العورة التي سترتنا
قبل أن تصل يد والد هياء للكتاب الذي كان بيدها رمت به في المدفأة التي كانت تشتعل بجانبهما، فوقف الأب يشتعل غضبا عكالنار التي كانت تلتهم صفحات الكتاب وقال بغضب: متى تنوين التصرف كفتاة مهذبة؟ هل تريدين أن ينتهي بك المطاف كأمك؟
هياء بعصبية: أمي؟ هل أصبحت الآن تعايرني بأمي؟
الأب بصوت مرتفع: أنت! أمك! كل النساء1 لا تختلفن بعضكن عن بعض! كلكن تنتظرن الفرصة للانفلات!
هياء بعصبية وهي تدمع: هل هذا ما تظنه بي يا أبي؟
الأب بتجهم وغضب: لن تذهبي لذلك العجوز مرة أخرى، وستبقين حبيسة هذا المنزل ما حييت!
هياء بلا اكتراث: يمكنك أن تحبس جسدي، لكن روحي ستبقى طليقة.
رفع الأب يده في نية للطم ابنته، لكنه عندما رأى في عينيها إصراراً لم يره من قبل أنزل يده وقال بهدوء: أنت فتاة ويجب أن تتصرفي كذلك.
هياء بعصبية وسخرية: وكيف يجب أن تتصرف الفتاة يا أبي؟! أخبرني! لقد حرمتني أمي منذ صغري ولم أجد أحداً يرشدني كي أكون فتاة مهذبة وصالحة لأعجبك!
الأب بهدوء: أنا لم أقصد ذلك.
هياء بصوت مرتفع: وإن كنت قصدتها! جرحك قديم وأنت تفتحه في كل مرة يحاول فيها الالتئام!
الأب بهدوء وهو ينظر للأرض: عودي إلى غرفتك.
هياء بغضب وهي تتوجه لباب القصر: سوف أذهب لمن تذكر يوم ميلادي، وليس لمن يذكرني بأني ناقصة ولا قيمة لي!
الأب وهو يصرخ: عودي إلى هنا!
خرجت هياء ولم تكترث لنداء أبيها وأغلقت باب القصر خلفها بقوة.
لم يلحق الأب بها ولم يوجه أحداً من الحراس بتعقبها، بل جلس على أريكته وعباً غليونه بالتبغ وأشعله وبدأ يدخن بهدوء غريب.
حليمة من على مقربة من السيد الكبير: هل تريد مني اللحاق بها يا سيدي؟
الأب وهو يحدق بالأفق: لا.. اتركيها وشأنها الآن.
لم تذرف هياء دمعة واحدة بعد خروجها من المنزل حتى وصولها لعتبة باب منزل أمين، الذي طرقته بهدوء. وبمجرد أن فتح لها الباب بدأت بالبكاء كطفلة، فما كان منه إلا أن ابتسم وعانقها وهو يقول: لا أظن أن بكاءك هذا بسبب الكتاب.
هياء وهي تبكي ورأسها على صدر أمين: لا!
أمين وهو يضحك ويطبطب على ظهرها: هيا لتدخل لتحكي لي عما حدث.
دخل الاثنان المنزل، وبعدما سكب أمين كما اعتاد كوبا من القهوة لـ هياء استمع لكل ما كان يفيض من قلبها من سخط على أبيها مما قاله لها، وأضافت أنه كان دائما يعاملها بقسوة لأنه كان يريد ولدا، وأنه يرى أن كونها بنتا فهذا الأمر ينتقص منها ولا يؤهلها لتحمل مسؤولية أملاكه وشركاته، وأخبرته أيضاً بأنها اضطرت لرمي الكتاب في المدفأة كي لا يقرأه أبوها.
أمين وهو يأخذ رشفة من قهوته: وماذا تظنين أنت؟
هياء وهي تمسح دموعها: ماذا أظن في ماذا؟
أمين: هل تعتقدين أنك ناقصة بالفعل.. أقصد عن الرجال أو الذكور كي أكون أدق.
هياء بحماس وتجهم: بالطبع لا!.. النساء متساويات تماما مع الرجال!
أمين: هل تؤمنين حقا بهذا الكلام؟
هياء: بالطبع يا أمين، وإلا فما قلت ذلك.
أمين: إذا، فأنت حمقاء.
هياء بتعجب: ماذا؟.. حمقاء؟ هل تعتقد أن الرجال أفضل من النساء؟
أمين ينهض ويهز رأسه بخيبة أمل ويتوجه لباب السرداب أتبعيني.
هياء وهي تلحق به مبتهجة: هل سأقرأ كتابا جديداً؟!
أمين وهو ينزل من سلالم السرداب المظلم: اسبقيني وأشعلي الشموع.
نزلت هياء في السرداب المظلم على عجالة وأمين من خلفها يقول: احترسي كي لا تقعي!
أشعلت هياء الشموع وجلست على الكنبة الجلدية وعلى وجهها ابتسامة عريضة وهي تؤرجح ساقيها للأمام والخلف، وعندما رآها أمين بعد نزوله بتلك الحالة قال: لم كل هذه السعادة؟
هياء وهي مبتهجة: لأني سأقرأ كتابا جديداً!
أمين وهو يبحث بنظره بين الرفوف: كيف وجدت كتاب عبير البرتقال.
تغير وجه هياء وأنزلت رأسها وقالت: أخبرتك قبل قليل أنني اضطررت لرميه في النار كي لا يقرأ أبي بعدما قرأته.
أمين وهو يمد يده ويسحب كتابا من أحد الرفوف: قيمة الكتاب بمحتواه وليس بأوراقه.
هياء: ألست غاضبا مني لأني لم أحافظ على الكتاب؟
أمين وهو يضع كتابا على الطاولة أمامها: أنا لا أغضب.
هياء وهي تتجاهل الكتاب: كل إنسان يغضب.
أمين: الغضب هو أقصر طريق للقبر. وقتي أتمن بكثير من أن أغضب على أي شيء. من المفترض أنك أدركت ذلك بعد الكتب التي قرأتها ورؤيتك لكل تلك الحيوات.
هياء وهي تنظر لعنوان الكتاب الذي وضع أمامها: العورة التي سترتنا. هل هذا كتاب يناسب عمري؟
أمين وهو يضحك بقوة ويهم بالتوجه نحو السلم المؤدي للطابق العلوي: عندما تنتهين منه أعيديه للرف.
26
هياء وهي ترفع الكتاب وتحدق بعنوانه الغريب: حسنا.
فتحت الكتاب ليضيء في وجهها وهج نور قوي غطاها بالكامل.
فتحت عينيها لتجد نفسها في قاعة كبيرة تجلس بين جمهور غفير من النساء من أعمار مختلفة، ولم يكن بينهن رجل واحد. كانت القاعة مكتظة والأحاديث الجانبية بين الجالسات تحدث طنينا كطنين النحل. وقد رأت نفسها فتاة في العشرينيات من عمرها بقيت تراقب المكان وتستوعب ما يدور حولها حتى تحدثت فتاة كانت بجانبها وقالت: هي هذه أول مرة تحضرين محاضرة لـ الرؤوم؟
هياء: لماذا؟
الفتاة وهي تبتسم: القائدة الكبيرة لنا. لا أحد يعرف أسمها، لكنها تكني بالرؤوم.
هياء وهي تنظر حولها: هل نحن جيش؟
الفتاة وهي تضحك: لا، لكن إذا كانت الحرب ضد الرجال فربما.
هياء وهي تلتفت إلى الفتاة: ماذا تقصدين؟
انقطع حديثهما عندما بدأت أصوات طرق قوية تعم المكان أسكتت كل الحاضرات اللاتي وجهن انتباههن وأنظارهن للمسرح أمامهن، والذي خرجت من بابه الخلفي امرأة في منتصف الأربعين من عمرها تقريبا، واعتلت المنقصة وبدأت تجول بنظرها بين الحاضرين بصمت وعلى وجهها تبدو صرامة وحدة، ثم قالت بصوت مرتفع مسموع للجميع من خلال ميكروفون أمامها عزرته السماعات المنتشرة في أرجاء القاعة: يوم آخر بلا رجال!
الحضور يهتفن بصوت واحد عدا هياء: بلا هم!
الرؤوم بصوت مرتفع: وبلا غباء!
الحضور بصوت واحد عدا هياء التي التفتت باستغراب خلفها لتشاهد المتحمسات وهن يرددن: وبلا قمع!
الرؤوم: شكراً لحضوركن. محاضرتنا اليوم ستكون عن موضوع لا يقل أهمية عما قلناه سابقا وهو عن تاريخنا كبنات حواء على هذه الأرض!.. أين المخترعات عبر التاريخ؟. أين المكتشفات؟.. أين إنجاز نصف سكان هذا الكوكب؟.. هل يعقل أن كل إنجاز غير مسار البشرية كان بيد رجل فقط؟.. هل يعقل أن المرأة وقفت متفرجة منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا ولم تقدم شيئاً أسهم في نهضة الإنسان؟
هياء وهي تهمس في أذن الفتاة التي تحدثت معها سابق: لم تصرخ هكذا؟
وضعت الفتاة سبابتها على شفتيها وعينها لا تزال منصبة على المنصة وهي تقول لـ هياء: الحديث ممنوع خلال المحاضرة.
الرؤوم وهي تستأنف كلامها: الإجابة المنطقية هي بالطبع لا.
وألف لا!، لكن أين إنجازاتها؟.. أين إنجازات حواء وبناتها؟ ومن المسؤول عن إخفاء هذه الإنجازات وقمع صاحباتها؟ لا يوجد رجل لم يستفد من امرأة بشكل أو بآخر! أو بالأحرى لا يوجد اختراع غير مجري التاريخ إلا وكان للمرأة يد فيه، لكننا لم ولن نستمع ذلك لأنها كانت غالبا تدون تحت اسم مجهول فقط، لأن من خلفها كان امرأة! وكأن الأمر جريمة لأن الفاعل هنا من منطقهم الضيق والعقيم لا يمكنه أن يقترفها لعجزه التام! هل تعرفون لماذا؟ لأن من كتب تلك الكلمة مجهول ودن أحداث التاريخ منذ بدايته حتى يومنا هذا كان رجلا.
أنزلت الرؤوم نظرها لورقة كانت أمامها وبدأت تمعن النظر فيها لثوان.
هياء تشير للفتاة عما إذا كان بإمكانها الحديث الآن، لكن الفتاة أشارت لها بالصمت والتركيز مع المحاضرة.
رفعت الرؤوم رأسها وقالت بصوت مرتفع: حقيقة يتجاهلها البعض وينكرها الكثير، وهي أن أغلب النساء متيقنات من أن الرجل لا يملك قدرة عقلية أو فكرية تفوقهن، بل على الأرجح أنهن متقدمات عليه بمراحل، لكن تجدن أن أغلب هؤلاء النسوة لا ينكرن على الرجل انتقاصه لهن ولعقولهن كلما سنحت له الفرصة.. لماذا؟ هل لأنهن مدركات لذلك فاكتفين بذلك الإدراك؟ أم لأنهن بلغن من التفوق العقلي الذي يمنعهن من التعامل مع فئة أدنى منهن عقليا مثلما يتعامل الشخص مع طفل يصر على أنه أقوى منه؟ لن تجدن أحداً يبرر قوته لطفل يدعي عكس ذلك إلا في بعض الحالات التي يكون فيها معيار الذكاء للمتحدث أدنى من المعتاد. أغلب الرجال ينجذبون للمظهر والقشور الخارجية للوهلة الأولى، وهذا أكبر دليل ومؤشر صارخ للسطحية التي يعشونها حسب تفسير جميع كتب علم النفس والاجتماع، على عكس المرأة التي تنجذب للجوهر في معظم الأمور التي تواجهها، وهذه الحقيقة وحدها كافية كدليل على عمق تفكير جنسنا ومدى تفوقه العقلي بالمقارنة مع نصفه الآخر، لكن العالم الذكوري اختار مصطلح الحس الأنثوي ليصف هذا التفوق العقلي ليلطف الحقيقة ويستر عورته!
هياء وهي تراقب حماس الرؤوم في خطابها وتقول في نفسها: من هذه المرأة الحديدية؟
الرؤوم وهي تفتح علبة جلدية وتخرج منها نظارة طبية صغيرة وتلبسها وتنظر للورقة التي كانت معها وتستأنف حديثها:
أكثر الرجال يرون أنفسهم محظوظين لأنهم ولدوا ذكورا وأن ما يملكونه من قدرات عقلية وجسدية تخولهم الهيمنة على مقدرات الأرض بمن فيها نساؤها! وفي المقابل لا تفكر النساء بهذه العقلية الانتهازية.. حتى القدرات الجسدية بنظرة بسيطة للمخاض والولادة تعطيا مؤشراً جليا وواضحا لما يمكن للمرأة أن تتحمله من ألم وإرهاق، لكنها غالباً تختار الصمت و عدم مجادلة الرجل في وهمه. وأكرر السؤال مرة أخرى.. لماذا؟
لماذا نبقى نحن تلك لمخلوقات المتفقة عقليا وحسيا وفي نظري جسديا أيضاً صامتات أمام الهيمنة الذكورية؟ هل هو ضعف؟ لا أعتقد. هل هو خوف؟ لا أظن. ما السبب إذن؟
صمت الجميع، لكن هياء تحمست ورفعت يدها ظنا منها أن السؤال حقيقي وليس مجازيا، فأسرعت الفتاة وأنزلت يدها قبل أن تنتبه الرؤوم لها.
الرؤوم وهي تخلع نظارتها وتطوي الورقة التي معها: لنأخذ استراحة بسيطة.
وقف الحضور وبدأ بالتصفيق بحرارة بينما كانت الرؤوم تسير مبتعدة عن المنصة.
وقفت هياء تراقب حماس التصفيق وهي مندهشة، وتدريجيا بدأت تخلو المدرجات من الحاضرات، فسألت الفتاة التي كان واقفة بجانبها: هل انتهت المحاضرة؟
الفتاة: لا.. هذه مجرد استراحة.
هياء وهي تراقب النساء وهن يخرجن من باب كبير في آخر القاعة: لكنهن يرحلن.
الفتاة: إنهن ذاهبات للمقهى.. هل ترغبين في تناول كوب من الشاي معي.
هياء: هل لديكم قهوة؟
الفتاة وهي تبتسم: بالطبع.
هياء وهي تضع يدها على رأسها: أظن أني أحتاج واحداً.
خرجت الاثنتان من القاعة الكبيرة ودخلتا في مكان واسع انتشرت فيه الطاولات الصغيرة، ويتوسط ذلك المكان مقهى يقدم المأكولات الخفيفة والمشروبات الساخنة والباردة. أجلست الفتاة هياء وقالت: سوف أذهب لأحضر لنا كوبين من القهوة.. ما سكرك؟
هياء وهي تتمعن في الجالسات المنشغلات بأحاديث ونقاشات جانبية محمومة مع بعضهن بعضا: كما تشائين.
توجهت الفتاة للمقهى وهياء لا تزال تجول بنظرها في المكان حتى وقعت عيناها على المرأة التي كانت تلقي المحاضرة، وكانت تجلس وحدها تقرأ كتابا تحتسي كوبا مجهول المحتوى. حدقت هياء بها مطولا حتى كسر تحديقها بها عندما رفعت الرؤوم رأسها ونظرت لـ هياء مباشرة وكأنها أحست بمراقبتها لها. بدأت هياء تلتفت يمينا وشمالا في حالة من الارتباك، وعندما حاولت اختلاس النظر مرة أخرى نحو الرؤوم رأت أنها عادت لقراءة كتابها كما كانت. رجعت الفتاة بكوبين من القهوة ووضعت أحدهما أمام هياء وهي تقول: أتمنى أن يعجبك.
هياء وهي ترفع الكوب وتأخذ رشفة منه وعينها مسلطة على الرؤوم: ما حكاية تلك المرأة؟
الفتاة وهي تجلس أمامها: أي امرأة؟
هياء وهي تضع الكوب على الطاولة وتنظر للفتاة مباشرة: المرأة التي كانت تلقي المحاضرة
الفتاة وهي تبتسم: تقصدين السيدة الرؤوم؟
هياء: نعم.. ما حكايتها؟
الفتاة: لا حكاية لها.
هياء: حماسها غريب.
الفتاة: هذا يسمى إخلاصا.
هياء: إخلاصا؟ لماذا؟
الفتاة: هذا إخلاص للقضية.
هياء: أي قضية؟
الفتاة: قضية المرأة.
هياء: وما قضية المرأة؟
الفتاة بتعجب: ماذا تقصدين بهذا السؤال؟
هياء: هل السؤال غامض لهذا الحد؟
الفتاة وهي تأخذ رشفة من قهوتها: لا، ولكن.
هياء وهي توجه نظرها لـ الرؤوم: هل هي ناشطة نسوية؟
الفتاة: كلنا هنا نؤمن بما تؤمن به بغض النظر عن المسمى.
هياء وهي تعيد نظرها نحو الفتاة وترفع كوب القهوة وتقربه من شفتيها: ألا تعتقدين أنها مزيفة؟
الفتاة: ماذا تقصدين بمزيفة
هياء وهي تضع الكوب على الطاولة: أقصد أنها لا تؤمن بالكثير مما تقوله، وأن الأمر مجرد مسرحية.
الفتاة بتعجب: وما الذي يدفعك لمثل هذا الاعتقاد؟
هياء: هو إحساس لا أكثر، لكني أنوي التأكد منه
الفتاة بقلق: وكيف تنوين القيام بذلك؟
هياء: بالحديث معها مباشرة.
الفتاة مبتسمة: هذه فرصتك الآن.
هياء: فرصتي لماذا؟
الفتاة: للسؤال ألم ترفعي يدك سابقا في المحاضرة؟ الرؤوم وحدها الآن.
هياء: في المحاضرة لم أكن أريد سؤالها فقط، كنت أريد أن أعترض على نقطة في كلامها أيضاً.
الفتاة: يمكنك ذلك أيضا فالرؤوم تتقبل الرؤى الآخر برحابة صدر.
هياء وهي توجه نظرها نحو الرؤوم: لا يبدو أنها ممن يقبلن سماع صوت غير صوتها.
الفتاة: جربي. لن تخسري شيئاً.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا