لغز الصندوق
وجدت هياء بعد انقشاع الضوء نفسها في السرداب مرة أخرى والكتاب بين يديها. أغلقته ووضعته على الطاولة أمامها ولم تنهض من الكنبة الجلدية وبقيت تفكر. أمضت في تفكيرها وقتا ليس بالقليل، ولم ينقطع ذلك السرحان حتى سمعت خطوات نزول من السلم أمامها. رأت بعد ثوان من سماع الخطوات أمين وهو يدخل وفي يده كوبان من القهوة تتصاعد منهما الأبخرة ليضعهما على الطاولة أمامها ويقول:
لم لم تصعدي للطابق العلوي بعد انتهائك من الكتاب؟
هياء ببال مشغول: هذا الكتاب لم يكن كبقية الكتب التي قرأتها سابقاً.
أمين وهو يشد كرسيا خشبيا كان بجانبه ويجلس أمام هياء قائلا: لماذا؟ ما المختلف فيه؟
هياء وهي توجه نظرها لـ أمين: هل قرأته من قبل؟
أمين: لا.
هياء: لم اقترحته على إذا؟
أمين: لأني كنت أرى أنك بحاجته.
هياء باستغراب: كيف وأنت لا تعرف محتواه؟
أمين وهو يبتسم بشيء من الحزن: أنت لست أول من يقرؤه.
هياء: لا أفهم كلامك.
أمين مبتسما: أشربي قهوتك قبل أن تبرد.
تناولت هياء كوب القهوة وأخذت منه رشفة وبدأت تنظر لرفوف الكتب.
هياء وهي سارحة في الرفوف: لدي الكثير من الأسئلة يا أمين.. هل ستحبيني عنها؟
أمين وهو يمسك كوب القهوة الخاص به: إذا كنت أعرف الإجابة فلن أبخل عليك بها.
هياء وهي تضع كوبها على الطاولة: لقد فتحت الكتاب الذي أهديتني إياه أمام أبي. لم لم ير وهج النور؟
أين: هذا الوهج لا يراه سوى القارئ فقط.
هياء: ما سر الزهرة البنفسجية؟
أمين: ماذا تقصدين؟
هياء: في كل كتاب أقرؤه دائما ما أصادف زهرة بنفسجية. لماذا؟ وهل لها علاقة بتلك الزهرة البنفسجية الجافة التي أهديتني إياها عندما تقابلنا أول مرة؟
أمين وهو يبتسم ويأخذ رشفة من قهوته: كنت أنتظر سؤالك هذا.
هياء: وأنا أنتظر الإجابة.
أمين وهو يضع كوب القهوة على الطاولة: الوقت لا يزال مبكرا كي تعرفي الإجابة.
هياء: ومتى يحين الوقت؟
أمين: الأمر عائد لك.
هياء: لا تتحدث بالألغاز يا أمين! كن صريحا معي!
أمين: ما ترينها ألغازاً ليست إلا جزءاً من اللوحة التي ستكتمل قريبا.
هياء: لدى سؤال آخر.
أمين: ما هو؟
هياء وهي تشير لصندوق خشبي صغير على أحد الرفوف: ما الذي يحتوي هذا الصندوق.
أمين وهو يوجه نظره للصندوق ثم يبتسم ويقول: ما الذي أثار فضولك به اليوم بالذات. لطالما كان هذا الصندوق موجوداً هنا، لم تسألين عنه الآن؟
هياء وهي تحدق بالصندوق: لا أعرف.. منذ أن انتهيت من قراءة هذا الكتاب أحسست بتغيير كبير في تفكيري، وتساؤلات أكثر تضج في عقلي، لدي رغبة كبيرة في السؤال عن كل شيء ولا أعرف لماذا؟
أمين وهو يعود بنظره نحو هياء: هذا أمر جيد.
هياء وهي توجه نظرها لـ أمين: ألن تجيبني؟
أمين وهو يوجه نظره مرة أخرى للصندوق الخشبي: هذا الصندوق أحفظ فيه أجمل ما قرأت في حياتي.
هياء بحماس وعينين متسعتين: حقا؟
أمين وعيناه لا تزالان على الصندوق: نعم
هياء: هل يمكنني فتحه؟
أمين وهو يلتفت إلى هياء: لماذا؟
هياء بحماس: هل تمزح؟ أريد أن أرى ما تراه أنت أجمل ما كتب وأن أقرأه أيضاً
أمين: الصندوق أمامك.. افتحيه.
نهضت هياء وهي متحمسة ومتشوقة لرؤية محتوى الصندوق، ومدت يديها وحملته ووضعته على الطاولة بينها وبين أمين، وفتحته وألقت نظرة بداخله.
هياء بوجه محبط: الصندوق فارغ.
أمين وهو يراقبها: نعم.
هياء: لكنك قلت.
قاطعا أمين قائلا: أعرف ما قلته. لم أجد حتى الآن شيئاً يستحق أن يوضع في هذا الصندوق.
هياء بتعجب: كل هذه الكتبة العجيبة التي تملكها ولم تجد شيئاً يستحق القراءة.
أمين: هذا الصندوق ليس للكتب التي تستحق القراءة، فكل كتاب يستحق القراءة.
هياء: ماذا إذا؟
أمين: أنا أبحث عن شيء يمكن أن أسميه أجمل ما قرأت.
هياء: وكيف ستعرف أن ما قرأته هو أجمل ما قرأت؟
أمين: أريد نصا بمجرد الانتهاء منه أرغب في سماعه مرة ثانية وثالثة.. نصا يسعدني ويبكيني في كل مرة أعود إليه، ولا أمله أو يفقد جماله مهما سمعته.. نصا متجدداً في جماله كبئر لا تنضب.
هياء: تسمعه؟ النصوص المكتوبة تقرأ ولا تسمع.
أمين مبتسما: يمكننا سماع النصوص المكتوبة.
هياء: عدت لتتحدث بالألغاز مرة أخرى.
أمين: لا يهم في النص الذي أبحث عنه أن أقرأه أو أسمعه. المهم أن يكون جميلا بالقدر الذي يجعلني أتنفس بعده وكأني ولدت للتو.
هياء: وهل هناك كتاب أو نص بهذا الوصف؟
أمين وهو يبتسم: بحثت خمسين عاما ومازلت أبحث.
هياء وهي تلف بنظرها حول المكان وتتفحص الرفوف العليا: ماذا الآن؟
أمين: أنا لدي سؤال.
هياء وهي توجه نظرها لـ أمين: تفضل.
أمين: كيف كانت علاقتك مع أمك؟
هياء باستغراب من سؤال أمين: أمي؟.. لم تسألني؟
أمين: يمكنك الامتناع عن الإجابة، لكن لا تجيبني بسؤال.
هياء: لا، لكني مستغربة من سؤالك.
أمين: وهل هذا الاستغراب يمنعك من الإجابة؟
هياء: لا يوجد إجابة، فأنا لا أعرف عنها شيئاً.. ماتت وهي تلدني.. حتى إني لم أر شكلها من قبل، فأبى يحتفظ بصورها ولا يسمح لي برؤيتها.
أمين: لماذا؟
هياء بحزن: لا أعرف.
أمين: عودي لمنزلك الآن.
هياء أريد قراءة كتاب آخر.
أمين: يكفي ما قرأته اليوم.
هياء بقلق: هل أنت مستاء مني؟
أمين: لا لم تقولين ذلك؟
هياء: أحسست بذلك.
أمين مبتسما: لا أبداً .. البرد تمكن مني وأريد العودة لمدفأتي.
هياء وهي تحتضن نفسها: فعلا.. البرد قارس هذه السنة على غير العادة
أمين: سوف أكون بانتظارك غدا.
هياء وهي تنهض: ألن تصعد للطابق العلوي؟
أمين: لا سأبقى هنا قليلا.
هياء: لكن المدفأة في الطابق العلوي.
أمين: أعرف.
هياء وهي تمازحه: هل تريد القراءة وحدك من دني؟
أمين يبتسم بحزن دون أن يرد.
هياء تضع يدها على كتف أمين وتقول بقلق: ما بك يا أمين؟ لم أرك هكذا من قبل1
أمين وهو يضع يده على يده هياء: لا تقلقي، أنا بخير.. مجرد ذكريات ضالة وجدت طريقها لعقلي.
هياء بقلق: هل تريد مني البقاء؟
أمين وهو يربت على يد هياء التي لا تزال على كتف مبتسما: لا يا عزيزتي.. عودي قبل أن يقلق والدك عليك.
قبلت هياء جبين أمين وبدأت بصعود السلالم، وعند وصولها للسلمة الأخيرة وفتحها الباب، سمعت أمين يسعل، فأحست بقبضة في صدرها وخرجت وأغلقت باب السرداب خلفها.
دخلت هياء باب القصر وتوجهت مباشرة إلى غرفتها. وبالرغم من أنها رأت أباها وحليمة في غرفة المعيشة، فإنها لم ترم بهما أو تتحدث معهما. وصلت إلى غرفتها واستلقت في سريرها وغطت نفسها. طرقت حليمة الباب وهي تقول: هل تأذنين لي بالدخول يا سيدتي؟
هياء وهي تحت الغطاء: أريد النوم يا حليمة لنتحدث لاحقا؟
حليمة من عند الباب: أمرك يا سيدة هياء.
همت حليمة بالرحيل، لكن هياء نهضت وقالت: ما الأمر؟
ما الذي تريدين التحدث فيه؟
حليمة وهي تدخل الغرفة: أمر يشغل بالي يا سيدة هياء.
هياء: ما هو؟
حليمة: أنت
هياء: أنا؟
حليمة: نعم
هياء بتجهم: هل أرسلك أبي للحديث معي؟
حليمة: لا أبدا.. حديثي معك سببه انشغالي أنا.
هياء: وما الذي يشغل بالك؟
حليمة: خروجك المتكرر للذهاب للمنزل ذلك العجوز.
هياء بتجهم: اسمه السيد أمين1
حليمة وهي تقترب من هياء وتقول بتوتر وقلق شديدين: أرجوك يا سيدتي توقفي عن الذهاب إليه!
هياء بتجهم وتعجب: ما حكايتكما أنت وأبي؟! لم تحاولان منعي من الذهاب إليه؟
حليمة: أنت لا تلاحظين ما نلاحظه. في كل زيارة له تعودين متغيرة تماما وكأنك شخص جديد.
هياء: وما المشكلة؟ هذا آذيتكما بشيء
حليمة: لا، ولكن
هياء بعصبية: ولكن ماذا؟ الرجل لم أر منه سوى كل خير. ولا أشعر بالضيق إلا عندما أعود إلى هنا وأحاصر بهذه الأسئلة والشكوك1
حليمة وهي تنزل رأسها: أعتذر يا سيدتي لأني تحدثت في الموضوع.
هياء وهي تنهض من فراشها وتتوجه نحو حليمة وتمسك كتفيها وتقول مبتسمة: حليمة. أنت أقرب لي من أي شخص في هذه الدنيا. أنت من ربيتني بعد وفاة أمي. أنت أقرب لي حتى من أبي. فلا تظني يوما أني سأخفي عليك شيئاً.
حليمة وهي ترفع نظرها: إذا بحق تلك السنين أجيبيني عن سؤال واحد.
هياء وهي تترك كتفي حليمة: ما هو؟
حليمة: ما الذي يجذبك ويدفعك للذهاب لمنزل السيد أمين بهذا الشغف وبشكل متكرر؟
صمتت هياء قليلا وهي تحدق بعيني حليمة القلقتين، ثم قالت: لن أخبرك.
حليمة وهي تنزل رأسها بحزن: لا بأس.
هياء: لكني سأريك.
حلية وهي ترفع رأسها: ترينني ماذا؟
هياء تمسك بي حليمة: هيا بنا!
حليمة باستغراب: إلى أين؟
هياء وهي تسحب حليمة نحو باب الخروج: إلى السيد أمين!
حليمة وهي تجر خلفها: لكنك أتيت منه للتو.
هياء: لا بأس، فهو لن يمانع.
خرجت الاثنتان من الغرفة ونزلتا إلى الطابق السفلي وخرجنا من باب القصر.م
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا