روايات عالمية للجيب
(5
الفك المفتر
تأليف: بيتر بينشل
ترجمة: إيناس النجا
فكإعداد: د. نبيل فارو
1. ليل.. ودماء.
غمر السكون تلك الليلة، وانتشر الظلام فوق الأمواج المتلاحقة على رمال الشاطئ، وبدا مشهد البحر هادئاً، لا يشف أبداً عما يدور في أعماقه، تحت سطحه الغامض، في ليلة من ليالي منتصف يونيو .
ولكن هناك.. في الأعماق، كانت تلك السمكة الهائلة تسبح وسط السكون، محركة ذيلها الهلالي في حركات قصيرة ناعمة، وأسنانها منفرجة على نحو يسمح بتدفق المياه فرق خياشيمها، وهي تعدل مسارها كل فترة، بلا هدف أو مسار محدود، وحواسها لا تنقل إلى فمها البدائي أية أمور غير عادية، حتى ليخيل إليك أنها نائمة، لولا حركة ذيلها وزعانفها، التي تليها غريزة موروثة، عبر ملايين السنين، لتضمن لها البقاء؛ إذ لم تكن تملك - كغيرها من الأسماك - كيس هواء تطفو به، ولا مراوح تخفق لدفع الماء المخمل بالأكسجين إلى خياشيمها .
كل هذا تفعله بحركتها الدائمة، التي لا تنقطع منذ مولدها، وحتى ترقد في القاع لتموت .
وفي حركتها الدائمة، لم تكن سمكة القرش تشعر بما يدور على الشاطئ، حيث غادر رجل وامرأة كوخهما الصيفي، وراحا يسيران على رمال الشاطئ، يضربان الأمواج بأقدامهما، ثم لم يلبثا أن استلقيا على الرمال، يتطلعان إلى السماء الخالية من القمر، بنجومها اللامعة، ويتناجيان بعبارات عشق وهيام، حتى هبت المرأة واقفة، وسألت الرجل في حماس
- ألا ترغب في السباحة قليلاً
أشار إليها بيده نافياً، وأسبل عينيه في استرخاء، فأسرعت هي نحو البحر، وداعبت المياه الباردة بأطراف أصابع قدميها، قبل أن تهتف به مرة ثانية
- أأنت والق من عدم رغبتك في السباحة؟
تمتم وهو يسلم جسده للنعاس:
- تماماً
تراجعت هي إلى الخلف، ثم اندفعت تقفز داخل الماء، والأمواج تضرب قدميها، ثم لم تلبث أن ألقت نفسها فوق موجة قادمة، وراحت تسبح في نشوة واستمتاع .
وعلى بعد مائة متر من الشاطئ، استقبلت حواس السمكة تغيراً في إيقاع البحر .
صحيح أنها لم تر المرأة، ولم تستقبل رائحتها بعد، وإنما استقبلت شعيراتها العصبية ذبذبات آتية من اتجاه الشاطئ، اتجهت نحوها في صمت، ولم تلبث أن عبرت أسفل المرأة، على عمق مترين، ثم تجاوزتها بعدة أمتار .
وشعرت المرأة بموجة مباغتة، ترفعها إلى أعلى، ثم تهبط بها إلى أسفل في بطء، فتوقفت عن السباحة، وانحبست أنفاسها في خوف، وراحت تتطلع إلى الشاطئ البعيد، محاولة استعادة بعض الطمأنينة، برؤية أضواء كوخها الصيفي، ثم لم تلبث أن عاودت السباحة في حذر، عائدة إلى الشاطئ .
ولكن سمكة القرش شمت رائحتها الآن، واستقبلت ذبذبات ضربات يديها على سطح الماء في وضوح، فأخذت تدور في حلقة واسعة، صاعدة إلى السطح، حتى شقت زعنفة ظهرها سطح البحر، وارتفع جسدها فوق المياه .
وعلى الرغم من أن المرأة لم تر سمكة القرش، إلا أن الحرف سرى في عروقها، ودفع كمية من الأدرينالين إلى دمائها، فراحت تسبح بسرعة أكبر، محاولة بلوغ الشاطئ، الذي يبدو واضحاً من بعيد .
وفجأة انقضت عليها سمكة القرش .
ارتفعت من تحت الماء كجبل هائل، وانفتح فكاها عن آخرهما، ثم انطبقت أسنانها على جذع المرأة، التي أطلقت صرخة رعب وألم هائلة، وحاولت أن تضرب الماء بقدميها، لتصعد إلى السطح، ولكن الأسنان الحادة المنشار جذبتها إلى أسفل، وغاصت بها في الأعماق، فكتمت المياه صراخها، و..
.. وارتفعت بقعة دماء كبيرة إلى السطح..
.. ثم عاد الهدوء .
* *
فتح الرجل عينيه، مستقبلاً أضواء الشفق الأولى، التي تنبئ بقرب شروق الشمس، وشعر ببعض البرد يسرى في أطرافه، وهو يرقد على رمال الشاطئ، وأدهشه أن استغرق في النوم على هذا النحو، فنهض يتثاءب، وانعقد حاجباه في غضب، لأن زوجته الم توقظه، قبل عودتها إلى الشاطئ، ثم شعر بالدهشة، عندما رأى حذاءها على مقربة منه، فحمله عائداً إلى الكوخ، الذي ظلت أضواؤه مشتعلة طوال الليل، وسار على أطراف أصابعه، وهو يدلف إليه، ويلقي نظرة على حجرة معيشته الحالية، وقد تناثرت فيها الأكواب الفارغة، وأعقاب السجائر، ثم اتجه إلى حجرة النوم، وأدهشه أن وجدها خالية، لا أثر لزوجته فيها، فتطلع إلى ساعته، وساوره القلق عندما وجد أنها تشير إلى الخامسة صباحاً، وراودته لأول مرة فكرة وقوع مكروه ها، فسرت لي جسده ارتجافة باردة، وهتف لنفسه في ذعر
- ماذا لو أنها غرقت
كان هذا الخاطر يكفي لبث كل الرعب في عروقه، فاندفع مغادراً حجرة النوم إلى حجرة نوم أخرى، يقيم فيها صاحب الكوخ الأصل وزوجته، وقرع بابها في انزعاج شديد، جعل صاحب الكوخ يهب من فراشه منزعجاً، ويندفع إليه، هاتفاً في غضب
- (توم).. هل تعرف كم الساعة الآن؟
أجابه (توم) في توتر:
- أعلم يا (جاك), ولكن (كريس) اختفت.
هتف (جاك),َ
- اختفت؟!.. ما الذي تعنيه بقولك هذا؟.. هل بحثت عنها في حجرة المعيشة، أو .
قاطعه (توم),َ
- لقد بحثت في كل مكان، وأخشى أنها قد.. قد .
ازدرد لعابه، في محاولة للسيطرة على تهيج أعصابه، قبل أن يكمل
- قد غرقت
ارتفع حاجبا (جاك) في ذعر ودهشة، ولم ينبس ببنت شفة، وإنما اندفع نحو الهاتف.
.. وبدأت عملية البحث .
* *
استغرق الشرطي (لين هندريكس) في قراءة رواية بوليسية مثيرة، وهو يجلس خلف مكتبه، في قسم شرطة (أميتي), حتى أن جسده انتفض انتفاضة عجيبة، عندما ارتفع رنين الهاتف المجاور له بغتة، يشق سكون الفجر، فالتقط سماعة الهاتف في شيء من السخط، ووضعها على أذنه قائلاً
- هنا الشرطي (هندريكس), في قسم شرطة (أميتي), في خدمتكم
أتاه صوت مضطرب، يقول
- أنا (جاك فوت), أقيم في شارع (أولد ميل).. أريد أن أبلغ عن سيدة مفقودة.. لقد ذهبت للسباحة مع زوجها، في الواحدة صباحاً، ولم تعد بعد، و.
قاطعه (هندريكس) بلهجة رسمية
- ما اسمها
- (كريستين واتكنز
- العمر؟
- حوالي خمسة وعشرون عاماً.. زوجها يقول هذا.
- الطول والوزن
- طرها يقرب من مائة وستين سنتيمتراً، ووزنها حوالى الستين كيلو جراماً
- ما لون الشعر والعينين
وهنا شعر (جاك) بالسخط، فهتف:
- ما الذي يعنيه هذا بالله عليك؟.. إني أتحدث عن سيدة غرقت في البحر
قال (هندريكس) في هدوء
- ومن قال إنها غرقت؟.. أليس من المحتمل أنها قد هربت مثلاً؟
صاح (جاك),َ
- في ثوب الاستحمام 19.. هل رأيت في حياتك كلها امرأة تهرب في الواحدة صباحاً، في ثوب استحمام
بدا (هندريكس) شديد البرود، وهو يقول
- هذا لا يحدث عادة في (أميتي), ولكن كل شيء ممكن في الصيف، ففي أغسطس الماضي رقص بعض الشبان الطائشين أمام النادي، في ثياب يندى لها الجبين، والآن، ما لون الشعر والعينين
زفر (جاك) في حنق، وأجاب:
- شعرها ذهبي، وعيناها لهما لون عسلي فاتح.
قال (هندريكس) بهدوئه المثير
- حسناً يا مستر (فوت), سنقوم باللازم، وتصل بك فور توصلنا إلى أي شيء
وأنهى الاتصال في بساطة، وهو يتطلع إلى ساعته.
.. كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة وعشر دقائق، والرئيس لن يستيقظ من نومه قبل ساعة، وهو لا يحب أن يوقظه قبل موعده، من أجل بلاغ تقليدي عن غياب امرأة ولكنه يخشى أن يغضب الرئيس لعدم إيقاظه، فالرئيس (برودي) رجل نادر، يمنح عمله الجزء الأكبر من وقته واهتمامه، ويصر دائماً على ضرورة التحرك بسرعة، خشية أن يكون الوقت هو السبب الوحيد للفشل .
وهكذا حسم (هندريكس) أمره، ورفع سماعة الهاتف، وطلب رقم الرئيس (برودي), وانتظر لحظات، حتى سمع صوت الرئيس يقول بلهجة نصف ناعسة
- من
أجابه في حرج
- أنا (هندريكس) يا سيدي.. يؤسفني إزعاجك في الخامسة والثلث، ولكن .
قاطعه (برودي) في ضيق:
- المهم أن يكون لديك سبب قوى لهذا
أسرع (هندريكس) يجيب:
- بالطبع يا سيدي
وراح يقص عليه مضمون محادثة (جاك فوت), وأضاف في اهتمام
- لقد رأيت أن أتصل بك على الفور، فربما تحب القيام بإجراء خاص، قبل أن تخرج المربيات مع الأطفال في الصباح، ففاجئهم جثة على الشاطئ
قال (برودي) في ضيق:
- ولماذا لم تصل بزميلك (كيمبل)؟
ثم لم يلبث أن زفر في ضيق، قائلاً
- لا بأس.. أعلم أنه يغط الآن في نوم عميق، داخل سيارة شرطة، في مكان ما؛ لأنه يعمل صباحاً في بار ... حسناً.. سأحتمل هذه المرة أيضاً، وسأذهب إلى (أولد ميل) لبحث ما حدث.. انتظرك في القسم
وأعاد (برودي) سماعة الهاتف، وتثاءب، ثم ألقى نظرة على زوجته، التي لم يوقظها رنين الهاتف؛ وابتسم وهو يداعب خصلات شعرها الناعمة في حنان، ثم نهض يحلق لحيته، ويتناول قدحاً من القهوة، وارتدى ثيابه الرسمية، ثم بدأ عمله
.. وفي تمام السادسة والنصف، كان (برودي) يدخل شارع (أولد ميل), تحت شمس ساطعة، في سماء صافية، وراح يفحص الشاطئ أمام الأكواخ، وشعر بالارتياح لعدم وجود جثث غرق، وألقى نظرة لا مبالية على بعض الأخشاب التي لفظها البحر، وعلى حزام الأعشاب الممتد بطول الشاطئ، وغمغم
- من المؤكد أنها لم تغرق، وإلا للفظها البحر هنا
ظل يفحص الشاطئ حتى السابعة، دون أن يعثر على شيء، فاستقل سيارته عائداً إلى قسم الشرطة، وبلغه في السابعة وعشر دقائق، واستقبله (هندريكس), في اهتمام، وهو يسأله
- هل عثرت على شيء أيها الرئيس
هزر (برودي) رأسه نفياً، وأدهشه أن بدت خيبة الأمل على وجه (هندريكس), وكأنما يؤسفه آن عاد رئيسه بلا جثة، فسأله
- ألم يعد (كيمبل) بعد؟.. أخشى أن يكون نائماً، فسيكون من المؤسف أن يرى الناس، وهم في طريقهم إلى عملهم، رجل الشرطة نائماً داخل سيارته
ابتسم (هندريكس), وقال:
- اطمئن يا سيدي.. إنه يصل دائماً في تمام الثامنة
لوح (برودي) بيده، وصب لنفسه قدحاً من القهوة، حمله إلى مكتبه، وراح يرتشفه في بطء، وهو يطالع صحيفتي (نيويورك ديلي نيوز), و(أميتي ليدر), والأخيرة صحيفة محلية، تظهر أسبوعياً في الشتاء، ويومياً في الصيف .
.. وفي تمام الثامنة حضر (كيمبل) مع بديل (هندريكس), فاستعد الأخير للانصراف، عندما غادر (برودي) مكتبه، وقال له في هدوء
- سأذهب الآن لرؤية (فوت).. هل تحب الذهاب معي
أجابه (هندريكس) في حماس
بالطبع، فأنا أحب معرفة ما انتهى إليه الأمر
اصطحبه (برودي) في سيارته إلى كوخ (جاك فوت), وعندما بلغاه ضحك (هندريكس), وهو يقول
- أراهنك أننا سنجدهم نائمين.. هل تذكر لك السيدة، التي اتصلت في الصيف الماضي، بعد منتصف الليل بقليل، وقالت: إنها قد فقدت مجوهراتها، وعندما عرضنا الذهاب إليها على الفور، اعترضت، وطالبتنا بالحضور في الصباح؛ لأنها تحتاج إلى النوم
أجابه (برودي), وهو يغادر السيارة
- سنرى
لم يكد يقرع الباب حتى فتحه شاب وسيم، سألهما في قلق
- هل عثرتما عليها؟.. أنا (توم كاسيدي).. ونحن في انتظاركم
أجابه (برودي),َ
- لا يا مستر (كاسيدي).. لم نعثر عليها.. أنا الرئيس (برودي), وهذا الضابط (هندريكس).. هل يمكننا الدخو
أفسح لهما الشاب في الطريق، قائلاً
- بالطبع.. تفضلا إلى حجرة المعيشة، وسأحضر مستر (فوت)
لم تمص خمس دقائق، حتى كان (برودي) قد عرف كل ما يمكنه معرفته، ثم قرر أن يفحص الشاطئ مرة أخرى، مع (هندريكس), و(كاسيدي), وعندما بلغا الموضع الذي رقد فيه (كاسيدي) على الشاطئ، قال (برودي),َ
- سنفحص الشاطئ من الجانبين.. اذهب أنت يا (هندريكس) إلى الشرق، وسأذهب أنا وأنت يا مستر (كاسيدي) إلى الغرب، ولتنطلق صفارتك على الفور يا (هندريكس), إذا ما عثرت على شيء ما
انفصلا عند هذه النقطة، وخلع (هندريكس) حذاءه، وراح يضرب الأمواج بقدميه، وهو يسير على رمال الشاطئ شرقاً، وتساءل عن آخر مرة سبح فيها وسط الأمواج، كما يفعل المصطافون، وابتسم وهو يتذكر إحصائية قرأها يوماً، تقول إن نصف سكان (نيويورك) لم يشاهدوا حياتهم تمثال الحرية، الذي يجذب آلاف السائحين إلى بلدهم كل يوم، وراح يشرب الماء بقدميه أسرع وأسرع .
.. ثم فجأة جذب انتباهه تجمع ضخم للأعشاب البحرية، فاتجه إليه في اهتمام، وخُيل إليه وجود شيء ما أسفل هذه الأعشاب، فمد يده يزيحها جانباً .
.. ولم يكن يفعل حتى اتسعت عيناه في رعب، وتراجع كالمصعوق، ثم انتزع صفارته من جيبه بأصابع مرتجفة، وراح يطلق صفيراً طويلاً متصلاً .
.. ومن بعيد التقطت أذنا (برودي) الصفير، فانطلق يعدو مع (كاسيدي) شرقاً، وما أن وصلا إلى موضع (هندريكس), ورأيا ما رآه ذلك المسكين، حي صرخ (كاسيدي) في الم ورغب، وهتف
- إنها هي.. إنها هي..
ثم انهار إلى جوار جثة زوجته..
.. أو ما تبقى منه
ا :.... .:ل؟.:.:؟:.:؟:.. .:؟:.:..: .:. . .:؟:. .: ؟:؟! :. ؟.؟ )؟:.:.:*...:. .. :؟:*. ......... :؟:....قريس)
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا