ميدوز) كل التفاصيل، لينشرها في جريدته، مع ذكر الأسماء والأعمار، أما لو قام بالشعب بعض شباب (أميتي), فالخبر يكون في العادة مقتضباً، بدون ذكر أسماء أو أعمار أو عناوين، مكتفياً بالإشارة إلى أن شرطة (أميتي) قد تدخلت لإنهاء مشكلة بسيطة في شارع كذا ..
.. حتى سرقات المنازل في فترة الشتاء كان (ميدوز) يتجاهل نشرها، حتى لا يترك انطباعاً سيئاً لدى المصطافين، يمنعهم من قضاء الصيف التالي في (أميتي), ويترك الأمر كله ل (برودي), لحله بوسائله الخاصية..
.. ولكن هذه المرة كان الأمر يختلف ..
.. كانت هناك سمكة قرش في الجوار، تذوقت طعم اللحم البشرى، وهو لا يدرك إذا ما كانت ستستمرئ هذا، كما يحدث مع النمور، أم لا، إلا أنه يدرك تماماً ضرورة إغلاق الشاطئ لمدة يومين؛ لمنع القرش من افتراس آخرين، ومنحه فرصة الابتعاد عن شاطئ (أميتي) قبل أن يبدأ الموسم الصيفي فعلياً..
.. وفي هذه المرة كان يرغب في نشر الأمر..
.. وكان يعلم أن الأمر لن يكون أبداً هيناً، فكل الشواهد - حتى الآن - تشير إلى صيف ضعيف ضعيف، بالقياس إلى المواسم السابقة، فما زالت هناك عدة منازل لم تؤجر بعد، وخبر ظهور سمكة قرش مفترسة سيزيد الأمر سوءاً.. بل قد يؤدي إلى كارثة..
.. ولكنه لم يكن يستطيع تجاهل واجبه، والمخاطرة بعدد من الأرواح البريئة، لمجرد ظنه أن وفاة في منتصف يونيو يمكن نسيانها بسرعة ..
.. إنه لن يقامر بأرواح الآخرين ..
.. وبسرعة حسم أمره، ورفع سماعة الهاتف، وطلب رقم (ميدوز), ولم يكد يسمع صوت هذا الأخير، حتى قال:
(ميدوز).. هل يمكننا تناول الطعام معاً؟
أجابه (ميدوز),َ
- بالطبع.. إنني أنتظر مكالمتك.. قل لي: هل تحضر إلى مكتبي، أم أحضر أنا إلى مكتبك؟
قال (برودي) في حزم:
- سأحضر أنا إلى مكتبك.
اتصل بزوجته، وأخبرها أنه سيتناول الطعام في الخارج، ثم اتجه على الفور إلى مكتب (ماري ميدوز), وعندما بلغه، كان (ميدوز) يقف بجسمه الضخم إلى جوار النافذة، يدخن ذلك السيجار الرخيص، الذي اعتاد تدخينه، فالتفت إلى (برودي), وقال في مرح طبيعي:
- ارفع هذه الأوراق عن المقعد، واجلس
جلس (برودي) على المقعد المقابل لمكتب (ميدوز), الذي أخرج عدداً من الشطائر، راح يلتهم إحداها في استمتاع، وهو يقدم أخرى ل (برودي), الذي التهم شطيرته في بطء، وهو يقاوم احتجاج معدته، ثم قال:
- لا ريب أنك سمعت بأمر مصرع (كريس), ولقد تحدثت مع (كارل), و...
قاطعه (ميدوز),َ
- وأنا أيضاً.
تجاهل (برودي) هذه المقاطعة، وتابع:
- إنه يظن أن هذا يعود إلى سمكة قرش، ولو أنك رأيت الجثة مثل لوافقته على هذا الرأي.
قال (ميدوز), وهو يتناول شطيرته الرابعة في تلذذ:
- لقد رأيتها.
حذق (برودي) في شطيرة (ميدوز) في دهشة، فلم يكن يتصور أبداً أن شخصاً رأى جثة (كريس), يمكنه أن يأكل بهذا النهم، إلا أنه أجبر نفسه على تجاهل هذا، وهو يقول:
- إذن فأنت توافقني.
أجابه (ميدوز) في بساطة، وهو يلتهم بقايا شطيرته الرابعة:
- بالطبع، ولكن هناك عدة أشياء تثير الريبة.
- مثل ماذا؟
- درجة برودة الماء، عند منتصف الليل مثلاً، فمن الضروري أن تفقد عقلك، قبل أن تسبح في ذلك الوقت.
- أو أن تكون مخموراً.. وهذا هو الأرجح.
- ربما.. لقد تحريت عن (فوت) على أية حال، وهو لا يتاجر في المخدرات، ولا شأن له بها حتماً.
ونفض كفيه عن بقايا شطيرته، وهو يميل نحو (برودي), مستطرداً:
- ولكن هناك أمراً آخر يثير حيرتي.
قال (برودي) في ضيق:
- لا تتماد كثيراً في الأمر يا (ميدوز), فمن الطبيعي أن يلقى البعض حتفهم غرقاً.
لوح (ميدوز) بكفه، وقال:
- لم أقصد هذا، ولكن يدهشني أن يأتينا قرش، والماء على هذه الدرجة من البرودة.
هز (برودي) كتفيه، وقال:
ربما هناك قروش تحب الماء البارد.. من يدري؟
أجابه (ميدوز),َ
- هناك من يعرفون الكثير عن القروش، وهناك مثلاً قرش (جرينلاند), الذي يعشق المياه الباردة، ولكنه لا يأتي إلى هنا قط، ثم إنه لا يهاجم البشر.. هل تعلم؟.. لقد عرفت الكثير عن القروش منذ الصباح، ولم أكد أرى ما تبقى من (كريس), حتى اتصلت بشاب أعرفه، يعمل بمعهد (وودز هول) لعلوم المحيطات، ووصفت له الجثة بدقة، فأكد لي أن نوعاً واحداً من القروش يمكنه فعل هذا، وهو القرش الأبيض الضخم.. هناك أنواع أخرى تهاجم البشر، مثل قرش النمر، ورأس المطرقة، والماكوس، والقرش الأزرق، ولكن ذلك الشاب (مات هوبر) أخبرني أن القرش الوحيد، الذي يمكنه أن يبلغ الحجم الكافي، لقطع امرأة ناضجة إلى نصفين، هو القرش الأبيض الضخم، أو كما يطلقون عليه (قاتل البشر).. ثم إنه من الممكن أن يأتي القرش الأبيض الضخم إلى المياه الباردة.
أشعل (برودي) سيجارته، والتقط منها نفساً عميقاً، وهو يقول:
- يبدو أنك قد بحثت الأمر جيداً يا (ميدوز).
أجابه (ميدوز), وهو يلتقط من المبرد علية بيرة كبيرة:
- كان من الضروري أن أعرف جيداً ما حدث؛ وأن أعرف كذلك احتمالات حدوثه.
سأله (برودي) في اهتمام:
- وهل عرفت؟
أومأ (ميدوز) برأسه إيجاباً، وقال:
- نعم.. ففرصة حدوث هذا مستحيلة تقريباً ف (هوبر) يقول إن أفضل ما في القرش الأبيض هو ندرته، وما دامت لا توجد هنا مصانع تعليب أسماك، أو مذابح تلقي الدماء والأحشاء في البحر، فلن يبقى القرش طويلاً، ولا ريب أنه قد رحل الآن.
ثم رمق (برودي) بنظرة خاصة، وهو يستطرد:
- وهذا فلا داعي لإقلاق الناس، بسبب أمر لن يتكرر. نفث (برودي) دخان سيجارته، وقال:
- إنها وجهة نظرك يا (هاري), أما أنا فأرى أنه لا ضرر في إعلام الناس بما حدث بالفعل.
تنهد (ميدوز), وقال:
- هذا صحيح من الناحية الصحفية، ولكن ماذا عن مصلحة أهل البلدة؟.. إنهم سيعلمون ما حدث بالطبع، ولكن ماذا عن المصطافين؟.. أنت تعلم موقف الإيجارات هذا العام، ولو نشرنا ما حدث، فقل على الموسم السلام.
أومأ (برودي) برأسه، وقال:
- أنا مثلك يا (ماري), لا أرغب في إشاعة الرعب في المصيف، ولكن هناك احتمال، ولو واحد في المائة، أن نكون على خطأ، ولا يمكننا مواجهة هذا الاحتمال، على الرغم من ضآلته، فلو أننا تكتمنا الأمر، ثم هاجم القرش شخصاً آخر، فلن نسامح أنفسنا أبداً، ثم إن واجبي هو حماية الناس، ولو عجزت عن هذا فمهمتي هي تحذيرهم على الأقل، وهذا واجبك أيضاً.. والواقع يا (هاري) أنني أريد نشر الخبر؛ لأنني أريد إغلاق الشاطئ لمدة يومين فحسب، وهذا أفضل ما نفعله، فلم يفد المصطافون بعد، وما زال الماء بارداً، و...
قاطعه (ميدوز),َ
- لا يمكنني التدخل في عملك بالطبع يا (برودي), ولكنني اتخذت قراري بالفعل، في الجزء الخاص بي.
- ماذا تعني بهذا؟
- أعني أنه لن تكون هناك أية قصص، عن حادث (كريس).
- هكذا.. بكل بساطة؟!
- لم يكن ذلك قراري وحدي يا (مارتن), وإن كنت أوافق عليه، صحيح أنني رئيس تحرير هذه الجريدة، وأملك جزءاً منها، إلا أنه لا يكفي لمواجهة الضغوط.
عقد (برودي) حاجبيه، وهو يسأله:
- أية ضغوط؟
أطلق (ميدوز) زفرة من أعماق قلبه، وأجاب:
- لقد تلقيت ست مكالمات هاتفية هذا الصباح، من خمسة من كبار المعلنين في الجريدة.. صاحب مطعم، وفندق، واثنين من شركات السمسرة، ومتجر لبيع (الأيس كريم), وكلهم قلقون من أمر النشر هذا، ولقد اتفقوا جميعاً على أنه ليس من مصلحة (أميتي) أن ننشر هذا.. ثم إن المكالمة السادسة كانت من مستر (كولمان) في (نيويورك), وهو يمتلك خمسة وخمسين في المائة من أسهم (ليدر), وقال إن أخبار ما حدث قد بلغته، وهو يأمرني بعدم النشر.
صمت (برودي) لحظات، ثم قال في حزم:
- فليكن يا (هاري).. لا تنشر شيئاً عن الحادث، أما أنا فسأغلق الشواطئ، وأضع بعض اللافتات التي توضح السبب.
هز (ميدوز) رأسه، وقال:
- أنت حر في قرارك يا (مارتن), ولكن تذكر أنك تحتل هذه الوظيفة بالانتخاب، ومدة احتلالك لها لا تزيد على أربعة أعوام، مثل رئيس الجمهورية، و...
قاطعه (برودي) في غضب:
- هل هذا تهديد يا (هاري)؟
ابتسم (ميدوز), وقال:
- أنت تعلم أنه ليس كذلك، ولكني أريد منك أن تدرك ما ستفعله، قبل أن تعبث بشريان حياة هؤلاء الذين انتخبوك.
كان بقوله هذا يضرب على الوتر الحساس في أعماق (برودي) ..
.. وتر الخوف ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا