ضحكا بشدة ونظر إليهما مستغربا فأمسكا ذلك الرجل بيده وسحبه وهو يغمز له..
فغر فاه وجحظت عيناه من الدهشة، فأمامه كان يقف رجل نجيل الجسد وقد أطال شعره وملاً وجهه بالأصباغ، وكان عارياً إلا من ثياب داخلية نسائية بدا لونها الأحمر غريباً على جسده المكسو بالشعر، كان لا يزال غارقاً في دهشته عندما أمسك ذلك الرجل بيده وهو يبتسم له بإغراء وأخذ يرسل إليه قبلات متتابعة ويغمز له بعينه..
تبعه الرجلان خارج الغرفة وأمسك به أشدهما قوة وهو يصيح به:
صمت فلم يكن يدري ما يقول، وأحس بالخوف وذلك الرجل يحدق به بحقد، ندم لحضوره فقد كان هذا أسوأ يوم مر به في حياته، وتمنى بيأس لو ظل بين الأموات حيث لا أحد يخيفه أو يؤذيه، سحب الرجل الآخر زميله وتهامسا لفترة قبل أن يقهقه الرجل الذي كان يمسك به قبل قليل بشدة..
اتجها إليه من جديد، وقبل أن يعي ما يحدث كان أحد الرجلين يكتف يديه بينما التف الرجل الآخر وراءه وأنزل بنطاله ثم رفعه من كتفيه في الهواء وألصقه بجسده، كاد يفقد عقله عندما فهم ما يراد به وأخذ يصرخ بكل قواه وهو يحاول الإفلات وركل الرجل الذي أمامه دون جدوى، كان ينادي السائق لينقذه لكنه إما لم يسمعه وإما تجاهل استغاثته..
قال الرجل الذي يمسك به من الخلف ضاحكاً..
استمر يقاوم بكل ما أوتي من قوة، لكن مقاومته كانت يائسة، فقد كان الرجلان أقوى منه جسدياً وكانا يمسكان به بطريقة شلت حركته، استولى عليه إحساس بالذل والعجز لم يعرفه في حياته واسودت الدنيا في عينيه وضحكهما المتوالي يمزق أذنيه.
وفجأة تذكر السكين التي اشتراها، ولكن كيف يصل إليها ويداه مكتوفتان، ولمعت في ذهنه فكرة فصاح:
وكما تمنى فقد غلب الطمع الرجل الذي يمسك به من الأمام فترك يديه وانحنى ليبحث في جيب بنطاله الذي كان معلقا عند ركبتيه. انتهز تلك الفرصة ليأخذ سكينه من جيب قميصه، وبحركة سريعة ضغط زنادها ثم أغمدها في رقبة الرجل المنحني أمامه.
وقبل أن يتسنى للرجل الممسك به أن يتحرك كان قد انتزع السكين وطعن بها فخذ الرجل بكل قواه ثم سحبها إلى الأسفل لينفجر الدم من فخذه كالنهر، وقع إلى الخلف وهو لا يزال متشبثاً به فوقع فوقه، قفز واقفاً وانتزع السكين من فخذه وأغمدها في جبهته وقد أعماه الغضب، نزع السكين ليطعنه بها من جديد فانتبه أن عينيه قد جحظتا جحوظ الموت فتوقفت يده في الهواء..
التفت إلى الرجل الآخر فوجده لا زال واقعاً أرضاً على وجهه بدون حراك لم يكن يدري إن كان حياً أو ميتاً ولم ينتظر ليعرف، جرى خارجاً وهو يعيد لبس بنطاله وقد أعطي الخوف قوة خارقة لساقيه، فلم يتوقف حتى ابتعد تماما عن تلك المنطقة أو هكذا ظن، فلم يكن يعلم إلى أين يتجه، توقف ليرتاح لحظة ثم عاود الجري حتى وصل إلى شارع مزدحم بالسيارات، توقف له تاكسي فصعد مسرعاً.
كاد يصيح إلى المقبرة ولكنه تمالك نفسه وأعطاه اسم المنطقة التي تقع قربها، سيكمل الطريق مشياً حتى لا يستدل عليه أحد، نظر إلى ثيابه عندما جلس فرأى بعض الدماء على أعلى بنطاله. أخرج قميصه ليغطيها وهو لا زال يحاول استرجاع أنفاسه بعد ذلك الجري الطويل.
كان محظوظاً إذ كان سائق ذلك التاكسي من جنسية عربية ولم يكلف نفسه بالكلام معه أو حتى النظر إليه، دفع له الأجرة التي طلبها بدون أن يناقشه وأخذ يسرع الخطى للوصول إلى المقبرة، كان قد تأخر عن موعده ولا زالت أمامه ثلاثة قبور ليحفرها.
ما كاد يقترب من المقبرة حتى رأى الحارس يقف أمامها منتظراً عودته، الغضب بادياً على وجهه..
ازداد اللوم في عيني الحارس فأحنى رأسه قائلا:
أسرع إلى غرفته بعد أن توقف الحارس أخيراً عن جلده بنظرات اللوم وأقفل بابها، خلع ثيابه وكان يحس بجلد ساقيه يحترق حيث لا زالت دماء ذلك الرجل تصبغه، كان يتحرق شوقاً ليغسل تلك الدماء القذرة ويمحو لمسات ذلك النجس عن جسده لكن عمله كان ينتظره، نظف نفسه بما استطاع ورمي ثيابه الملوثة بالدم في كيس وقد اعتزم أن يدفنها حتى لا يكتشفها أحد، هرع إلى الخارج حاملاً الكيس وانهمك في عمله بعد أن أخفى الكيس في أول قبر حفره..
لم ينم تلك الليلة ولا لعديد من الليالي بعدها، فقد كان الغضب والخوف يتنازعان أفكاره ويمنعانه النوم، كان غاضباً على ذلك السائق المشؤوم الذي تسبب له بكل تلك المصائب، ولكن غضبه الأشد كان من نفسه، فلو أنه قد قنع بما هو فيه من راحة مع الأموات ولم يخرج بغباء بحثاً عن رفقة الأحياء لما حدث له كل هذا..
كان يمضي الليالي ساهراً يتخيل أنه تم القبض عليه ويرى نفسه معلقاً بحبل المشنقة، وللمرة الأولى كان سعيداً بعمله، فلن يفكر أحد أن يبحث عنه هنا، ولن يشهد عليه أحد من أهل المقبرة فهم لا يتكلمون، لن يخرج من هذه المقبرة أبداً بعد اليوم فقد تلقى درساً قاسياً.
ولخوفه من اكتشاف أمره أصبح أكثر انعزالاً ولم يعد يقترب من أحد من أهلة الموتى، ثم هداه تفكيره لاحقاً إلى القيام بحفر القبور ليلاً فور أن يخبره الموظف بالعدد المطلوب حتى يقلل من احتكاكه بالناس أكثر، احتج الحارس على ما يفعله في البداية بنظراته ولكنه تظاهر بأنه يفعل ذلك ليعوض عن تأخيره في ذلك النهار، وفي النهاية اعتاد الحارس على ما يفعله وتركه في حاله.
مرت عدة شهور وهو لا زال يعيش في الخوف، كان يحاول جهده ألا يخرج غرفته خلال النهار، ولكن نظراً لكثافة الغبار في بعض الأيام كان يضطر أحيان لإعادة حفر بعض القبور نهاراً، وقد أوحى له ذلك الغبار بفكرة للتخفي حين لاحظ أنه في الأيام المغبرة كان الموظف يغطي وجهه بغطاء الرأس الذي يرتديه أهل هذه البلد، استجمع جرأته يوما وطلب منه أن يحضر له غطاء مثله من ثيابه القديمة، ذكره عدة مرات قبل أن يحضره أخيرا له، وبعدها لم يعد يخرج من غرفته بدونه.
أحس عند ذلك بشيء من الأمان، لكنه استمر في محاولة الاختفاء نهارا وخاصة عند دفن أحد من أهل بلده، إذ كان يخشى أن يصادف أحدا ممن رآه في ذلك اليوم، وكان اشد ما يقلقه انه لم ير جثة أي من الرجلين الذين طعنهما أو على الأقل ذلك الذي كان متأكدا انه قتله قد أحضرت إلى المقبرة، وكان يتساءل هل تم إرسالهما إلى بلدهما، أم أن الشرطة لا تزال تحاول التوصل إلى القاتل ولهذا لم يتم دفنهما.
وفي عصر أحد الأيام كان يحاول إنهاء عمله في أحد القبور بسرعة إذ كان يعلم أنه سيتم دفن اثنين من أهل بلده بعد قليل، لم يخبره الموظف كيف ماتا فلم يكن يكترث كثيراً لقصص الموتى من أهل البلدان الأخرى، وخشى أن يقترب من غرفة تغسيل الموتى فيراه أحد.
وبينما كان منهمكا في عمله سمع ضجة أصوات تقترب منه وتعرف على لغة أهل بلده، استدار ليسترق النظر فانتابه الرعب وتوقف قلبه للحظة عن الخفقان، كان السائق يسير في مقدمة المعزين وهو يتبادل الحديث مع من حوله، يا لسوء حظه! لا بد أنهم أضاعوا الطريق فقد كان القبران المعدان لصاحبيهما في الجهة الأخرى من المقبرة، خشي أن يتعرف عليه السائق رغم تخفيه ولم يجد أمامه مكاناً يختبئ فيه إلا القبر الذي كان يحفره، فقفز فيه والتصق بحائطه محاولاً أن يبقى هادئاً حتى لا ينتبه لوجوده أحد..
استمر السائق ومن معه في السير ثم انتبهوا لخطئهم واستداروا عائدين، انتظر مرورهم وهو يحاول أن يكتم أنفاسه، وتنهد بارتياح عندما ابتعدوا عنه فأسرع بالعودة إلى غرفته واختبأ فيها حتى حل الظلام، وعندما تأكد من خلو المقبرة اتجه إلى القبرين اللذين شك أنهما يحويان جثتي من قتلهما، كان وجود صديقهما السائق دليلاً قوياً أنهما هما ولكنه كان يحتاج أن يتيقن، وجه ضوء البطارية الذي يحمله إلى جوف القبرين محاولا التعرف إلى هيئة من فيهما ولكن الكفن كان يغطي وجهيهما.
أخذ يردم القبور للموتى الآخرين الذين دفنوا عصراً واجل ذلك القبرين إلى النهاية ليتسنى له كشف الكفن للتأكد منهما، وفاجأه صوت موظف المقبرة الغاضب خلفه:
ارتبك فقد كان الموظف قد حضر مبكراً عن موعده..
هز الحارس الذي كان يقف جانباً رأسه مؤيداً كلامه عندما نظر إليه الموظف متسائلا، فهدأ غضب الموظف قليلا، لكنه لم يتوقف عن أسئلته:
عندما وقفوا على القبرين أعاد توجيه الضوء الذي يحمله إلى أحد القبرين ثم الآخر، ورأى الموظف أن كليهما قد رميا في القبر كيفما اتفق..
نظر إلى رقمي القبرين وقارنهما بالأرقام المدرجة في الدفتر الذي يحمله..
قال وهو يخفض رأسه متصنعاً الخضوع التام، رحل الموظف وتبعه الحارس. انتظر حتى تأكد أن الحارس قد دخل غرفته ثم أكمل عمله ببطء متعمد فقد كان ينتظر أن ينام الحارس، وعند منتصف الليل اقترب من غرفة الحارس وأرهف أذنيه متنصتاً السمع، وعندما تناهى إلى أذنيه صوت الشخير المألوف للحارس اطمأن واتجه إلى القبرين.
هبط إلى القبر الأول وكشف وجه الميت فتعرف عليه فوراً، إذ كان الرجل الذي كتف يداه ليشل حركته بينما يعتدي عليه الآخر، قلبه وتأكد من أثر جرح سكينه خلف رقبته، أحس بشيء من الهدوء يغمره، فقد تأكد الآن من موت من كان يحتمل أن يشهد عليه، كما أن نار الانتقام التي ظلت تشتعل في صدره منذ ذلك اليوم قد بردت بعض الشيء عندما تأكد أنه قد قتله، لم يبق الآن إلا أن يستوثق من وجه الرجل الآخر ليحس أنه قد أتم انتقامه.
خرج من ذلك القبر وهبط إلى الآخر، وأخذ يضحك بسعادة عندما رأى وجهه، إنه هو فها هي طعنة سكينه في جبهته تشهد بذلك، لا بد أن أحداً قد أقفل عينيه بعد أن قتله بقليل فلم تعودا جاحظتين كما تركهما.
أخرج سكينه التي لم تعد تفارقه وأخذ يطعن بها صدره وبطنه، لكن لقدم الجثة واهترائها لم يجد أي مقاومة ولم يخرج منها أي دم، خاب أمله فقد ذكره مرأى وجهه البغيض بالذل والمهانة اللذين أحسهما في ذلك اليوم، وكان لا زال يشعر بالحاجة إلى فعل شيء لإطفاء غليله، فكر لحظة ثم اهتدى إلى فكرة أعجبته..
أزاح باقي الكفن وكشف أسفل بطنه، ثم استل سكينه وقطع ما بين ساقيه بحركة واحدة سريعة، ودلاء أمام وجهه وهو يصيح به بشماتة:
أخذ يقهقه بجنون ودوى صوت ضحكاته الشيطانية في هدوء المقبرة، هدأ بعد قليلاً وجلس أرضاً إلى جانب الميت، حاول فتح فمه ليحشر قطعة الجلد المترهلة تلك فيه فلم يستطع إذ كان الفم مطبقاً تماماً ومتصلباً بفعل الموت، قفز من القبر، وقد توصل إلى فكرة أخرى.
اتجه إلى السور الخلفي للمقبرة، ولدى اقترابه سمع زمجرة خافتة فعرف أن سيتمكن من إخماد نار حقده، رفع يده لأقصى ما يمكنه وطوح بما يحمله في الهواء ليقع خلف السور، هاجت الكلاب الضالة التي كان يعرف أنها تتجمع خلف المقبرة واشتد نباحها فقفز ليصل إلى أعلى السور، وأخذ يقهقه بسعادة وهو يطل عليها وهي تتجاذب تلك الجيفة بين أنيابها حتى لم يبق منها شيء.
عاد إلى القبرين وقفز إلى قبر الرجل الآخر، كان لازال سكراناً بنشوة ما فعله بالرجل الأول فلم يكلف نفسه عناء الكلام إلى الجسد الهامد للرجل الآخر كان حقده عليه أقل، وبهدوء وحشي أمسك بأصابعه وأخذ يقطع أطراف أنامله واحداً تلو الآخر متمهلاً ومستمتعاً بصوت العظام البالية وهي تتحطم تحت ضربات سكينه الحادة.
وبعد أن استكمل تقطيع أطراف الأصابع العشرة أمسك باليدين وقهقه بوحشية، ثم هز رأسه، لا! انه لم ينته بعد! استل سكينه من جديد واخذ يقطع السلامي الثاني لتلك الأصابع، كان يقذف بكل سلامي يقطعه حوله بدون اكتراث وهو يحس بنار غضبه وجحيم الخوف الذي عاش فيه طوال الشهور الماضية يهدأ سعيرهما مع كل ضربه لسكينه.
أمسك باليدين أمامه حينما انتهى، وأخذ يقهقه بجذل وهو يتأمل منظرهما وقد بقي سلامي واحد فقط لكل من الأصابع، أجل هكذا الآن أصبح منظرهما جميلاً، قال لنفسه وقد أحس أخيراً أن الحقد الذي كان يغلي في صدره انطفأ.
استكمل ردم القبرين والابتسامة لا تفارقه ثم عاد إلى غرفته ونام بعمق لأول مرة منذ ذلك اليوم، كان يحس بشيء من الأمان فلا بد أن الشرطة قد يئست من العثور على قاتل الرجلين ما داما قد أرسلا للدفن، وحتى لو كان السائق لا زال يبحث عنه فلن يفكر أبداً بأنه كان موجوداً اليوم على بعد خطوات قليلة منه.
كان ممتناً لعزلته فهي التي ستحميه. وتقلب سعيداً في نومه فقد استكمل انتقامه ورأى بعينه جسدي غريميه، فهما الآن تحت رحمته ويمكنه في أي لحظة تشتعل فيها نار غضبه من جديد أن يعود إليهما ليعبث بهما حتى تهدأ ناره، واعتزم أن يستخرج بعض عظامهما ويرميها للكلاب بعد مرور بعض الوقت.
الفصل الثالث
أصبح أقل حذراً بعد ذلك رغم أنه لم يعد يتخلى عن غطاء وجهه طوال الوقت، وأخذ يتجول في المقبرة بحرية وخاصة في الأيام التي لا يكون فيها هناك أحد يتم دفنه من أهل بلده، كانت الفترة التي أمضاها بعيداً عن المعزين وأهل الموتى قد جعلت مدخراته تتوقف في مكانها ولم يضف لها إلا باقي راتبه الضئيل الذي كان يقتطع معظمه ويعطيه للحارس ليرسله لأهله.
لم يكن يعرف ماذا يفعل ليزيد مدخراته بدون أن يغادر المقبرة، وفي أحد كان يقوم بإعداد أحد القبور عندها نادته امرأة، نظر إليها باستغراب من جوف القبر فقد كانت المرة الأولى التي تخاطبه فيها امرأة في هذا المكان، فقد كانت النساء لا يحضرن إلى المقبرة عادة إلا في أيام الجمعة أو الأعياد، وكن يحضر غالباً بصحبة أحد من محارمهن ولم يكن يطلن البقاء، كانت تبدو من أهل البلد، فقد كانت ترتدي عباءة سوداء وتغطي وجهها بنقاب أسود، خرج من القبر واتجه إليها مستفسراً عما تريد.
استنتج من صوتها المتحشرج وكتفيها المحنيين بأنها كبيرة في السن، سألها عن اسم من تبحث عنها فأخبرته فتذكرها فورا، فقد غصت المقبرة بالمعزي في اليوم الذي دفنت فيه ولم يستطع معظم الموجودين كتمان دموعهم، سار ليدلها على القبر الذي تبحث عنه، وعندما وصلا إليه دست في يده دنانير فأخذها بسرور..
بدا أنها ملت من الأخذ والرد معه ومن إجاباته التي لم تصل بها إلى ما تريد فقررت أن تختصر الطريق، أخرجت من حقيبتها مبلغاً من المال من فئات كبيرة ولوحت بها في وجهه..
مد يده ليمسك بالنقود فأبعدت يدها..
كانت عيناه الجاحظتان من الجشع لا تفارقان النقود، فلم يمسك يوماً في يده بكل هذا الكم من المال..
أقفلت حقيبتها لترحل فصحا من انبهاره عندما اختفت النقود من أمامه، وتذكر فجأة أنها لم تحدد له المبلغ الذي ستدفعه، ثم ما الذي يضمن له أنها ستدفع أي شيء؟ ماذا لو خدعته؟
رأت التصميم في عينيه فقررت أن تحاول استرضائه ببعض المال، اختطف النقود من يدها وعدها بسرعة، كان المبلغ لا يتجاوز العشرين دينارا فدفعها إليها ثانية وهو يقلب شفتيه بقرف..
كادت تنفجر في وجهه بأقذر ما في جعبتها من شتائم، فقد كانت تأمل أن تستطيع تطويعه بمبلغ أقل بكثير، فأمثاله يفعلون عادة أي شيء مقابل بضعة دنانير، ولو أمكنها رؤية ما في نفسه لعلمت أنه يرتجف خوفاً من الداخل، فقد كان يحاول ابتزازها إلى أقصى حد ممكن، ولكنه كان يخشى في نفس الوقت أن تغضب وترحل ويخسر كل شيء، كان يقامر ولم يكن بإمكانه توقع النتيجة..
نفخت من الغضب فقد تناقص المبلغ الذي قبضته مقابل هذه العملية كثيراً، وأخيراً قالت له:
كان قلبه يرقص فرحاً ولكنه تظاهر بعدم الاكتراث:
انصرفت وهي تكاد تتفجر من الغيظ، واستقر تفكيرها على أن تطالب تلك الفتاة بمزيد من المال لتعوض ما خسرته..
ولأول مرة منذ عمل في المقبرة لم يكن مهتماً بمعرفة قصص الموتى التي يرويها، له الموظف ولم يطرح عليه أي أسئلة، كان يريده فقط أن يرحل بأسرع وقت حتى يضمن نوم الحارس مبكراً، وبعد رحيله بقي ساهراً بانتظار حلول الموعد، وكان يعيد عد النقود ويبتسم بسعادة لتذكره بأنه سيقبض المزيد بعد عدة ساعات..
أخذ يمعن التفكير محاولاً أن يتخيل ماذا تريد تلك العجوز من القبر، ومن هي تلك الفتاة التي تريد إحضارها، لم يتوصل إلى نتيجة وخشي أن يغلبه النوم فخرج ليمشي بين القبور وهو مستمر في التفكير..
وعند الساعة العاشرة اتجه إلى غرفة الحارس، كان لا زال مستيقظاً وصوت جهاز التلفزيون المرتفع يملأ الفضاء حول غرفته، ابتعد بهدوء بنية أن يعود بعد ساعة، لم يكن قلقاً فالحارس المسن لم يتخلف يوماً عن موعد نومه في الحادية عشرة من كل ليلة ليستطيع النهوض لأداء صلاة الفجر، عاد بعد ساعة فوجد الهدوء يعم المكان، لكن الحارس لم يكن قد نام بعد فلم يسمع صوت شخيره.
عند منتصف الليل تماماً كان يقف متحفزاً أمام باب سور المقبرة وشخير الحارس هو الصوت الوحيد الذي يعكر صمت المكان، وبعد بضعة دقائق جاء تلك العجوز ومعها فتاة شابة كانت تغطي وجهها أيضاً بنقاب ثقيل، وضع إصبعه على شفتيه مشيراً لهما أن يلتزما الصمت، مد يده وأخذ النقود من العجوز وعدها، ثم وضعها في جيبه وسحب مزلاج الباب وفتحه فأصدر الباب الصدئ صوتا عاليا في هدوء الليل، توقف لحظة خائفا ولكنه هدأ عندما سمع شخير الحارس مستمر دون أن يقطع انتظامه شيء..
قادهما إلى القبر الذي أرادتاه، وما كادوا يقتربون منه حتى أحس بأنفاس متسارعة خلفه، التفت وإذا بالفتاة قد كشفت وجهها وأخذت تشهق بالبكاء، وما أن أشار لهما إلى ذلك القبر حتى اندفعت الفتاة وألقت بنفسها فوقه وتصرخ وتبكي..
اعتقد لأول وهلة بأنها تبكي الميتة، ولكن عندما استمع إلى ما كانت تقوله ذهل لقذارة الألفاظ التي كانت تنعتها بها، وازداد ذهوله عندما وقفت فوق القبر على أطرافها الأربعة وقد تقوس ظهرها كقطة غاضبة وأخذت تحفر التراب يديها، ثم اتكأت على إحدى رجليها وأخذت تركل التراب بالرجل الأخرى دون أن تتوقف لحظة عن الحفر غير مبالية بالدماء التي بدأت تسيل من يديها..
صحا أخيراً من ذهوله وصاح بالعجوز التي كانت تقف صامتة بقربه:
واندفع إلى الفتاة وأمسك بها من كتفيها ليبعدها، ولكنها أنشبت أظافرها في القبر وقاومته بشدة، استدار ليواجهها ويحاول الحديث إليها فصدمته نظرات الجنون في عينيها، أحس بالخوف رغماً عنه، كانت الفتاة سوداء اللون وكانت عيناها المجنونتان تلمعان في الظلام وتدوران في محجريهما، وقد التوى فمها بابتسامة وحشية والزبد يسيل من شدقيها ويزيدها قبحاً. كانت تبدو ككلب أسود مسعور..
تراجع بعيداً وقلبه يخفق، أستند إلى شاهد القبر المجاور وأخذ يحاول استرجاع أنفاسه ويراقب تلك الفتاة وهي مستمرة في الصراخ والضحك والبكاء معاً، كانت قد حولت غضبها إلى الشاهد الذي أمام قبر الميتة وأخذت تخدش بأظافرها اسم الميتة المحفور عليه وترميه بالتراب، ثم أخذت تركل شاهد القبر بكل قواها، كان الشاهد مصنوعاً من الرخام ويبدو أن صلابته قد ألمت قدمها فقد وقعت أرضاً وهي تمسك رجلها وتصيح بتوجع، ولكن حتى ذلك الألم لم يوقفها فقد خلعت حذاءها وأخذت تضرب به الشاهد وهي تبصق عليه دون أن تتوقف لحظة عن كيل الشتائم للميتة..
كان خوفه يخف تدريجياً فقد انتبه أن كل جنونها وغضبها كان موجهاً للميتة، وأخذ ينتظر أن تستنفد قواها بعد أن أشار بيده للعجوز بأنه يريد مزيداً من المال، هزت رأسها بالرفض فأشار بيده أن أخرجا، تململت العجوز في وقفتها فقد كانت لا تدري ما تفعل، لم يبد على الفتاة أنها تنوي التوقف وهذا الحفار الجشع يهددها، وإذا خرجا الآن دون أن تنتهي الفتاة من انتقامها فلربما لن تدفع لها ما اتفقتا عليه، أخرجت بضعة دنانير من حقيبتها وأعطتها له، أخذها ومد يده مطالباً بالمزيد، عضات شفتها السفلى وأعطته بضعة دنانير أخرى..
صمت واستدار ليري ما تفعله الفتاة ففغر فاه مذهولا، كانت قدـ رفعت ثيابها غير مبالية بوجوده وقرفصت على القبر وأخذت تتبول عليه، ثم أخذت تقفز من جانب إلى آخر محاولة أن تلوث كل جوانب القبر ببولها، وعندما لم يكف لذلك نامت على وجهها غير مبالية بالنجاسة التي غرقت فيها وأخذت تبصق على كل ذرة من القبر لم يصل إليها البول.
نظر غاضباً إلى العجوز فمدت يدها إليه بورقتين من فئة العشرة دنانير دون أن تتكلم، في داخله كان يعلم بأنه قد فعل أكثر مما فعلته الفتاة، ولكنه كان لا يزالَ مصدوماً بكم الحقد الذي تحمله هذه الفتاة الشابة، ترى ماذا فعلت لها الميتة لتكرهها كل هذا الكره؟ ورغم أن العجوز كانت تحاول التماسك، فقد كانت هي أيضاً مرعوبة مما تفعله الفتاة، كانت تعلم أنها قليلة العقل مثل كل النساء اللاتي يلجأن لها، ولكن ما نفعله الآن لا يمكن وصفه إلا بالجنون.
في تلك الأثناء كانت الفتاة لا زالت منطرحة على وجهها على القبر وهي تبكي، وتشهق، كانت قد استنفدت كل ما يمكن أن تفعله للقبر بدون أن يخف حقدها ولو قليلاً، ما فائدة أن تبصق على تراب قبرها، كانت تحتاج أن تبصق على وجهها وأن تصرخ بها بكل ما كانت تخفيه من غل في حياتها..
نهضت عن القبر واقتربت من العجوز التي ابتعدت غريزيا قبل أن تتمالك نفسها فقد كانت الفتاة مغطاة بالطين الذي تكون من مزيج بولها وبصاقها وتراب القبر، لم تنتبه الفتاة لها فقد كانت ذاهلة عما حولها..
كانت العجوز قد بدأت تفقد هدوء أعصابها، وكان غضبها المتنامي بسبب الخوف من ردة فعل الحفار وليس بسبب ما قالته الفتاة، فقد أدركت أن الفتاة تريد أن تفتح القبر لتنظر إلى غريمتها وتستكمل انتقامها في بقايا جسدها..
وكان ما تطلبه الفتاة أمراً يكاد يكون عادياً في البلد التي جاءت منها العجوز، إذ كانت أمها ساحرة مثلها، وكانت معتادة أن تجول المقابر معها منذ صغرها بحثاً عما تحتاجانه لاستكمال تعاويذهما، أو لدفن أحد أعمالهما السحرية حتى لا يجدها المسحورون ولا يتمكنوا من فك السحر أبداً، ولكنها هي وأمها من قبلها كانتا تفعلان ذلك لغياب الرقيب في بلدهما الذي تهمه الفوضى، وفقط إذا دفع لهما الثمن المناسب.
لكنها منذ قدمت إلى هذه البلاد لم تتجرأ على الاقتراب من القبور لخوفها من انكشاف أمرها، فقد كانت قبضة الأمن في هذا البلد قوية وكانت عقوبة من يمسك به متلبساً بممارسة السحر شديدة، ولهذا كانت تكتفي برمي أعمالها في البحر أو دفنها في الصحراء، وكانت تعتذر عن أي عمل يتطلب استكماله الدخول إلى المقبرة.
ترددت العجوز رغم أن الطمع قد بلاً يستولي عليها فأخرجت الفتاة كومة من المال من حقيبتها..
نظرت العجوز إلى الفتاة وإلى اللهفة التي تكاد تقفز من عينيها، ظلت صامتة عدة لحظات فقد كان الجشع والخوف يتنازعان نفسها، ولكن الجشع انتصر أخيراً فأمسكت بكتف الفتاة وقد حسمت أمرها ناسية اشمئزازها من قذارة ثيابها..
هزت الفتاة رأسها بالموافقة، ثم خشيت أن تخطئ العجوز فهم إشارتها أو بها التردد فصرخت:-كما تشائين! سأدفع لك ما تريدين!
وأخذت تعد الأوراق النقدية بلهفة جعلتها ترتبك وترتجف يداها، كان الظلام شديداً فأخطأت في العد عدة مرات تحت أنظار العجوز الخبيرة، ولكنها لم تنبس بينت شفة فقد كانت الأخطاء لصالحها، وعندما مدت الفتاة أخيراً يدها بالنقود أخذتها باسمة، ثم استدارت إلى الحفار وقد أمدها ملمس النقود الدسم في يدها بشجاعة جديدة..
كان قد حدس ما تريدان، ولكنه تظاهر بعدم الفهم ليحصل على أكبر مبلغ يمكنه الحصول عليه، رسم قناعاً من البلاهة على وجهه وهز رأسه متسائلاً عما تعنيه العجوز..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا