الإنترنت المظلم
عبد العزيز الحج
وليمة بالإكراه 1
جلس (نادر) في غرفته المنفصلة في مستشفى الطب النفسي دافناً رأسه بين ركبتيه، منتحباً بشكل يجعل الناظر إليه يشعر بالشفقة والعطف الشديدين نحوه
فتحت الممرضة باب الغرفة، نظرت إليه بصمت للحظات قبل أن تتكلم قائلةً
- (نادر), الدكتور (فوزي) يطلب رؤيتك، قم معي
نظر إليها (نادر) نظرة شرود خاوية، ثم نهض ليسلم نفسه لها بكل هدوء واستسلام
تقدم الاثنان، (نادر) يعلق نظره في الأرض غير شاعر بما حوله، حتى وصلوا إلى غرفة الدكتور (فوزي) الذي صاح
- ادخل
دخلت الممرضة، وجعلت (نادر) يجلس أمام طاولة الدكتور، انصرفت وأغلقت الباب خلفها، وظل (نادر) ينظر إلى الأرض بعينين مغرورقتين بالدموع، ويحاول - عبثاً - منع العبرات التي تتدفق إلى عينيه
صمت الدكتور (فوزي) للحظات، وظل يرمق (نادر) بنظرة إشفاق شديد قبل أن يحاول تهدئة حالته
- (نادر), اذكر الله، وصل على سيدنا محمد
وانتظر الدكتور (فوزي) هذا الأخير حتى انتهى من الأذكار، ثم أجهش بالبكاء بشكل مفاجئ، فأخذ الدكتور ينظر إلى الأرض محاولاً إخفاء دمعة الحزن التي فرت من عينه، وتمتم قائلاً
- لا حول ولا قوة إلا بالله
ثم استطرد
- (نادر), أتعرف لِمَ قمت باستدعائك
نظر إليه (نادر) بصمت، فأكمل
- لا يمكنك أن تظل على حالتك هذه طويلاً، يجب أن تتذكر ما حدث لك بالتفصيل حتى أتمكن من مساعدتك
نظر (نادر) إلى الأرض، وظل يرتجف من فكرة استرجاع ما حصل معه من أحداث قادته إلى ما هو فيه الآن
تنهد الدكتور (فوزي) بقوة، نظر إلى الأرض، ثم قال
- تعمدت أن أطلب منك المجيء إليّ هنا في مكتبي، وأريدك أن تتحدث، رفضت أن أجعلك تكتب ما حدث على الورق، فأنا أريد أن أراقب انفعالاتك بدقة، فهذا سيساعدني في العلاج أكثر
ثم نهض من مكانه واقترب من (نادر), ومد يده إليه قائلاً
- أعطني يدك وتعال معي
هَزَّ (نادر) رأسه موافقاً، ومد يده إلى الدكتور باستسلام ونهض معه، واضطجع على أريكة موضوعة بجانب مكتب الدكتور الذي جلس الدكتور بجانب رأسه ممسكاً بدفتر ملاحظاته ليدون ما يستنبطه من حديث (نادر),َ
- تفضل يا بني، كلي آذان صاغي
تنهد (نادر) بعمق، ومسح خيط الدموع من على خده، ثم قال
- لا أعرف من أين أبدأ يا دكتور
نظر إليه الدكتور (فوزي) نظرة تفحصيه، ثم أجابه
- ابدأ من طفولتك، فأنا أريد سماع قصة حياتك كاملة
أخذ (نادر) نفساً عميقاً كمن سيبدأ بإلقاء محاضرة طويلة، وبينما هو يرنو بنظره إلى السقف؛ بدأ حديثه قائلاً
- سأحاول أن أروي لك كل التفاصيل التي أذكرها في حياتي
"عندما كنت صغيراً يا دكتور، كنت متعلقاً جداً بجهاز الكمبيوتر، وعندما أبدأ بالضغط على أزرار لوحة المفاتيح وزر الفأرة؛ أشعر بتناغم غريب بيني وبين الجهاز الذي أعمل عليه.
بدأت قصتي مع الكمبيوتر في أحد معاهد التدريب التي ألحقني بها أبي بعد ملاحظته لشغفي الشديد بهذا الجهاز، وسرعان ما انغمست بتفاصيل البرامج التي يحتويها، فكنت مثالاً يحتذى به في المعهد في نظر الأساتذة المدربين، فجعلهم ذلك يطلبون مني المساعدة في العديد من البحوث والدراسات التي تصل إليهم، فقد كنت بمثابة عبقري الكمبيوتر من وجهة نظرهم
فرح أهلي كثيراً بهذا الشيء، وحثوني للمضي قدماً بما أنا فيه، بل إن أمي واخوتي من بعدها بدأوا يلحون على أبي باستمرار لإقناعه بشراء جهاز كمبيوتر خاص بي
ولا يمكنك أن تتخيل فرحتي عندما احتضنت الجهاز الجديد الذي اشتراه أبي لي، فأخذت أقبله بفرح طفولي جعل أهلي يضحكون على ذلك الموقف كثيراً
ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال كثيراً بالنسبة لأهلي، ولأبي على وجه الخصوص، فكما تعلم يا دكتور تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فذلك الأمر لم يكن يعجب والدي أبداً، فقد بدأ يلاحظ ضعف مستواي الدراسي بكافة المواد، بسبب انشغالي عن الكتب بجهاز الكمبيوتر الخاص بي
فأخذ يصرخ عليّ بشدة، وأخذ مني الجهاز ليخفيه بغية أن أعود إلى دروسي، ولأحسن من درجاتي، لكنه لم يكن يعلم بأنه قد أحبط من عزيمتي وزادني كسلاً وبعداً عن دروسي، إلى أن رسبت في تلك السنة الدراسية
حالتي النفسية تدهورت وقتها أكثر فأكثر مع مرور الأيام، ولم يعالج الأمر إلا تفهم والدي لحبي الشديد لهذا الجهاز، فغيّر من طريقته لحثي على النجاح في دراستي
جالسني أكثر من مرة، وأخذ يرفع من عزيمتي بتشجيعه لي للتفوق حتى أتمكن من أن أتخصص في مجال الكمبيوتر والبرمجيات في مستقبلاً
وبالفعل، نفذت وصية والدي، اجتهدت في دراستي حتى أصبحت متميزاً في جميع المواد، ونلت درجات متقدمة جداً بين زملائي في الدفعة، فتمكنت من الالتحاق بالكلية التي أريدها
كان أهلي فخورين بي بعد هذا التحول العام في مسيرة حياتي، وراحوا يتفاخرون بي أما أقربائنا، ويطمرونني بشتى عبارات المديح المعروفة، فكما تعلم هذه هي طبيعة مجتمعنا، يهتم بالظواهر أكثر من أي شيء آخر
ولا يخفى عليك، يا دكتور، تفكير أكثر العائلات في مجتمعنا، فسرعان ما نسي أبي وعده لي، وراح يسمعني نصائح عن الالتحاق بكلية الطب، وما يتبع ذلك من مكانة اجتماعية مرموقة، ناهيك عن الحالة المادية الميسورة جداً لما يجنيه الأطباء من وراء عملهم
وقفت في وجه أبي بعد محاولات عديدة منه ومن أمي وإخوتي لإقناعي بالعدول عن فكرة التخصص في مجال الكمبيوتر والبرمجيات، وأبيت إلا أن أخضع لرغبتي الملحة التي جعلتني أهوى هذا الجهاز الرائع منذ طفولتي
وبعد جهد أخضعت أهلي للأمر الواقع، وتميزت في المجال الذي أحببته، حتى علق اسمي بلوحة الطلبة المتميزين الذي تخرجوا من الكلية على مر الأجيال"
التفت (نادر) لينظر إلى الدكتور (فوزي) الذي يعلق بصره بدفتر ملاحظاته بصمت، فسأله
- ما رأيك بما سمعت حتى الآن
عدل الدكتور (فوزي) نظارته الطبية على أنفه، وزفر بقوة، ثم قال
- أنا آسف يا (نادر), ولكن ليس هناك ما يشوب قصتك حتى الآن
رد عليه (نادر) قائلاً
- معك حق يا دكتور، الأمور تبدو أفضل من الطبيعية حتى الآن، وأعلم أنك بدأت تشعر بالملل..
قاطعه الدكتور (فوزي),َ
- لم أقصد بأني مللت مما ترويه.
قاطعه (نادر) بدوره
- لا عليك يا دكتور، ولكن صدقني، كل ما فات مجرد مقدمة، والآن ستبدأ قصة رحلتي التي انتهت بي إلى هنا
.:...:.:؟:............
2.:.:.:ة..:.:..:؟:.:.:..:..:. ي
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا