3
"ما زلت أذكر، يا دكتور، فرحتي بتخرجي من الكلية، وحصولي على بكالوريوس الهندسة في علم البرمجيات والحواسيب.
كل الجهات الحكومية والخاصة من شركات وهيئات ومؤسسات كانت تطلبني للعمل بحكم تخصصي، فهو تخصص مطلوب بشدة في عصرنا الحال، وبرواتب يسيل لها لعاب أي شخص مكاني، لكني أبيت إلا أن أعمل في شركة متخصصة في هذا الجهاز الذي كان هو حياتي وتفكيري، ليكون عطائي نابعاً من القلب، قبل أن أفكر في أي راتب أريده.
تأخرت قليلاً في التوظيف، وحينما أقول قليلاً فهي مدة قليلة بالنسبة لي، لأني لم أكن أفكر بالأيام التي تنقضي وأنا أنتظر تلك الوظيفة، بيد أن أهلي وأصدقائي كانوا يعاتبوني كثيراً على طول الانتظار ورفض عدد كبير من الفرص الوظيفية التي أتيحت لي.
قضيت ثلاث سنوات من الانتظار لتلك الوظيفة، وأنا أعمل في معهد التدريب الذي كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في تعليمي كيفية الانسجام مع الكمبيوتر عندما كنت صغيراً.
وأخيراً، حانت الفرصة التي كنت أنتظرها منذ زمن، إحدى الشركات الضخمة المتخصصة في تصميم برامج الحواسيب عرضوا عليّ وظيفة ذات مكانة عالية براتب ضخم، بحكم معرفتهم بموهبتي في سر أغوار الكمبيوتر.
أتذكر استقبالهم الحافل لي، رغم أني كنت متوتراً جداً حين ذهبت للمقابلة الشخصية التي طلبوها معي كشرط من شروط التعيين.
ولا أخفيك سراً، يا دكتور، فقد طغى عليّ في تلك الأثناء شعور الفرح العارم لمن ضمن الوظيفة بسهولة ويسر، وبالفعل؛ فلم تمض فترة طويلة من الزمن، أسبوع واحد فقط؛ ثم تلقيت اتصالهم الذي بشرني بقبولي في الشركة وبراتب جيداً جداً، رغم أني لم أكن أهتم بذلك الأمر كثيراً، كما أخبرتك سابقاً.
تخيل، يا دكتور، بأن الموهبة التي كنت أمتلكها باستخدام جهازي المحبوب جعلتني أندمج بسرعة خيالية مع موظفي الشركة، وكأني كنت أعمل معهم منذ زمن طويل.
حدث أمر.. لم أكن أتوقع أن يحدث بتلك السرعة، كان الكمبيوتر يستحوذ تماماً على كل تفكيري، فكيف قامت باقتحام حياتي بتلك السهولة.
من هي؟ ذلك هو السؤال الذي يتبادر لذهنك في هذه اللحظة، أليس كذلك يا دكتور؟
زوجتي وحياتي ونصفي الآخر، أو من كانت كذلك، أعرف أني أتحدث بالألغاز، وأنك لم تفهم شيئاً مما قلته، ولكن...".
صرخ (نادر) فجأة صرخة لوعة خرجت من أحشاء قلبه، ثم أنهار، وأخذ يجهش ببكاءٍ حار.
هَزَّ الدكتور (فوزي) رأسه قائلاً:
- كأني فهمت ما حدث له.
قال (نادر) بصوت مبحوح من كثرة البكاء:
- أعرف ما تفكر به يا دكتور، أؤكد لك بأن الأمر ليس كما توقعته.
صدم الدكتور (فوزي) من كلام (نادر), فقد التمس الصدق فيما قاله قبل قليل، فعلم بأنه تسرع في تخمينه بتشخيص حالته النفسية.
نهض الدكتور (فوزي) من على الكرسي الذي كان يجلس عليه، وقال:
- حسناً يا (نادر), لا أريد سماع المزيد من حكايتك حالياً، سنؤجل ذلك لجلسة قادمة نحددها في وقت لاحق، فقد بدأت ألاحظ أنك متعب وتحتاج للراحة في غرفتك.
ثم اتجه الدكتور (فوزي) إلى مكتبه وضغط على زر النداء، فدخلت الممرضة الغرفة، وقال لها:
- خذي (نادر) ليرتاح في غرفته، فقد انتهينا لهذا اليوم.
4
استيقظ ذلك الشاب، الذي يبدو في العقد الرابع من عمره، فزعاً من نومه، إثر صوت رنين الهاتف الذي بجانبه في الغرفة، رد عليه وهو يلهث من شدة التوتر والانفعال:
- ما الأمر يا (وليد)؟ هل من شيء جديد؟
رد عليه صوت (وليد) من خلال الهاتف يقول:
- أنا آسف على إيقاظك في هذا الوقت يا (طارق), ولكن يجب أن تحضر للإدارة فوراً.
- هل الموضوع خطير لهذه الدرجة؟
- الموضوع يتعلق بالمنظمة.
اتسعت عينا (طارق), وسأل بصوت منفعل:
- هل استطعتم أن تتبعوا مصدرهم أخيراً؟
- لا أريد أن أخيب ظنك، ولكن للأسف لم نستطع أن نتوصل إلى شيء بشأنهم، إلا أننا نعتقد أننا توصلنا إلى طرف خيط قد يكون ذا فائدة لنا.
- سآتي في الحال إذن.
قالها (طارق) بحماس وأغلق هاتفه، وأخذ يفكر للحظات، ثم سمع صوت زوجته التي كانت نائمة بجانبه تقول له بصوت يملأه النعاس:
- هل ستذهب إلى عملك يا عزيزي؟
أجابها، وما يزال الحماس مسيطراً عليه:
- أنا مضطرٌ لذلك يا (منال).
- في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟
- ليس باليد حيلة، أنتِ تعلمين ظروف عملي.
مطت شفتيها غير راضية:
- نعم أعلم.
نهض (طارق) من الفراش، وطبع قبلة على جبينها:
- لا يجب أن نعيد هذه الأسطوانة في كل مرة يا عزيزتي، أنا أعرف أنك خائفة عليّ، وهذا من حقك، ولكن هذا ما يمليه عليّ ضميري أولاً، وواجبي الوظيفي ثانياً.
ثم أكمل كلامه قائلاً:
- ارتاحي الآن، وسأعود فور انتهائي من العمل.
ردت عليه بصوت حنون:
- فليحفظك الله تعالى في حلك وترحالك.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا