أحلام الزهور
انقشع النور عن عيني هياء لتجد نفسها تترنح يمينا وشمالا بقوة، وأحسست بأن تلك الحركة ناجمة عن هواء قوي كان يتلاعب بها. لم تكن الرؤية واضحة أمامها بسبب ذلك الاهتزاز والترنح، لكنها كانت تسمع بجانبها أصواتا أخرى قريبة منها تتحدث في ما بينها بعبارات لم تستوعب فحواها بالكامل. سمعت صوتا أنثويا يقول: الريح اليوم مصرة على إفساد طلتي البهية. سمعت بعدها صوتا أنثويا آخر يرد عليها ويقول: لا تلقي اللوم على الريح، فقبحك له أسباب أخرى. رد الصوت الأنثوي الأول بغضب وسخرية قائلا: على الأقل، رائحتي لست كرائحة التراب المبتل!
صوت أنثوي ثالث: توقفا عن الجدال!.. الريح بدأت تهدأ.
خفت حركة اهتزاز جسد هياء وبدأت المعالم من حولها تتضح بالرغم من أنها كانت تشعر بالدوار الشديد، رفعت ذراعيها كي تفرك عينيها لترى بشكل أوضح، لكنها صعقت عندما رأت أوراقا خضراء تحاول تغطيتها، فصرخت وبدأت تحاول الجري مبتعدة عنها، لكنها أحست بأن قدميها مثبتتان في الأرض، فأنزلت نظرها للأسفل لترى أن جسدها غير موجود ولم تر سوى ساق خضراء طويلة مغروسة في الترب. رفعت نظرها بسرعة، وبدأت تنظر حولها بارتباك و توتر شديدين، وخلال ذلك ظهرت أمامها زهرة زهرية ضخمة وحدثتها قائلة: ما بك يا زئبق؟
صرخت هياء عندما رأت تلك الزهرة الضخمة والقريبة جدا من وجهها تتحدث معها. بدأت تتمايل بكل قوتها للهرب، لكن دون فائدة، وتلك الزهرة الزهرية تراقبها بتعجب، وخلال مراقبتها لها أطلت بجانبها زهرة أخرى ببتلات بيضاء صغيرة وقالت: ما بها زنبق يا كادي؟
كادي وهي تراقب هياء المتشكلة بزنبقة صفراء باستغراب: لا أعرف ياسمين، يبدو أنها لا تزال مشوشة بسبب الرياح.
أطلت من الجهة المقابلة للزهرات، وعلى بعد يسير منها، زهرة بلون أحمر فاقع وقالت بتأفف: ما بها تلك الحمقاء تتحرك بهذا الشكل؟
كادي بسخرية واستحقار لتلك الزهرة الحمراء: عودي لتناول السماد يا جوري ولا تتدخلي في الأمر.
زهرة بيضاء أخرى بجانب جوري تتحدث بتوتر ل ياسمين: ما بها زنبق؟ لماذا تنتفض هكذا؟
ياسمين وهي تراقب هياء بقلق: لا أعرف ما الذي يحدث لها يا فلة.. منذ أن توقفت الريح وهي بهذه الحالة.
كانت هياء تستمتع لذلك الحوار بين الزهور وهي تحاول جاهدة الهروب من أمامها، لكنها أدركت بعد برهة من الزمن أنها تعيش أحداث الكتاب الذي فتحته، وهذه المرة لم تنس كل شيء بالكامل. كانت تتذكر اسمها وتتذكر شكل أمين، وأنه هو من مد لها الكتاب، لكنها لم تستطع تذكر اسمه أو أي أحد من معارفها في القصر، غير أنها كانت تذكر بوضح شديد وغريب حياتها في الكتاب الأول مع عرندس، وكانت مشتاقة له كثيراً. بعد دقائق هدأت هياء واعتدلت في وقفتها وانتصابها، وبدأت تنظر للزهور التي كانت تراقبها بتوجس لأنها كانت مائلة للأمام نحوها.
هياء بتوتر: كيف حالكن؟
جوري بامتعاض: هل هذه مزحة أخرى من مزحاتك السخيفة؟
ياسمين بقلق: هل أنت بخير يا زئبق؟
هياء وهي مرتبكة من الموقف الغريب وتحاول استيعابه والحفاظ على هدوئها ورباطة جأشها: نعم، نعم.. بخير يا سيدتي.
ياسمين وهي تعقد مياسمها وترجع للوراء قليلا: سيدتك؟.. ماذا تعنين بسيدتك؟
كادي وهي تضحك وتهز بتلاتها: يبدو أنها استعادت عافيتها وعادت لمزاجها الأخرق مرة أخرى!
فلة بقلق: لا تفعلي ذلك مرة أخرى يا زنبق لقد أرعبتنا.
كادي: لا تضخمي الأمر يا فلة.
جوري بتهجم ل كادي: لا تدافعي عنها أيتها السمينة فقط لأنها صديقتك!
ياسمين ل جوري: كلنا أصدقاء هنا ولا فرق بيننا.
جوري: بل هناك فرق! أنا الأجمل والأزكى عبيراً بينكن، لذلك تحقدن علي1
كادي بصوت مسموع للزهور التي حولها فقط: والأكثر جنونا.
جوري بغضب: ماذا تقولين يا صاحبة المتاع المفلطح؟!
كادي بصوت مرتفع وعصبية شديدة: لا شيء يا صاحبة المتك القصير1
أخذت جوري شهقة قوية وقالت: ماذا؟!
فلة وهي تصرخ في الجميع: كفى!.. كفى!.. أي نوع من الزهور أنتن؟!
كانت هياء تراقب الأمر بخوف في بادئ الأمر، لكن عندما سمعت شهقة جوري ضحكت، مما دفع جوري للالتفات نحوها والراسخ فيها: أطبقى تويجك قبل أن أطبقه لك!
كادي وهي تحدث هياء: لا تقلي لقد رأيت عاشقين بالأمس يتجلان بالقرب منا، وقد نوفق ويمران من هنا اليوم ويقتلعها ذلك العاشق لحبيبته ونرتاح من صياحها.
جوري بسخرية وغرور: على الأقل سأموت شهيدة للحب، ولن أكون عصارة في قنينة.
ياسمين: وهل تحلم إحدانا أن تكون أريجا بتعطر به الناس؟
فلة بإحباط: نحن في الأغلب نخاط في عقود فقط.
تجرأت هياء وشاركتهن الحديث وقالت: عن ماذا تتحدثن؟
كادي: عما نتحدث عنه كل يوم بالطبع. أحلامنا.
هياء: أحلامكن
فلة: نع م.. هل نسيت حلمك؟
هياء: حلمي؟
جوري: نعم حلمك الذي لن يتحقق أبداً.
كادي بتجهم: أنت لا تعرفين ذلك!
هياء: وما حلمي؟
ياسمين: يبدو أن تظاهرك بالترنج قد أخل بذاكرتك.
هياء بتوتر: نعم يبدو كذلك.
كادي: حلمك أن تكوني زهرة مجففة تعيش للأبد.
هياء: وهل نبقى على قيد الحياة عندما نجف؟
فلة: لا نعرف. بنفسج فازت بذلك الحلك قبلك.
هياء: بنفسج من؟
كادي باستغراب: هل هذه مزحة أخرى من مزحاتك؟
هياء: لا.. يبدو أننفي فقدت ذاكرتي بالفعل عندما هبت تلك الريح.
ياسمين بتعجب: ألا تذكرين نرجس؟ لقد كانت أعز صديقة لك.
هياء: لا.. لا أذكرها
جوري: لا يوجد شيء يستحق التذكر، فتلك الزهرة المجنونة كانت حمقاء مثلك تماما.
كادي موجهة كلامها ل هياء: لا تعيري كلامها أي اهتمام.
هياء: هل كان حلمها مثل حلمي؟
ياسمين: نعم وهو أن تصبحا زهرتين مجففتين معا.
هياء: وهل تملكن جميعكن الحلم نفسه؟
كادي: لا.. لكل منا حلمه الخاص.
هياء: ما أحلامكن؟
جوري: أتمنى أن أكون في آخر أيامي هدية معشوق لمعشوقته.
فلة: أتمنى أن يستخدم أريجي وعبقى في صناعة عطر جميل.
كادي: أتمنى أن أكون قبلة للنحل يوما، وأسهم في صناعة العسل ولو مرة واحدة.
ياسمين: حلمي بسيط، وهو أن أكون هدية لمريض يحتضر أواسيه في آخر أيامه.
جوري بسخرية: كئيبة كما عهدناك يا ياسمين.
هياء: أحلامكن غريبة.
كادي: لم غريبة؟.. أنت تحلمين بأن تصبحي زهرة مجففة.
هياء: هذا لم يكن حلمي قط.
فلة باستغراب: هل غيرت حلمك.
هياء: أخبرتك بأنه لم يكن حلمي كي أغيره.
جوري: ما حلمك إذا؟
هياء: أنا؟
ياسمين: نعم أنت.. ما حلمك؟
هياء بحزن: لا أعرف.. ربما بلقاء عرندس مرة أخرى.
كادي: عرندس؟ هل هذا نوع لا نعرفه من الزهور؟
هياء بارتباك: لا، لا.. إنسين الأمر.
فلة ما بك يا زنبق؟ لا تبدين على طبيعتك اليوم!
هياء وهي تحاول تغيير الموضوع: كيف علمتن بما حل بها؟
نحن هنا في وسط حقل شاسع ومحاطات بأعشاب طويلة، وبالكاد نرى الأفق.
كادي عمن تتحدثين؟
هياء: عن صديقتي بنفسج. كيف علمتن أنها حققت حلمها وأصبحت زهرة مجففة كما كانت ترغب؟
صمتت الزهور جميعا من كلام هياء، وكأنها قالت شيئا غريبا أو محرما لا يجوز الحديث عنه أو والخوض فيه، لكنها لم تأبه لصمتهن، وكررت سؤالها وقالت: لم سكتن؟. كيف عرفتن أنها حققت حلمها وتحولت لزهرة جافة؟
بعد صمت لم يدم طويلا تحدثت فلة وقالت: من أنت؟
هياء باستغراب يخالطه بعض التوتر: أنا؟ أنا صديقتكن زنبق.
جوري بنبرة توجس واستنكار: زنبق لا تتحدث بهذه الطريقة وتنكر أحلامنا وتكذبها.
هياء بتوتر: أنا لم أكذبكن، أنا فقط كنت أتساءل.
كدي بغضب: أنت لست زنبق: فهي لا تهدم الأحلام كما تفعلين. من أنت؟
هياء: الوهم لا يعتبر بناء للأحلام؟
ياسمين بغضب: أين زنبق؟
هياء بخوف: حسنا، حسنا. إنسين ما قلته للتو أنا آسفة.
لم يرد أحد منهن على هياء ودخل في حالة من الصمت.
بعد مضى فترة من الهدوء حاولت هياء التحدث مع بقية الزهور، لكنهن لم يرددن عليها، ولم يحرك أحد منهن ساكنا. غابت الشمس وعم المكان هدوء أضيف لهدوء وصمت الزهور، ولم يكن يسمع في الجوار سوى صرير سيقان بعض الجنادب، بدأت هياء تشعر بالخوف من المكان الذي كانت فيهن خاصة بعدما تركت ما تركت أفكارها وهواجسها وحدها دون مؤنس يتحدث معها. أحست بعد ساعات من التفكير وحدها بالنعاس، وبالرغم من أنها لم تكن تستشعر عينيها، فإنها وقعت في سبات عميق واستيقظت صباحا على صوت حديث وحوار يدور بالقرب منها. ظنت في بادئ الأمر أن الزهور عدن للحديث معها، لكنها رأتهن على حالهن ولم يكن ذلك الحديث الذي تسمعه صادراً من أي أحد منهن، بل كان يأتي من فوقها. لم تستطع هياء رؤية المتحدثين، لكنها كانت تسمع الحوار بشكل واضح وقد كان بين فتاة وشاب.
الشاب: هل قررت أيا من تلك الزهور تريدين؟
الفتاة: لا أعرف فكلها جميلة.
الشاب: قرري بسرعة، يجب أن نعود للكوخ، فالأغنام قد شربت كفايتها من النهر.
الفتاة: سآخذها جميعا ما عدا تلك الزنبقة وأصنع منها باقة جميلة.
الشاب باستغراب: ولم استثنيت تلك الزنبقة بالذات؟
الفتاة: لا أعرف.. لا أرها جميلة كالبقية.
خلال إنصات هياء لذلك الحوار انتابها شعور غريب بأنها تعرفهما، وأنها سمعت صوت الشاب بالذات من قبل، لكنها لم تستطع التذكر بالكامل، وخلال محاولتها التذكر شاهدت يد الشاب الضخمة وهي تقترب منها وتبدأ بقطف الزهور أمامها، واحدة تلو الأخرى، حتى لم يتبق منها واحة، ورحل مع تلك الفتاة التي كانت معه. أحست هياء بوحشة قابضة عندما خلا المكان من بقية الزهور. كان الوقت لا يزال نهارا، لكن ذلك لم يمنع مشاعر الخوف والوحدة من أن تحاصرها، وتتمكن منها. بدأ نور السماء بالخفتان، وهو الأمر الذي استغربته هياء، فحاولت رفع نظرها للأعلى، فرأت أن الغيوم بدأت بالتجمع لتغطي السماء بالكامل وتحجب معها الشمس وراءها. بعد دقائق قليلة من هيمنة الغيوم ومضت السماء وبدأ البرق يتراقص، لخفه طرق الرعد المزلزل، تبعه هطول قوي للأمطار. أحست هياء بانتعاش شديد مع كل قطرة نزلت على بتلاتها. كان إحساسا مختلفا لم ت جربه من قبل، وكأن روحا جديدة تبث فيها. أحست هياء بأمر غريب يحدث لها خلال نزول المطر، وهو أنها لم تعد مربوطة بالأرض، وأنها تستطيع الارتفاع فوق مستوى الأعشاب حولها، وبعد بعض المحاولات بدأت ترتفع أكثر وأكثر مبتعدة عن الأرض وهي ترى الزنبقة أسفل منها. عندما وصلت لكبد السماء لم تكن ترى جسدها، لكنها كانت ترى حولها بوضوح وكأن روحها خرجت، وبدأت بالتجول بحرية، بإيماءة بسيطة للأمام استطاعت التقدم وبدأت تحلق، وكأنها طير يفترش بجناحيه السماء. وبعد تحليق بسيط رأت أسفل منها قطيعا من الأغنام تسير خلفه فتاة وشاب، فنزلت محاولة الاقتراب منهما، ومع اقترابها رأت الأزهار التي كانوا بصحبتها في قبضة الفتاة. استمرت هياء بالتحليق نزولا نحو الفتاة التي لم يكن وجهها ظاهر إلا لها، وكانت غايتها هي بلوغ الزهور في قبضتها، وقبل أن تصل إليهن توقف المطر، لتجد نفسها تصحو في مكانها وقطرات الندى تقطر من بتلاتها وأشعة الشمس تداعبها مع تفرق الغيوم. كانت هياء في ذلك الوقت تحس بمشاعر متضاربة منعتها من التفكير بشكل سليم. كانت في حالة من الانتشاء الغريب بددت أي ذاكرة كانت تحملها من حياتها السابقة.
مضت الأيام وقضتها بصمت وسكون بين مداعبات الرياح، ودغدغة بعض الفراشات من وقت لآخر. كانت حياتها هادئة جدا أوصلتها لمرحلة من السكينة والاندماج الروحي الذي لم تشهده من قبل. لم تكن تشعر بملل أو ضجر من تلك الحياة الرتيبة، بل كانت سعيدة جدا. تعكر صفو تلك الحياة عندما أحست بألم حاد في ساقها أيقظها من سباتها في إحدى الليالي، لترى نفسها ترتفع بعيداً عن الأرض وتستقر أمام وجه شاب يحدق بها بوجه حزين. زال الألم الذي كانت تحس به في ساقها، لكن حل محله ألم آخر عندما تعرفت إلى وجه ذلك الشاب الذي كان يمعن النظر إليها. كان عرندس هو الشاب الذي يحدق بها، وكان في العمر نفسه الذي التقت به أول مرة. حاولت الحديث معه، لكن صوتها لم يكن مسموعا له، وبعد محاولات فاشلة لإيصال صوتها المشتاق لمسامعه، رفع يده و نزع إحدى بتلاتها وهو يقول: تحبني.
صرخت هياء عندما نزع عرندس بتلتها لأنها أحست بألم شديد وكأن إحدى أذرعها قد انتزعت.
مد عرندس يده مرة أخرى ونزع بتلة أخرى وهو يقول: لا تحبني.
كان الألم لا يحتمل وهياء تصرخ وتستنجد وتستجدي عرندس بالتوقف عما يقوم به، لكن استمر في نزع بقية البتلات وهو يقول مع كل بتلة ينتزعها: تحبني.. لا تحبني.
انتزع عرندس البتلة الأخيرة وهو يبتسم ويقول تحبني، ورمى ما تبقى من الزنبقة وعاد من حيث أتى تاركا هياء على الأرض تتلوى وتئن من الألم، وهي تقول، ألمي كان ثمنا زهيداً لرؤية تلك الابتسامة مرة أخرى.
برقت السماء وأرعدت، وهطل المطر بغزارة على تلك الزهرة المقطعة، لتجد هياء نفسها ترتفع وتحلق عن الأرض بهدوء، لكنها لم تقو على التحرك أو التقدم في أي اتجاه، لأن الألم الذي أحست به سابقا لا يزال مسيطراً عليها، فاستمرت بالارتفاع للأعلى حتى سمعت برقا قويا تبعه ضوء قوي وهج في وجهها، لتجد نفسها واقفة مرة أخرى في غرفة المعيشة بمنزل أمين، وهي ممسكة بالكتاب الصغير في يدها وحليمة تقتحم المكان مع مجموعة من الحراس وتصرخ قائلة: أمسكوا بذلك الرجل!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا