وخلال مرورهما بغرفة المعيشة لم يكن السيد الكبير موجوداً بها، لكنهما لم تلقيا بالا لذلك الأمر، ثم مشتا حتى وصلتا إلى باب منزل أمين وطرقت هياء الباب.
حليمة بقلق: لم لا نأتي في وقت آخر؟
هياء وهي تطرق الباب مجدداً: لماذا؟
حليمة: ربما يكون نائما.
هياء وهي تضحك وتطرق الباب مرة أخرى: لم أر السيد أمين ينام من قبل، فلا تقلقي.
لم يفتح أحد الباب بالرغم من تكرار طرق هياء على درفته بقوة، وعندها بدأ القلق يتسلل لقلبها وقالت: غريبة. في العادة لا أضطر لطرق الباب مرتين كي يفتح السيد أمين.
حليمة: أخبرتك بأنه قد يكون نائما.
هياء وهي تطرق الباب بقوة: سيد أمين!
لم يرد أحد.
بدأت هياء بإدارة المقبض بتوتر لفتح الباب، لكنه كان مغلقا، فجرت نحو السور وهي تبحث بتوتر شديد عن مكان آخر يمكنها الدخول منه للمنزل.
حليمة بقلق: ما بك يا سيدة هياء؟
هياء وهي تصرخ في حليمة: أحضري مساعدة بسرعة!
حليمة بتوتر: ماذا تقصدين؟
هياء بعصبية: استدعي بعض الرجال من القصر فوراً!
عادت حليمة جريا نحو القصر، وبعد دقائق عادت ومعها بعض الحراس. وبمجرد وصولهم صرخت فيهم هياء وقالت: أكسروا الباب!
نفذ الرجال أمرها، ولحظة أن فتح الباب هرعت هياء لداخل المنزل وهي تصرخ وتنادي على أمين. لم تجد له أي أثر في غرفة المعيشة أو أي غرفة أخرى، فتذكرت أنها تركته قبل رحيلها في السرداب، فتوجهت مسرعة نحو بابه ونزلت على عجالة عبر السلالم. وما إن وصلت إلى نهايتها حتى رأت أمين ملقي على الأرض وفاقداً لوعيه. جرت نحوه وجئت عند رأسه ووضعته على حجرها وهي تصرخ وتبكي بقوة: سيد أمين.. سيد أمين!
دخلت حليمة مع من كانوا معها للمنزل عندما سمعوا صراخ هياء وتوجهوا مباشرة للسرداب، وعند رؤيتها لهم صرخت فيهم و هي تبكي: خذوه للمستشفى الآن!
نقل أمين للمستشفى بالسيارة، وكانت حليمة في المقعد الأمامي مع السائق وهياء في المقعد الخلفي ممسكة ب أمين طوال الطريق وتمسح على رأسه وتبكي. لحقت بالسيارة سيارة أخرى استقلها بعض الرجال الموكلين بمرافقة هياء وحراستها. وصلوا للمستشفى وأدخل أمين للطوارئ في الحال، وبعد ساعة من الانتظار خرج الطبيب الذي اشرف على الكشف عليه، ورأى ممر المستشفى ممتلئا بالرجال المحيطين بفتاة تبكي بجانبها سيدة عجوز تواسيها. تقدم الطبيب نحو هياء وقال لها: هل أنت أحد أقربائه؟
هياء وهي تنهض بسرعة وقلق شديد: هل هو بخير؟
الطبيب: لقد تعرض لجلطة وهو الآن في غيبوبة.
هياء وهي تبكي بحرقة: ما معنى ذلك؟ هل سيتعافى أم لا؟
الطبيب: الأمر بيد الله الآن.
هياء وهي تمسح دموعها المنهمرة: ومتى سيخرج من غيبوبته؟
الطبيب: الله أعلم، لكنه يجب أن يبقى تحت الملاحظة فترة من الزمن.
هياء: سوف أخذه لمستشفى آخر!
الطبيب: هذا من حقك، لكن لا أنصح بنقله الآن. انتظروا حتى تستقر حالته.
بدأت هياء تبكي بحرقة وحليمة تواسيها.
الطبيب: من سيتكفل بعلاجه؟
هياء وهي تشد لباس الطبيب بقوة وتصرخ في وجهه: لا تتحدث عن التكاليف! قم بعملك فقط!
أمسكت حليمة بقبضة هياء، وحررت الطبيب منها وهي تقول: ماذا تفعلين يا سيدة هياء؟
هياء وهي تترك الطبيب وتعانق حليمة وتبكي بقوة: يجب ألا
يموت!.. يجب ألا يموت!
حليمة وهي تضمها بقوة: لا تقلقي، كل شيء سيكون على ما يرام.
الطبيب وهو يرتب هندامه بتجهم: لا تنسوا المرور بقسم المحاسبة قبل رحيلكم.
هياء وهي تفك عناق حليمة بعينين دامعتين: أين هو؟
أريد رؤيته!
الطبيب وهو يهم بالرحيل: الغرفة 634.
توجهت هياء ومن كان معها للغرفة التي كان بها أمين، و دخلت عليه بخطوات بطيئة ودموع منهمرة، ورأته في سريره الأبيض والأجهزة موصلة به وصوت طنين جهاز مراقبة نبضات القبل يرن كل ثانية. مشت هياء ببطء حتى أصحت عند رأسه، فسحب أحد الرجال المرافقين لها كرسيا وضعه خلفها، لكنها لم تجلس وبقيت تحدق بوجه أمين الشاحب وهي تقول بحزن شديد ووجنتين مبتلتين بالدموع: لا تتركني يا أمين. أرجوك.
بعد دقائق من الوقوف أمامه بصمت أحست هياء بيد حليمة وهي تلمس كتفها وتقول لها: لنرحل الآن وسنزوره غدا.
هياء وهي تدمع وتحدق بوجه أمين: قد يستيقظ وحده ولا يراني.
حليمة: لا فائدة من بقائنا هنا الآن. سنعود غدا، أعدك بذلك.
سارت هياء بهدوء معها وهي تدمع بصمت.
عندما عاد الجميع للمنزل كان السيد الكبير في انتظارهم، وكان غاضبا بسبب غياب الجميع دون علمه. وعندما دخلت هياء القصر. وقبل أن يوبخها أبوها. عانقته وبدأت تبكي. نظر السيد الكبير بتعجب ل حليمة التي كانت تقف خلفها وقال: ما الأمر؟ ما الذي حدث؟
حليمة وهي تشير للسيد الكبير بتأجيل السؤال لاحقا.
عانق السيد الكبير هياء وهو يواسيها ويقول: لا تقلقي يا ابنتي، مهما حدث فستكون الأمور بخير.
بعد ذلك اليوم، وبعد معرفة السيد الكبير سبب حزن ابنته، أمر بنقل أمين لأكبر مستشفى في المدينة بالرغم من أنه كان سينقله لمستشفى متخصص في الخارج، لكن هياء أخبرته بأنها ستذهب حيث سيذهب، لذلك قرر إبقاءه في المدينة نفسها، خاصة أن جميع الأطباء الذين استدعاهم للكشف عليه اتفقوا على أنه لن يفيق من غيبوبته، وأنه سيقضي بقية حياته بتلك الحالة. مرت خمس سنوات منذ أن سقط أمين في غيبوبته، وخلالها بلغت هياء الثامنة عشر من عمرها، وكانت تزوره بشكل شبه يومي في غرفته الخاصة في ذلك المستشفى الفخم الذي نقل إليه. كانت في كل زيارة تتحدث معه وتقرأ له وكأنه ينصت إليها. رافقتها حليمة في بعض زياراتها، ورافقها السيد الكبير عدة مرات أيضاً. وفي إحدى زيارات هياء ل أمين وحدها، دار حوار بين حليمة والسيد الكبير في القصر:
السيد الكبير وهو يدخن غليونه: هل ستبقى هياء بهذه الحالة؟
حليمة: لا نستطيع منعها يا سيدي، فأنت ترى كيف أنها متعلقة به.
السيد الكبير: أنا متعجب من قدرتها على التفوق في دراستها، وهي تقضي معظم يومها في المستشفى.
حليمة: أقدر قلقك يا سيدي، لكن أرى أن الوقت الحالي ليس مناسبا كي نتدخل.
السيد الكبير وهو ينفخ سحابة من الدخان: لن يطول الأمر.
حليمة بقلق: ماذا تقصد يا سيدي؟
السيد الكبير: سوف تنتهي هياء من دراستها الثانوية خلال أسابيع، وحالما يحدث ذلك سوف أرسلها كي تكمل دراستها بالخارج، وبذلك سوف تنسى كل شيء يربطها بهذه المدينة، وقد ألحق بها لاحقا بعد تصفية جزء من أعمالي هنا.
حليمة: هل تنوي الهجرة يا سيدي؟
السيد الكبير: لم أعد أطيق البقاء ها.. سف أدير أعمالي من هناك، وسأربي هياء بعيدا ًعن هذه الأجواء الكئيبة.
حليمة: ماذا عن السيد أمين؟
السيد الكبير وهو يضع بعض التبغ في غليونه: لا تقلقي، لن أتوقف عن الصرف على تكاليف علاجه حتى بعد سفرنا.
حليمة: وهي تنزل رأسها: هل لي بسؤال يا سيدي؟
السيد الكبير وهو يشعل عود ثقاب: ماذا يا حليمة؟
حليمة: لم انتقلنا لهذا الحي؟ لقد كنا سعيدين في الحي السابق.
السيد الكبير وهو يزفر بعض الدخان: كنت أظن أني أستطيع تصحيح أخطائي في الماضي، لكن يبدو أن الفرصة لن تتاح لي مرة أخرى.
حليمة: لم أفهم قصدك يا سيدي.
السيد الكبير: لا يهم الآن المهم هو ألا تخبري هياء بما دار بيننا.
حليمة: أمرك يا سيدي.
في تلك الأثناء كانت هياء قد وصلت للتو إلى المستشفى، وتحديداً عند باب غرفة أمين وطرقته وهي تبتسم، ثم دخلت وهي تحمل كتابا وبعض الزهور، استبدلت الزهور التي أحضرتها أمس بأخرى جديدة، ثم جلست بجانب السرير وهي تقول بسعادة: لقد أحضرت كتابا جديداً اليوم!
منذ أن دخل أمين في غيبوبته لم تقرأ هياء أي كتاب من كتبه، لكنها بدأت تجرب قراءة كتب أخرى من مكتبات المدينة ووجدت في بعضها متعه.
هياء وهي تتصفح الكتاب الذي أحضرته معها: تعرف يا أمين لم أكن أعلم أن بعض الكتب الموجودة في المكتبات يمكن أن تكون ممتعة.
أمين.
هياء وهي تضحك وتتمعن بإحدى صفحات الكتاب: بالطبع، لا أحد منها يقارن بكتبك.
أمين.
هياء ووجهها يتحول للحزن وهي تحدق بطرف صفحة من صفحات الكتاب: لكني أقسمت ألا أقرأ أيا منها حتى تفيق.
ولا تقلق، لقد أغلقت باب السرداب جيداً، وعينت حراسا عل المنزل حتى تعود إليه سالما.
أمين..
هياء وهي تبتسم مرة أخرى، وتشد على دفتي الكتاب بين يديها: كتاب اليوم أخذته من المكتبة وأنا قادمة إلى هنا. عنوانه شدني.. أمل أن يكون شائقا كعنوانه.
بعد نصف ساعة من القراءة بصوت جهوري: توقفت هياء وأغلقت الكتاب، ولفته ونظرت لعنوان وقالت: كيف يجد كاتب الجرأة على نشر مثل هذا الكلام.. ألا يخجل من وضع اسمه على هذا الهراء؟
أمين وهو مغمض العينين: أخبرتك سابقا أنه لا يوجد كتاب سيئ.
رمت هياء الكتاب من يدها عندما سمعت صوت أمين، وبدأت تهزه بقوة وهي تصرخ وتدمع: أمين! هل أنا أحلم؟
أمين وهو يفتح عينيه مبتسما: توقفي عن هزي بهذا الشكل!
هياء ترفع يديها بسرعة وتغطي فمها وتدمع وتقول بتوتر وهي ترجف: أنا لا أحلم. أليس كذلك؟
أمين وهو يبتسم: لا أظن.
اندفعت هياء نحو أمين وعانقته بقوة: وبدأت تبكي بنحيب قوي.
أمين وهو يبتسم ويطبطب بكفه على ظهرها: لقد كبرت كثيراً. كم كنت غائبا عن الوعي؟
هياء وهي لا تزال تعانق أمين وتبكي كالأطفال: كثيراً أيها الأحمق!
أمين وهو يضحك: أعتذر إذا.
فكت هياء عناق أمين وقالت له بتوتر: أبق هنا ولا تتحرك، سوف أستدعي الطبيب!
أمين مبتسما ومراقبا هياء وهي تخرج من الغرفة جريا: لا تقلقي، لن أذهب إلى أي مكان.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا