جدتي تخيفني كثيرا
تحكيها: سحر
عزيزي القارئ ..
أنا طبيب نفسي كما تعلم .. ورجل علم بكل تأكيد .. ولكن لا يمكن أن يكون الخوف حولي في كل مكان دون أن أصاب بالعدوى .. هذا ما حدث حين انتهيت من قراءة هذه القصة .. إنها مخيفة بالفعل .. حتى أنني لم أنم ليلتها من شدة الخوف .. بل ولا زلت أحرص على أن أغطي جسدي بأكمله أثناء النوم لأشعر ببعض الأمان .. لكني أرتجف رغم ذلك في كل مرة أسمع فيها مواء القطط في الخارج .. أو عند سماع أي صوت مجهول آخر في غرفتي .. فقد عشت خوف بطلة القصة لحظة بلحظة دون شك حتى أصبت بعدوى الخوف .. أحيانا يصاب الناس بالرعب لدرجة مخيفة تصيبنا نحن بدورنا بالرعب.
قصتنا هذه عن مريضة اسمها (سحر) .. وهي فتاة تبلغ ال 16 من العمر .. حيث أشرف شخصيا على علاجها منذ مجيئها وإقامتها في المستشفى في الشهر الماضي .. والواقع أنني لم أطلب منها كتابة قصتها .. بل سأنقل لكم مذكراتها تماما كما كتبتها .. فقط مع بعض الإضافات التي قمت بها بنفسي والتعديلات البسيطة .. حتى تخرج لكم المذكرات كقصة متكاملة تشرح لكم كل شيء .. وسيكون لي تعليق في النهاية على أحداثها.
فلنقرأ قصة (سحر) .. ولنرى إن كانت ستسبب لكم الخوف كما فعلت معي.
نعم .. كما هو واضح من عنوان قصتي .. أعترف أنني أخشى جدتي كثيرا .. ولا أعلم في الواقع إن كان يجب أن ألومها على ذلك أم ألوم نفسي .. لكن .. أعتقد أنني لو وصفتها لكم فستشعرون نحوها بذات الشعور .. إنها امرأة غامضة بالفعل .. صامتة أغلب الأحيان على عكس العجائز وولعهم المعتاد بالثرثرة .. تمتلك شخصية قوية للغاية و(كاريزما0* قلما تجدها عند من هم في مثل سنها .. أما شكلها فهو ما يزيدها غموضا ورهبة .. فقد حرق الشيب رأسها حتى بات شعرها أبيضا بأكمله .. وتساقطت معظم أسنانها .. كما أن وجهها قد امتلأ بالتجاعيد التي لم تزدها جمالا وطيبة كما يحدث مع معظم العجائز .. بل وعلى العكس تماما .. إذ ازدادت قبحا ورهبة !!!.
ورغم كل هذا .. إلا أنها لا تزال بصحة جيدة للغاية .. فلا تحمل أي من الأمراض التي يحملها كبار السن عادة سوى أنها تعرج قليلا بفعل عيب خلقي .. حتى أنها ترفض تماما فكرة وجود خادمة في بيتها .. فتقوم بتنظيف البيت لوحدها بإصرار غريب دون مساعدة أحد.
*الكاريزما هي وصف يطلق على الشخص الذي يتمتع عادة بالشخصية القوية الطاغية والقدرة على القيادة والتأثير الإيجابي على الآخرين .. ومن ثم إقناعهم بأفكاره وكسب ثقتهم وولائهم .. والكلمة تأتي من klmâ (Charisma-ô" al_njliziâ walti trjà bdwrha l/çl iwnani wtàni "alhdiâ" /w "altfëil al_lhi" .. wqd tûdô bàë albaûôin àn alçfat alti ijb /n imtlkha alîxç likwn èw "karizma" .. whi kaltali", "àdm tqlid aläxrin - alôqâ balnfs - àdm avnfàal mhma kant al/sbab - altûkm balmîaàr - altzamn bin lêâ aljsd walkvm - altfkir qbl alûdiô - altklm àn draiâ waqtnaà - alçbr - màamlâ alnas baûtram" .. wiro albàë /n "alkarizma" hi fi waqà al/mr çfâ karôiâ wlist mizâ .. l/nha txfi àiwb al_nsan wv tjàl alnas tntbh lha .. wrbma fi hèa alkvm îi' mn alçûâ .. xaçâ lw àrfna /n /êlb alzàma' alèin dmrwa /nfshm wdmrwa bldanhm kanwa imtazwn b"karizma" êir àadiâ .. môl "htlr" w"mwswlini" w"çdam ûsin" .. _lx.
وما يزيدني خوفا منها هو غرابة أطوارها .. فكثيرا ما كنت أشعر بها تدخل غرفة نومي في وقت متأخر جدا من الليل .. وتقوم بتفريغ سلة المهملات في كيس كبير تحمله معها .. ثم تمسح المرآة الموجودة في غرفتي بهدوء وآلية غير مفهومة .. حتى أنها تمشي حول فراشي دون سبب واضح .. وتصدر منها أثناء ذلك حشرجة مخيفة تسبب لي الكوابيس .. وأشعر بها أحيانا تفتح أدراجي وتتجسس علي .. نعم .. إنها تفعل كل هذا في غرفتي أثناء نومي .. وكأنها لا تضع في اعتبارها على الإطلاق إمكانية استيقاظي واكتشاف ذلك !!!.
أعتقد أنها لا تكترث أصلا .. خاصة وأنني لا أجرؤ على الاعتراض ولا حتى مناقشتها بما تفعله .. لأنني أخشاها كثيرا كما أخبرتكم .. وبت أشعر أن خوفي منها يتجاوز الخوف العادي .. وربما يصل إلى درجة الفوبيا !!!.
ورغم أنني أعيش معها لوحدي تحت سقف واحد .. إلا أننا لا نتبادل الحديث كثيرا .. ربما لأنها صامتة كالقبر في أغلب الأوقات .. وهذا ما جعل علاقتي بها باردة للغاية .. حتى أنني لا أذكر أنها عاملتني يوما بحنان أو حتى بقسوة أثناء طفولتي .. فقط كانت تهتم بي وتحيطني برعاية كاملة لا تتجاوز ضروريات الحياة .. تماما كما نفعل مع حيوان أليف نحتفظ به في منزلنا .. مع الفارق الشاسع بالطبع كوننا نستأنس الحيوان الأليف ونحيطه ببعض الحب والاهتمام !!!.
المشكلة أنني لا أجد مكانا آخر ألجأ إليه .. فأنا يتيمة .. كما أنني الابنة الوحيدة لوالديّ رحمهما الله الذين توفيا منذ سنوات طويلة في حادث مروري كنت أنا الناجية الوحيدة منه .. فانتقلت بعدها لأعيش مع جدتي في بيتها بمنطقة (الفيحاء) وأكون تحت سيطرتها المطلقة .. حتى أنها ظلت تمنعني تماما من زيارة صديقاتي وزميلات الدراسة كونها تخشى علي وتفعل هذا لمصلحتي على حد قولها.
لذا فقد كبرت منعزلة عن العالم لا أحتك بأحد سوى جدتي .. ولا أخرج من البيت إلا للذهاب إلى المدرسة .. أو في فترات قليلة للغاية لا تتجاوز مرة أو مرتين في الشهر .. إذ كانت تسمح لي في الذهاب بين الحين والآخر إلى السوق المركزي لشراء حاجيات البيت الرئيسية .. أو أن أطلب سيارة أجرة للذهاب إلى أحد الأسواق لشراء بعض الثياب والاحتياجات النسائية.
وبسبب هذه الحياة المملة التي أعيشها .. والتي لم تتجاوز التحدث عبر الهاتف مع زميلاتي في المدرسة ومشاهدة التلفزيون .. أو الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من عالمي .. وبسبب عدم وجود حافز مهم للدراسة .. رحت أهمل دراستي شيئا فشيئا .. حتى رسبت أكثر من مرة .. وخرجت أخيرا من المدرسة .. لأعيش حياتي بعد ذلك بأكملها في البيت معتمدة على مساعدة الحكومة من خلال راتب والدي رحمه الله الذي يدخل شهريا في حسابي البنكي بطبيعة الحال.
2
وعلى عكس باقي الفتيات في مثل سني .. لم تكن لي أي مغامرات عاطفية من أي نوع رغم الفرص العديدة التي كانت تسنح لي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى في مرات خروجي النادرة عندما أشعر بنظرات الإعجاب التي تلاحقني من الشباب .. ولا أعلم في الواقع إن كان هذا بسبب جمالي .. أم أنهم يبحثون عن أي فريسة مهما كان مستوى جمالها .. ربما يكون السبب الثاني هو الأصح !!!.
لكن .. هناك دائما مرة أولى .. ومغامرة أولى .. خاصة لفتاة في مثل سني .. فقد التقيت بذلك الشاب أثناء ذهابي إلى السوق المركزي منذ أكثر من شهر .. لا أدري لماذا شعرت باهتمام تجاهه .. ربما بسبب كلماته المعسولة الرقيقة التي خلبت لبي .. أو بسبب نظراته الآسرة .. لا أعلم .. لكنه كان جريئا بحق حين توجه ناحيتي بكل أدب وثبات أثناء توقفي لوضع بعض السلع في عربة التسوق .. وراح يدغدغ مشاعري ويقسم لي أنه لا يعرف ما جرى له حين رآني .. وأنه ليس معتادا على معاكسة الفتيات بهذه الصورة .. لكنه لم يتمكن من منع نفسه من إبداء إعجابه بي .. و .. وجدت نفسي شيئا فشيئا أقع في حبائله .. حتى خرجت من السوق المركزي .. ورقم هاتفه النقال محفوظ في ذاكرة هاتفي.
كانت هذه أول تجربة ومغامرة لي من نوعها .. لذا فقد خرجت من السوق المركزي وأنا أرتجف بالكامل .. شاعرة أنني مقبلة أخيرا على الإثارة .. وعلى كسر الجمود الذي أعيشه في حياتي وسيطرة جدتي التي تخنق أنفاسي !!!.
أتذكر جيدا أنني لم أنتظر طويلا يومها .. فما أن حل الليل وتأكدت من نوم جدتي .. حتى دسست نفسي تحت اللحاف .. ورحت أفكر قليلا وللمرة الأخيرة وأتساءل إن كان يجب الاتصال بذلك الشاب أم أتجاهل الأمر بأكمله .. لكني في النهاية رضخت لمشاعري الباحثة عن الحب والرومانسية .. رضخت للهرمونات التي تسرح وتمرح في دمي كوني لا زلت في سن المراهقة .. وضغطت زر الاتصال أخيرا.
كانت لحظات جميلة لم أعشها من قبل حين وضعت سماعة الهاتف بالقرب من أذني .. ورحت أترقب الرد على اتصالي وقلبي يخفق بعنف .. قبل أسمع أخيرا صوته الواثق وهو يرد على الاتصال متوقعا أنه مني كما قال فيما بعد .. لنبدأ بعدها تعارفا بسيطا أشعرني بلذة ما بعدها لذة .. قبل أن نتحدث في خصوصيات أكثر .. ويبدأ هو في الحديث عن حياته الشخصية.
لقد كان الشاب عاديا للغاية ولا يختلف عن باقي الشباب .. إذ يدرس حاليا في كلية الحقوق .. ويعيش بطبيعة الحال بين والديه وأفراد أسرته .. ولم يكن هناك أي شيء مميز من ناحيته .. أما أنا .. فقد كنت متحفظة إلى حد ما في حديثي معه .. إذ لم أخبره عن جدتي وغرابة أطوارها .. فقط أخبرته بابتعادي عن الدراسة واكتفائي بالراتب الشهري الذي أحصل عليه من الحكومة .. وأنني يتيمة الأبوين أعيش حياة مملة للغاية لا يوجد فيها أي نوع من الإثارة التي قد تحتاجها أي فتاة في مثل سني.
لذا راح يتحدث بحماس ويحاول إقناعي أن أفعل شيئا مهما في حياتي .. أي شيء قد يقتل الروتين الممل الذي أعيشه .. وأن أبدأ بممارسة هواية ما .. أو ربما مشروع تجاري .. خاصة وأن الكثير من بنات وشباب اليوم لديهم أعمالهم الخاصة ومشاريعهم الصغيرة .... و .. بعد ساعتين أو أكثر من الحديث المتواصل معه حول شتى المواضيع .. أنهيت الاتصال بعد أن شعرت بالنعاس .. وبعد أن أخبرني بأدب شديد أنه مضطراً للذهاب أيضا كونه سيستيقظ مبكرا للذهاب إلى الكلية.
أنهيت المكالمة وقلبي يخفق بعنف شاعرة ولأول مرة في حياتي أن ذلك الشاب قد حرك المياه الراكدة المحيطة بي من كل جانب وأن هناك من يستمع إلي .. وربما سيشاركني أسراري ويعدني بالتواصل معي .. إذ لم أكن أحب الحديث عن حياتي الشخصية مع زميلات الدراسة .. خاصة وأنني ابتعدت تماما عنهن مؤخرا بعد رسوبي المتكرر وفصلي من المدرسة .. أعلم أنها مكالمة واحدة وعلاقة قد تنتهي في أي وقت .. لكني لم أكترث .. فعلى الأقل هناك حافز في حياتي الآن .. هناك دافع !!! .. هكذا كنت أقول لنفسي.
أفكر بهذا الكلام وأنا أقترب شيئا فشيئا إلى الغرق الكامل في عالم الأحلام والساعة تتجاوز الثالثة صباحا ربما .. قبل أن أستيقظ فجأة وأتسمر في مكاني !!! .. هناك من يفتح باب غرفتي .. إنها .. إنها جدتي مرة أخرى .. يا إلهي .. كم أخشى تلك اللحظات المخيفة .. إنها واحدة من زياراتها الغريبة التي تقوم بها في وقت متأخر أثناء نومي .. وأنا في الواقع لا زلت أجهل ما تفعله في غرفتي إلى جانب تنظيف سلة المهملات ومسح سطح المرآة .. إذ لم أجرؤ أبدا على سؤالها .. إنني فقط أشعر بها تهيم حول فراشي وكأنها تمشي دون هدى .. وأحيانا تقوم بتفتيش الغرفة كما ذكرت سابقا !!!.
رحت أحاول بتوتر شديد أن أجعل أنفاسي منتظمة وألا أقوم بأي حركة قد تثير ريبتها وتكشف لها أنني مستيقظة .. ثم .. شعرت بها تقترب مني .. أو تقترب من فراشي إن صح التعبير .. وتمسك بهاتفي النقال الذي وضعته على الطاولة الصغيرة بالقرب مني .. هذا غريب .. إنها لم تفتش في هاتفي النقال من قبل .. اللعنة .. أرجو ألا تكشف وجود رقم ذلك الشاب في هاتفي .. وجود رقم غريب غير مسجل في ذاكرة الهاتف قد يثير ريبتها !!! .. ترى ما الذي تفعله الآن ؟!! .. إنها لا تزال واقفة إلى جانب الفراش حيث أستمع إلى أنفاسها المتقطعة وحشرجتها .. قبل أن أشعر بها تخرج من الغرفة .. لأتنفس الصعداء أخيرا !!!.
هذا لا يطاق .. لا يمكن أن أخشى جدتي إلى هذا الحد مهما كانت غريبة الأطوار .. فلا توجد أي مشكلة لو دخلت إلى غرفتي ووجدتني مستيقظة .. لكن .. لا يوجد ما أستطيع فعله .. إنني أخشاها بجنون .. شكلها .. تصرفاتها .. كل ما فيها يخيفني .. لا أذكر أنني أردت محادثتها بشيء إلا وأجد نفسي متلعثمة متوترة .. فأتراجع عن ذلك وأعزل نفسي مرة أخرى في غرفتي .. أعترف أنني حاولت مرات كثيرة منذ طفولتي أن أكسر ذلك الخوف المرضي .. وأخرج من غرفتي لفتح أي موضوع للحوار معها ومحاولة التعرف على خباياها وإضافة نوع من العاطفة المعتادة بين الجدية وحفيدتها .. لكني أعجز تماماً .. الفوبيا تشتعل في كل ذرات جسدي وتجبرني على التراجع !!!.
في ص
باح اليوم التالي .. دخلت جدتي إلى غرفتي دون استئذان أثناء جلوسي أمام شاشة الكمبيوتر .. وراحت تنظر إلي بجمود دون أي مشاعر .. حتى أنني انكمشت تماما في مقعدي .. لتقول بصرامة كعادتها كلما تتحدث في أي موضوع:
لقد عرفت أنك كنت تتحدثين عبر الهاتف مع شاب ما في الأمس .. لا تنكري .. أعلم أنك حاولت خداعي بإيهامي أنك نائمة .. لكنك لا تستطيعين خداعي أبدا .. فقد بحثت في ذاكرة هاتفك النقال عندما دخلت إلى غرفتك وأخذت رقم ذلك الشاب .. واتصلت به قبل قليل !!!!.
قلت بصوت مبحوح:
م .. م .. ماذا ؟!! .. ماذا قلت له ؟!!.
ردت بصرامة مقيتة:
لقد أمرته بالابتعاد عنك طبعاً وإلا سيكون حسابه عسيرا !!! .. استمعي إلي جيدا .. لن يوجد الأمان في حياتك إلا هنا في منزلي ومعي أنا .. لا تمنحي ثقتك لأحد في الخارج .. أنا أفوقك سنا بمراحل وأعلم جيدا كيف يمارس الناس كل أنواع الغش والخداع .. وأعرف كيف أحميك حتى من نفسك .. إنك بمأمن معي .. تذكري أنك لم تحققي النجاح في دراستك .. ولا تمتلكين أي مؤهلات من أي نوع .. وأنك تعيشين في بيتي وتحت سقفي !!! .. أنا صمام الأمان الوحيد في حياتك.
قلت بتلعثم واضح:
ولكن يا جدتي .. سأتزوج يوما دون شك .. لا شك أن هذا اليوم سيأتي !!!.
ردت بالجملة الخالدة التي ترددها كل أم .. وربما كل جدة:
لو كان ذلك الشاب اللعين يريدك فباب البيت مفتوحا له .. وليس عن طريق الهاتف .. فليتقدم لخطبتك إذا !!!.
لم أجد ما أقوله أمام كلامها هذا .. فخرست تماما .. لكنها ظلت تتحدث وتنصحني للحظات بدت لي دهرا .. قبل أن تستدير أخيرا وتخرج من غرفتي !!! .. يا إلهي .. أنا لا أملك أي خصوصية في حياتي .. إنني أخشى حتى من غلق باب غرفتي بالمفتاح .. لأنها لن تسمح بذلك وستغضب مني لو فعلت .. ولا أعلم كيف سيكون عقابها حينها.
لكن .. تبددت تلك الخواطر من ذهني عندما تذكرت كلامها عن اتصالها بذلك الشاب وتهديدها له .. وشعرت بلوعة حقيقية خوفا من انتهاء علاقتي به رغم أنني لم أتحدث معه سوى مرة واحدة .. لا أدري لماذا .. هل لأنه أول شاب أرتبط به في حياتي ؟!! .. هذا بالطبع إن جاز إطلاق كلمة (ارتباط) على مكالمة هاتفية واحدة .. إلا أنني في النهاية .. وجدت نفسي أتجه إلى هاتفي النقال .. وأزدرد لعابي بصعوبة بالغة .. لأتصل به مرة أخرى .. لأفاجئ به يرد بصوت مضطرب للغاية:
أرجوك .. أرجوك أن ننسى ما حدث بيننا في الأمس .. لقد اتصلت جدتك منذ قليل وهددتني باللجوء إلى الشرطة .. وقد .. وقد بدا صوتها مخيفا للغاية .. المعذرة .. لا أقصد إهانتها .. ولكن هذا ما شعرت به .. وأنا لا أريد التورط بمشاكل من أي نوع !!!.
قاطعته هامسة بلوعة ورجاء شديد:
أعرف .. أعرف .. لقد أخبرتني بذلك للتو .. لكن .. أرجوك .. لا تستمع إليها .. أرجوك لا تتركني .. لا أستطيع الابتعاد عنك !!!.
رد بشيء من الاستغراب:
المعذرة .. نحن لم نتحدث سوى مرة واحدة .. لا يوجد أي نوع من الارتباط بيننا .. لماذا تتحدثين وكأن بيننا قصة حب طويلة الأمد ؟؟!.
كان محقا دون شك .. لذا فقد قلت له صراحة:
المعذرة .. لكنك أول شاب في حياتي .. وأنا لم أعرف طعم الارتباط قبل هذه المرة .. وأشعر بالراحة النفسية حين أتحدث معك .. إنني بحاجة إليك .. أرجوك.
سكت طويلا .. ثم حسم أمره وطلب مني أن أحدثه أكثر عن نفسي وعن حياتي الخاصة .. فقد شعر - على حد قوله - أن هناك الكثير من الغموض المحيط بي وبجدتي .. و .. هذه المرة .. قررت أن أخبره بكل شيء على أمل أن يرأف بحالي ولا يتركني .. فذكّرته مرة أخرى بأنني يتيمة ولم أكمل دراستي .. وأعيش على إعانة الحكومة .. وأخبرته أيضا عن جدتي وطريقة حياتي معها .. وكم هي امرأة مخيفة في كل ما تفعله ولا أبالغ لو أنها تمارس السحر !!! .. نعم .. قلت له هذا صراحة !! .. لقد كنت أتحدث بانفعال دون أن أشعر بنفسي .. حتى أنني بكيت كثيرا أثناء كلامي .. وأخبرته أنني أحبه بحق وأحتاجه إلى جانبي !!.
بالطبع أثار هذا الكلام استغرابه كثيرا .. لكنه رغم كل شيء .. بدا صادقا للغاية حين قال بتردد وكأنه يريد تجنب المشاكل:
سأكون واضحا في كلامي .. لا توجد لدي أي نية في الزواج إن كان هذا ما تظنيه .. فنحن صغارا في السن .. وكان سبب تقربي منك في السوق المركزي هو إعجابي بجمالك فحسب .. أريد أن أكون قريبا منك .. أريد أن أكون على تواصل معك .. لكن ليس إلى درجة الارتباط .. أرجو ألا يضايقك كلامي .. ثم أن جدتك .. إحم إحم .. بصراحة تخيفني !!! .. وها أنت قد أكدت كلامي للتو .. إنك تعيشين معها في بيت واحد طوال هذه السنوات .. لكنك لا زلت تخشينها رغم ذلك .. فلا تلوميني لو شعرت ذات الشعور ناحيتها.
عند هذه النقطة تحديدا .. تغيرت نبرة صوته فجأة .. وراح يتحدث بحماس ويطلب مني أن أدافع عن نفسي وعن حريتي واستقلاليتي .. وألا أقلل من احترام جدتي بنفس الوقت .. وهي معادلة صعبة بالطبع ومن شبه المستحيل تحقيقها بالنسبة لي .. لكن .. لا أعلم لماذا أشعرني كلامه هذا بشيء من الراحة .. ربما لأنني عرفت أخيرا أنني فتاة طبيعية .. فلست وحدي التي تخشى جدتي وتجدها غريبة الأطوار .. إنه يخشاها كذلك .. يا إلهي .. هناك سر غريب يتعلق بهذه المرأة !!! .. سر مخيف أشعر أنه من الأفضل ألا أحاول كشفه أصلا !!!.
المهم أنني أنهيت مكالمتي معه بعد أن أقنعته بالاستمرار في علاقتنا هذه دون أي التزامات .. ووعدته بأن أتخذ كل التدابير في المرة القادمة كي لا تشك جدتي بشيء ولا توقعه في مشاكل هو في غنى عنها.
أمسكت بعدها بهاتفي النقال بكلتا يدي .. ورحت - بحزم شديد - أمسح تاريخ المكالمة .. نعم .. لقد تأثرت بكلامه .. وقررت أن أقاوم جدتي .. هذا الشاب هو النور الوحيد في حياتي ولن أدعه يرحل عني .. أعرف أنه لا يفكر بالارتباط وربما تركني الآن ليتحدث مع فتاة أخرى .. هذا احتمال وارد كما تعلمون .. لكن .. ربما سأكسب قلبه مع مرور الأيام .. هناك أمل .. هناك هدف في حياتي على الأقل .. هكذا رحت أردد لنفسي !!!.
مرت بعدها بضعة أيام لم يطرأ فيها أي جديد .. سوى أنني وجدت نفسي قادرة أخيرا على خداع جدتي .. إذ لم تتغير عادتها في التسلل إلى غرفتي في أوقات متأخرة من الليل والتفتيش بين حاجياتي .. لكنها لم تجد شيئا يثير الشك .. إذ لم أكن أحتفظ بأي شيء يدل على علاقتي بذلك الشاب .. حتى أنني حرصت على محو رقم هاتفه تماما من ذاكرة هاتفي .. لأحتفظ به في ذاكرتي أنا فقط.
كان هذا قبل أن أكتشف أنني حمقاء إلى درجة لا تصدق وأنني لا يمكن أن أخدع جدتي أبدا !!! .. لقد تبينت لي تلك الحقيقة عندما كنت أجلس معها في غرفة المعيشة نتناول العشاء بصمت مهيب كعادتنا دائما ودون أي حوارات عائلية كما يحدث على الأرجح في كل بيت .. قبل أن أراها تنظر إلي بعين ثاقبة مخيفة وبشكل مفاجئ .. لتقول بصرامة:
هل تظنين أنك تخدعينني أيتها الحمقاء ؟!! .. هل تظنين أنني لا أعلم بأمر علاقتك في ذلك الشاب ؟؟! .. لقد احتفظت برقمه منذ ذلك اليوم عندما اتصلت به وهددته بعدم مطاردته لك .. لم أود أن أتسبب بأي مشكلة حينها على أمل أن تعي ما تفعلين وتعودي إلى صوابك .. لكن يبدو أنني كنت مخطئة .. فقد اتصلت به مرة أخرى واعترف لي - تحت التهديد - أنه لا زال على اتصال معك .. إنك غير قادرة على تحمل المسئولية .. سآخذ منك هاتفك النقال .. لست بحاجة إليه .. وحتى مسألة خروجك تلك يجب أن أفكر بشأنها .. ربما لا تحتاجين إلى الخروج من البيت أصلا !!!.
انتفضت بقوة أمام هذا الكلام .. حتى عجزت تماما عن النطق للحظة .. هذا مستحيل .. مستحيل .. هذه العجوز خبيثة إلى حد لا يصدق .. قلت لها بشفتين مرتجفتين وقد انهارت تماما فكرة خداعها ومقاومتها:
ولكن يا جدتي .. أنا لا أخرج كثيرا أصلا .. خروجي من البيت نادر للغاية .. لا يمكن أن أقضي الوقت كله في البيت.
ردت بحنق:
لست أنت من تقررين ذلك .. أنا صاحبة الكلمة في هذا البيت .. سأقوم بالاتصال في إحدى شركات التوصيل كي تقوم بجلب كل ما نحتاجه إلى البيت .. هذا أسهل وأفضل بكثير من ذهابك إلى السوق المركزي بنفسك .. سأسمح لك فقط بالذهاب إلى ماكينة السحب الآلي لتسحبي من رصيدك ما يكفينا طوال الشهر.
كيف تعرف جدتي كل هذه الأمور ؟!! .. امرأة في سنها لا يمكن أن تعرف أمورا كهذه ؟!! .. هذا غريب للغاية .. تنحنحت وقلت بتردد وبصوت مبحوح:
ولكن يا جدتي .. أنا من أصرف على البيت من خلال راتب والدي رحمه الله .. ألا أستحق الحصول على شيء من الحرية نظير ذلك ؟!! .. ألا أستحق أن أعيش حياتي كباقي الفتيات ؟!!.
قالت بعصبية وكأنها تستنكر جرأتي هذه:
منذ متى تجادليني ؟!! .. أنت تصرفين على البيت لكنك تقيمين في بيتي أنا مجانا !!! .. وراتبك لا يكفي للسكن في مكان آخر حتى وإن سمحت لك بذلك .. أما بخصوص ذلك الشاب .. فسأحذره للمرة الأخيرة باللجوء إلى الشرطة لو حاول الاتصال بك مرة أخرى .. سأرحمه هذه المرة فقط لأنني أعرف أنك أنت من اتصلت به ورجوته أن يستمر في علاقته معك .. هل هذا مفهوم ؟!!!.
رددت بلوعة وأنا أبكي:
لا .. لا .. أرجوك .. لا ذنب له بأي شيء .. إنه شاب مهذب للغاية لم يسيء إلي من قبل !!!.
ردت بحزم مخيف غاضب:
الموضوع انتهى .. اذهبي إلى غرفتك !!!.
أطرقت برأسي إلى الأرض .. ثم توجهت باكية إلى غرفتي وقد بدت فكرة الموت حينها لا بأس بها على الإطلاق !!! .. إنني أعيش اكتئابا حقيقيا .. حياتي هذه ليست طبيعية .. إن جدتي ستدمرني .. ستنهي مستقبلي .. إلى متى أخشاها بهذه الطريقة الغريبة ؟!! .. ليتني أملك الجرأة لمواجهتها .. ليتني !!!.
جلست في غرفتي دقائق قليلة .. قبل أن أسمع صوتها المخيف مرة أخرى وهي تطلب مني أن آتيها بهاتفي النقال !!! .. اللعينة .. كم أكرهها .. إنها لا تنسى شيئا .. قلت هذا لنفسي وأنا أخرج هاتفي النقال من أحد أدراج مكتبي .. لأذهب به إلى غرفة المعيشة .. ثم وضعته على المنضدة أمام جدتي دون أن أتفوه بحرف .. وأعود بعدها إلى غرفتي شاعرة بانكسار ما بعده انكسار .. وأن حياتي لا معنى لها.
لا أنكر أن تلك الفكرة القديمة قد خطرت في ذهني مرة أخرى .. أي فكرة ؟!! .. فكرة الهرب طبعا .. ظننت هذا مفهوما !! .. إنني قادرة على تحمل مسئوليات الحياة بعيدا عن جدتي .. فأنا أستلم إعانتي من الحكومة .. وربما أستطيع العثور على شقة مثلا بسعر مناسب لأعيش حياتي كحال باقي الفتيات .. يجب أن أفكر جديا بذلك .. نعم .. سأهرب .. سأقضي الأيام القادمة برسم خطة كاملة للهرب والعثور على مكان أقيم فيه .. إنني أمام عالم متكامل هنا .. أمام الانترنت .. سأجد إجابات على كل أسئلتي دون شك .. أعلم أن المهمة لن تكون سهلة .. فمن يدري .. ربما ستقوم جدتي بإبلاغ الشرطة عني إذا ما هربت من البيت .. لكن .. هناك دائما مخاطرة في أي نقلة جديدة لحياة أي إنسان .. وأنا مستعدة لتحمل نتائج تلك المخاطرة .. خاصة وأنني أموت ببطء كل يوم بسبب هذه الحياة الرتيبة .. إنني أعيش بلا مستقبل .. بلا طموح .. بل وبلا حاضر .. كل هذا بسبب جدتي وتسلطها وطغيانها.
كنت أردد هذا الكلام لنفسي وأفكر بموضوع الهرب لبضعة ساعات .. قبل أن أشعر بالنعاس .. وأدس نفسي تحت اللحاف عازمة على البدء برسم خطة الهرب منذ الغد .. لأغرق بعدها في سبات عميق مطمئنة للقرار الذي اتخذته .. و .. تماما كما تظنون .. فقد أيقظني شيء ما .. حركة مريبة في غرفتي في ساعات مبكرة جدا من الفجر .. ربما في الثانية صباحا !!! .. أحدهم يسير حول فراشي .. تطلب الأمر ثوان قليلة ليعود إلي وعيي وأدرك أن جدتي في غرفتي تمارس عادتها المخيفة.
أشعر بها الآن تتجه إلى سلة المهملات لتقوم بتفريغها .. ثم تضع كيس القمامة على الأرض لتأتي بالقرب مني وهي تلهث بصوت مبحوح مخيف للغاية .. حتى أن أمعائي تقلصت من هول الموقف !!! .. وسمعت صوتها المهيب الذي زاده الظلام رعبا ورهبة .. وهي تقول هامسة:
إياك أن تفكري في الهرب !!!! .. أعلم أي أفكار حمقاء قد تطرأ في ذهنك .. فأنا أعرف كيف أكشف أسرارك .. لكن .. لن يكون هذا في مصلحتك .. صدقيني .. إن جدتك هي أفضل من يهتم لأمرك في هذا العالم .. حتى وإن ظننت أنني ظالمة أو قاسية .. لكن .. هناك أمور كثيرة أعرفها عن هذا العالم .. ولا تعرفينها أنت لصغر سنك !!!.
كدت أن أتصنع النوم العميق حتى أهرب من مواجهتها كعادتي .. لكن الفضول قتلني قتلا هذه المرة بعد ما سمعته منها .. كيف عرفت بأمر نيتي في الهرب ؟!! .. هذا مستحيل !!! .. فأزلت اللحاف عن وجهي وعلامات الاستغراب تغزو ملامحي بوضوح .. لأرى نور غرفة المعيشة الخافت يتسلل إلى غرفتي بسبب بابها المفتوح .. ووجه جدتي الجامد ينظر إلي .. كدت أن أرد عليها .. لكني عجزت تماما .. إذ سقط قلبي بين قدمي أمام منظرها المخيف .. فرغم أن الظلام كان يغطي معظم ملامحها .. إلا أن هذا زادها رهبة دون شك .. أحيانا ما لا نراه بوضوح يخيفنا أكثر مما نراه واضحا جليا .. لكن .. الأهم من كل هذا هو كيف ؟؟!!! .. كيف عرفت جدتي بنيتي في الهرب ؟!! .. مهلا .. مهلا .. يا إلهي .. هل هو ذلك الشاب ؟!! .. لا شك أنه هو .. أتذكر أنني حدثته عن نفسي وعن أدق أسراري .. وأخبرته عن مشاكلي مع جدتي ورغبتي في الهرب من البيت وتأجيل تلك الفكرة باستمرار !!!.
يا لها من طريقة متسلطة قذرة لتفرض سيطرتها علي !!! .. إنني أكرهها .. أكرهها للغاية .. أكره تلك العجوز اللعينة .. إنها جدتي بيولوجيا فقط .. لكني لا أشعر بأي انتماء عاطفي أو عائلي ناحيتها .. بل أتمنى موتها الآن !!! .. ليتني أقدر على مواجهتها .. ليتني !!! .. إنها ذكية للغاية ومن الحمق أن أفكر بالكذب عليها بعد الآن.
لم أتمكن من الرد على كلامها بعد أن شعرت أنها تسبقني دائما وتعرف كل نواياي وأسراري .. لذا فقد هززت رأسي إيجابا .. وقلت لها بعينين دامعتين وقد رفعت الراية البيضاء استسلاما:
أنا .. أنا آسفة يا جدتي .. لن أخرج أبدا عن طاعتك .. س .. س .. سامحيني.
لم تقل شيئا جراء هذا الكلام .. بل هزت رأسها موافقة وكأنها تقول:
هذا الجيل لا تنفع معه سوى الصرامة والقسوة !!!.
تركتني بعدها لتخرج من الغرفة .. أما أنا فقد قررت أخيرا أن أرفع راية الاستسلام بالفعل وأستمع إليها .. وألا أفعل ما يغضبها على الإطلاق !!! .. أريدها أن تكون راضية عني .. لا أحتمل غضبها .. إنني أخشى جدتي .. أخشاها كالموت ذاته .. سأطرد من ذهني كل فكرة قد تغضبها .. هذا عهد أقطعه على نفسي من الآن فصاعدا .. عهد لن أنقضه أبدا !!!!.
عزيزي القارئ .. هذه القصة قد تبدو لك غريبة للغاية .. ولكن .. هناك أمور كثيرة مهمة نجهلها حول بطلة القصة وجدّتها .. أمور لم تكن تعرفها (سحر) نفسها .. ففي اليوم التالي .. ولو قدر لنا أن نشاهد ما يدور في ذلك البيت .. فسنجد أن (سحر) تعيش حياتها بصورة قد لا تثير الريبة للوهلة الأولى .. لكن .. راقبوا حياتها جيدا .. نعم .. تماما كما ترون !!! .. إنها تتجه يوميا في ساعات متفرقة إلى ذلك الدولاب .. وترتدي ثوبا قديما لا تلبسه سوى العجائز .. ثم تضع على رأسها باروكة بيضاء .. مع بعض المساحيق على وجهها حتى لتبدو كامرأة عجوز مخيفة المنظر !!!! .. لتبدأ بعدها بالتصرف وكأنها امرأة عجوز .. بالضبط .. هو ما سيتبادر إلى أذهانكم !!! .. ف(سحر) تعاني من مرض نفسي خطير .. تعاني من ازدواج الشخصيﯿ .. إنها تتقمص شخصية جدتها مرات عديدة كل يوم .. وتتخيل بعدها أحاديث وحوارات كاملة تتم بينهما .. تماما كما رأينا في القصة .. فعقلها يعيش في عالم آخر .. عالم ترسم من خلاله وجود شخصا آخرا في البيت إلى جانبها .. شخصا يحاورها ويفرض رأيه عليها دائما كما تبين لنا في أحداث القصﯿ*.
*يعتبر ازدواج alîxçiâ (Multiple Personality دّيسىردِر"ة اضطراب نفسي خطير للغاية .. حيث يظهر من خلاله المريض بأكثر من شخصية .. بل وقد تتعدد الشخصية المبتدعة من قبل المريض من اثنتان لتصل إلى مائة شخصية في الحالات المعقدة النادرة .. ويحدث الانتقال أغلب الأحيان من شخصية لأخرى فجأة وخلال ثوان أو دقائق على أسوأ تقدير .. وقد تكون الشخصية الأخرى تناقض تماما شخصية الإنسان الحقيقية .. كأن تتحول الفتاة الرقيقة إلى أخرى قاتلة مثلا. ويعتقد خبراء علم النفس أن هذا المرض النفسي غالبا ما ينتج بسبب الإيذاء الجسدي للإنسان في طفولته .. أو الخلافات الزوجية الشديدة التي تخيف الطفل كثيرا وتشعره أن مصيره بأكمله مهدد كونه يعتمد في حياته كلية على والديه .. أما علاج المرض فعسير للغاية ويعتمد على جلسات طويلة من العلاج النفسي لتفريغ الصدمات النفسية المكبوتة. وجدير بالذكر أن هذا المرض النفسي نادر الحدوث .. وغالبا ما يكون تشخيصه صعبا وخاطئا ويتم ربطه عادة بالتلبس بالجن .. مما يؤدى إلى توجه أهل المريض إلى جهات أخرى طلبا للعلاج .. إلا أن هناك حالات يمكن تشخيصها بسهولة في بعض الظروف الاستثنائية كما في قصتنا الحالية.
**أظهرت التجارب العلمية أنه إذا أخذنا شخص ما وأوصلنا دماغه إلى جهاز لقياس نشاط الدماغ .. ثم طلبنا منه النظر إلى جسم محدد .. فسينتج من دماغه نشاط محدد في منطقة محددة من المخ .. وإذا طلبنا منه إغلاق عينيه وأن يتخيل نفس الجسم الذي رآه .. فسينتج عندها نفس النشاط الدماغي وفي نفس المنطقة المحددة من المخ .. مما جعل العلماء يطرحون سؤالا بالغ الأهمية .. ما الذي يرى ؟؟!! .. هل هو الدماغ أم العين ؟!!.
هناك قاضي يعيش في أعماق (سحر) .. وهو يحكم عليها دائما ويراقب تصرفاتها ويحاول أن يحميها من نفسها .. وهو شبيه بضمير الإنسان الذي يحاول من خلاله تجنب الأخطاء والموبقات .. إن ما يحدث لبطلة قصتنا هو نتاج عقد نفسية طويلة سببها على الأرجح خلافات والديها التي لم تتوقف ليوم وفاتهما .. بل أن الحادث المروري الذي تسبب بوفاة والديها كان قد حدث بعد خلاف نشب بينهما في السيارة .. مما أدى إلى بكاءها وصراخها كطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها آنذاك ال 10 سنوات .. وهذا ما جعل والدها يفقد تركيزه ويرتكب ذلك الحادث الذي أودى بحياته وحياة والدتها .. ليتركاها وحيدة مع جدتها وهي العائل الوحيد لها.
لقد تفاقمت مشكلة (سحر) النفسية عند انتقالها للإقامة مع جدتها التي كانت بدورها امرأة صارمة قاسية متسلطة .. مما حرمها من الحنان والاستقرار الذي قد يحتاجه أي طفل .. وهكذا كبرت الفتاة .. والشعور بالضعف والضياع يسيطران عليها .. قبل أن تتوفى جدتها في البيت .. نعم .. هل ترون تلك الحديقة الصغيرة الموجودة في ساحة البيت الخلفية ؟!! .. لقد دفنت (سحر) جدتها هناك بعد أن توفيت أمامها منذ بضعة سنوات ولم تتقبل فكرة موتها .. فعاشت في تناقض صارخ تسبب بتفاقم اضطراباتها النفسية .. فجدتها هي العائل الوحيد لها كما علمنا .. لكنها وفي نفس الوقت .. امرأة صارمة قاسية جدا .. لذا فقد انتحلت (سحر) شخصية الجدة .. ثم راحت تراقب نفسها وأفعالها من خلال تلك الشخصية.
كيف عرفت كل هذا ؟!! .. بعد قراءة مذكرات الفتاة وبعد جلسات مكثفة من العلاج النفسي والتنويم المغناطيسي .. حيث ساعدني ذلك على كشف الكثير من أسرار (سحر) لأعرف في النهاية أنها فتاة مزعزعة نفسيا وأنها مصابة بمرض ازدواج الشخصية.
أما عن كيفية وصول (سحر) إلى مستشفى الطب النفسي .. فقد كان هذا من خلال الشاب الذي كانت تتواصل معه عبر الهاتف .. هو من أبلغ عنها بعد أن تحدثت إليه (سحر) بشخصية الجدة .. إذ شعر حينها أن صوت الجدة غريب للغاية ومخيف جدا ..
وما زاد شكوكه هو ما أخبرته به (سحر) حين كشفت له كل أسرارها وتحدثت عن خوفها الشديد من جدتها وتسلطها الغريب على حياتها وتصرفاتها المريبة .. فأقدم الشاب على مغامرة مذهلة .. حيث زار بيتها منتحلا صفة مندوب التعداد السكاني وقد جاء لاستكمال بيانات التعداد !!!.
لحسن الحظ أن (سحر) كانت تتقمص حينها شخصية جدتها .. فشعر الشاب أن هناك شيئا ليس على ما يرام .. وأن الفتاة لا تبدو أبدا كامرأة عجوز .. فلا يمكن أن تخدع أحد تلك المساحيق الغير متقنة والباروكة البيضاء !!!.
لذا لم يكن من العسير عليه أن يعرف أن هناك شيئا مريبا يحدث في هذا البيت .. فاتصل بالشرطة حال خروجه .. وأخبرهم بما رآه .. ليتم بعدها اكتشاف كل شيء .. والقبض على الفتاة وإيداعها مستشفى الطب النفسي.
وها هي (سحر) الآن في المستشفى تحت إشرافي المباشر وقد أخبرتني بتفاصيل طويلة من حياتها بعد جلسات من التنويم المغناطيسي والعلاج النفسي .. لكنها تحتاج إلى المزيد .. ربما إلى بضعة سنوات أخرى حتى تعود بعدها كفتاة طبيعية.
إن قصة (سحر) غريبة للغاية كما ترون .. بل ومخيفة في الكثير من تفاصيلها .. وتثير تساؤلات طويلة حول الأمراض النفسية .. وطبيعة الإنسان .. والمآسي التي قد يراها في حياته وتساهم في تدمير شخصيته .. إنها واحدة من القصص التي تجعلني أنزوي أكثر وأكثر عن هذا العالم المخيف .. عالما أن ما أكتشفه يوما بعد يوم هو غيضا من فيض .. وأنني كلما ظننت أنني وصلت إلى قاع النفس البشرية .. أكتشف أنه ليس سوى طبقة سطحية من قاع آخر .. وأعماق أخرى.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا