كأس من الدموع
فتحت هياء الكتاب، وبمجرد أن فتحته ومض في وجهها وهج ضوء قوى انقشع خلال ثوان لترى نفسها وسط حقل كبير امتلأ بسنابل القمح التي كانت تتمايل وتتراقص مع الريح والشمس ساطعة فوقها، يحيط بها مجموعة من الغيوم العائمة في سماء زرقاء كالبحر. صرخت هياء بقوة عندما وجدت نفسها في ذلك المكان، وخلال صراخها سمعت صوتا خلفها يناديها بقلق ويقول: ما بك يا أمل؟!
التفتت هياء إلى مصدر الصوت وهي مرعوبة، ورأت شابا يجري تجاهها ففزعت وبدأت تجري في الاتجاه المعاكس مبتعدة عنه لاحظت خلال جريها أن جسدها كان مخ تلفا. كانت أطول قامة، وكان لباسها مختلفا عما كانت تلبسه، لكنها لم تفكر بالأمر كثيراً وبقيت تجري بسرعة، وذلك الشاب يجري خلفها وينادي عليها. استمرت هياء بالجري حتى تمكن ذلك الشاب من اللحاق بها والقفز عليها، وطرحها أرضا، فبدأت تصارعه محاولة التفلت منه وهو يصرخ فيها ويقول: ما بك؟! ما الذي حدث؟!
هياء وهي تصرخ في الشاب وتحاول التفت منه: ابتعد عني!
أفلت الشاب قبضته ونهض وهو يراقب هياء بتعجب ويقول: ما بك يا أمل؟ هل رأيت شيئاً أفزعك؟
هياء وهي تقف وتقول بعصبية تخالطها الدموع: ابتعد عني1
الشاب وهو يرفع كفيه أمام هياء ويقول بهدوء: حسنا.. حسنا.. اهدئي يا أمل.
هياء وهي تصرخ بالشاب: أنا لست أمل أيها الأحمق! أين أنا؟!
الشاب بتعجب: ما بك يا أمل؟
هياء بغضب: لا تناديني بهذا الاسم!
جئت هياء على ركبتيها بين سنابل القمح الطويلة وبدأت بالبكاء بحرقة.
عندما رأى الشاب الحالة التي كانت هياء عليها، أخذ بضع خطوات للوراء وقال بقلق: سوف أنادي على فردوس كي تأتي إليك.
جرى الشاب مبتعداً عن هياء، وخلال ابتعاده أحست بالدوار في رأسها وسقطت على الأرض مغشيا عليها. فتحت هياء عينيها لترى سقفا من الأعمدة الخشبية، وسمعت صوت لظى لنار تشتعل بالقرب منها. حركت رأسها ورأت أنها في كوخ صغير والنار التي كانت تشتعل كانت مدفأة تتوسطها قدر حديدية تصاعدت منها بعض الأبخرة، ورأت أنها كانت مغطاة بفراء يشبه فراء الخراف. رأت أيضاً أن جدران ذلك الكوخ علقت عليه بعض الأدوات البدائية كالمناشير والمطارق، ودلو مربوطة بحبل ملفوف. خلال تحديقها وتفحصها للمكان فتح الباب ودخلت فتاة في العشرين من عمرها تقريبا، وعندما رأت أن هياء قد استيقظت تقدمت نحوها بابتسامة عريضة وسحبت كرسيا خشبيا صغيراً بلا ظهر، وجلست أمام هياء المستلقية ووضعت كفها على جبينها وقالت:
حمداً لله على سلامتك يا أمل، لقد قلقنا عليك كثيراً!
لم ترد هياء على الفتاة، وبقيت تحدق بها بتوتر شديد.
فردوس وهي تبتسم وتسحب إناء من تحت السرير الخشبي الذي كانت هياء مستلقيه عليه، لقد أفزعني عرندس كثيراً.
هياء تنظر باستغراب لحديث الفتاة.
فردوس وهي تخرج قماشة من الإناء وتعصرها وتضعها على جبين هياء وتضحك: لقد وبخه أبي كثيراً بسبب ما حدث لك.
هياء بصوت متوجس: من أنت؟
فردوس وهي تضحك: أنا التي خلصت حبيبك من سخط أبي.
هياء باستغراب: حبيبي؟
فردوس: نعم.. وهو يقف بالخارج يريد الاطمئنان عليك.
هياء: أين أنا؟
فردوس وهي تنهض وتتوجه نحو الباب: أنادي عليه، فهو الوحيد الذي يستطيع رسم الابتسامة على وجهك.
فتحت الفتاة الباب وأشارت لأحدهم بالدخول، ,بعد ثوان دخل الشاب الذي شاهدته هياء في حقل القمح قبل أن يغمى عليها، وهو يتقدم لداخل الكوخ و على وجهه قلق شديد، وبمجرد رؤيته لـ هياء اندفع نحوها وجلس أمامها وهو يقول بتوتر: هل أنت بخير يا أمل؟.. ما الذي حدث لك اليوم؟!
لم ترد هياء عليه، وبقيت تحدق به بخوف وقلق.
الفتاة وهي تبتسم وتهم بالخروج: سأترككما وحدكما.
هياء بصوت مرتفع: لا!.. لا تتركيني وحدي معه!
فردوس باستغراب: هذه أول مرة تطلبين مني ذلك.. في العادة توبخيني إذا بقيت معكما! هياء وهي تجلس وتسند ظهرها للجدار خلف السرير، وتسحب الفراء إلى عنقها وتحدق بالشاب بتوجس وريبة: أرجوك، لا تتركيني وحدي معه!
التفت الشاب إلى الفتاة وقال بتعجب شديد: ما بها؟
فردوس وهي تتوجه نحو الشاب، وتضع يدها على كتفه وتقول مبتسمة: ارحل الآن يا عرندس، ولا تقلق، فهي لا تزال متعبة مما حدث.
عرندس وعلامات التعجب والاستغراب تتفجر من عينيه: وما الذي حدث تحديداً يا فردوس؟
فردوس وهي تشد ذراع الشاب وتضحك: أخرج الآن وسنتحدث لاحقا.
خرج الشاب من الكوخ وهو في حالة تعجب شديد، وبعدما أغلقت الفتاة الباب خلفه توجهت نحو هياء، وجلست عند طرف السرير وقالت لها: ما بك يا أمل؟.. لم صددت عرندس هكذا؟
هياء بعصبية: عرندس من؟!.. ومن أنت؟!
فردوس بنظرة تعجب: أنا أختك فردوس يا أمل.
هياء: أمل من؟!.. أنا لست أمل!
فردوس بنظرة قلق: من أنت إذا؟
هياء: أنا.. أنا..
فردوس: نعم؟.. أنت من؟
هياء وهي تضع يدها على رأسها، وتزيل قطعة القماش المبللة: لا أذكر.
فردوس وهي تبتسم وتقبل جبين هياء: أنت أمل أختي الصغرى، التي تجلب لنا المشاكل دائما.
هياء بتوتر: لا، لا.. أنا متأكدة أني لست من تقولين.. أنا شخص آخر!
فردوس وهي تبتسم وتضع خدها على كفها وتحدق بـ هياء: هيا أخبريني من أنت إذا؟
هياء وهي تغطي وجهها وتبدأ بالبكاء: لا أعرف!.. لكني متأكدة أن هذه ليست حياتي!
فردوس مبتسمة: هل هذه حيلتك للتملص من زواجك يا عرندس؟
هياء وهي مصدومة وبصوت مرتفع: زواج؟!.. أي زواج؟!.. أنا مازلت صغيرة!
فردوس وهي تضحك: صغيرة؟!.. لقد أتممت السابعة عشرة قبل شهر.
هياء باستغراب: أنا في الثانية عشرة من عمري.
ضحكت فردوس بقوة ونهضت من أمام هياء، وهي تقول: يبدو أنك استعدت عافيتك وعادت إليك روح دعابتك التي نعهدها.
هياء بتوتر: لا، لا.. أنا أقول الحقيقة!
فردوس وهي تفتح الباب وتهم بالخروج ضاحكة: لقد حصلت على إجازة من العمل في الحقل اليوم، لكن غدا يجب أن تعودي للعمل معنا، فهذا موسم الحصاد وأبي يحتاجنا جميعا.
هياء وهي تراقب الباب يغلق بعد خروج فردوس: أي عمل وأي حقل؟.. ما الذي يحدث لي؟
بدأت هياء تحاول استرجاع ذاكرتها، لكنها لم تستطع تذكر سوى أنها لا تعرف شيئاً عن هذا المكان، وأنها كانت تعيش حياة أخرى في مكان آخر، وأن جسمها وعمرها لم يكونا كما هما الآن، وخلال تفكيرها قررت النهوض والخروج من الكوخ لإحساسها بالضيق و الاختناق من التفكير بالأمر، فتحت الباب ورأت منظراً جميلا جداً أمامها. رأت مروجا خضراء على امتداد بصرها تخللها حقول مختلفة من الزهور، وسنابل القمح الذهبية، ورأت كذلك جبالا ثلجية شاهقة في الأفق بالرغم من أن الشمس كانت ساطعة وأشعتها الدافئة كانت تداعب وجنتيها. بدأت هياء بأخذ أنفاس عميقة من النسمات التي هبت ناحيتها، وأغمضت عينيها وهي تحاول أن تستوعب ذلك الكم الهائل من الجمال.
حتى بعد إغماض عينيها كانت لا تزال تحس بتلك الجنة من حولها من خلال نسمات الهواء الباردة المعرة برائحة العشب الغضب، وأشعة الشمس الذهبية التي احتضنتها. انقطع ذلك الاندماج بالطبيعة الخلابة عندما سمعت نباح كلب بالقرب منها تصاحبه أصوات لبعض الأجراس، ففتحت عينيها لتشاهد قطيعا من الماشية يسير أمامها، وكلبا صغيراً بفراء أبيض يجري وينبح حولها وخلف القطيع، كان ذلك الشاب الذي رأته سابقا يسير ويوجهها بعصا خشبية طويلة بيد، وباليد الأخرى لوح لـ هياء بخجل. هذه المرة لم تجزع هياء منه، لأن الجمال الذي كان يحيط به وبها أوقع في نفسها بعض الهدوء والسكينة، فابتسمت له ابتسامة صغيرة ولوحت له بخفة وبسرعة. غمرت السعادة الشاب عندما رأى هياء وهي تبتسم وتلوح له، فنادى عليها وقال: ألن تذهبي معي؟!
هياء بصوت خفيض: أين سنذهب؟
عرندس بصوت عال: ماذا؟!.. ماذا تقولين؟!
هياء وهي ترفع صوتها: أين سنذهب؟!
عرندس مبتسما وبصوت عال: حيث نذهب كل يوم!
لضفاف النهر كي نسقي الماشية!
مشت هياء بخطوات متسارعة نحو القطيع، وبدأت تسير بجانبها وهي تلمس بيدها فراء الخراف الناعم والكلب الصغير يحوم ويقفز حولها وكأنه يريد منها شيئاً.
عرندس من مؤخرة القطيع ضاحكا: إنه يريد عناقك الذي اعتاد عليه كل يوم!
هياء وهي تلتفت خلفها إلى عرندس مبتسمة: لكني لم أره من قبل!
عرندس ضاحكا: ألا تزالين مصرة على أنك لا تعرفيننا؟!
هياء تحدث نفسها وهي تعيد نظرها نحو الكلب الصغير فاتحة ذراعيها ودمعة صغيرة تخرج من محجرها نزولا على خدها: أنا لم أعد أعرف نفسي.
قفز الكلب الصغير بين ذراعي هياء، وبدأ يلعق وجهها وهي تضحك.
بعد مسيرة أقل من ساعة وصل الجميع لنهر جار جميل محاط بالخضرة وبعض أشجار التفاح المثمرة. اندفع قطيع الخراف نحو ضفاف النهر وبدأ بالشرب من مائه العذب، وهياء تراقب ذلك المشهد الخلاب وهي منتشية بجماله. اقترب عرندس منها ووقف بجانبها يشاركها مشاهدة المنظر لفترة وجيزة، ثم قال مبتسما: يوما ما سنأتي هنا مع أطفالنا.
تغيرت ملامح هياء وقالت: أطفالنا؟!
عرندس وهو لا يزال يراقب المشهد: نعم أطفالنا.
هياء بتجهم بسيط: أنا لن أتزوجك.
عرندس وهو يلتفت إليها باستغراب: ماذا؟.. لكن زواجنا خلال أيام.
هياء: لقد التقيت بك للتو، فكيف تتوقع مني أن أتزوجك وأنا لا أعرفك؟!
عرندس بتعجب شديد: التقيت بي للتو؟! هل جننت يا أمل؟!
هياء وهي تصرخ في الشاب: أنا لست هذه الأمل!
عرندس يمسك راعها ويشدها: ما بك؟!.. إذا كنت قد غيرت رأيك، فلا داعي لهذه التمثيلية السخيفة1
سحبت هياء ذراعها من قبضة عرندس وجرت نحو النهر، وجثت عند ضفافه وبدأت تبكي.
وقف الشاب خلفها يراقبها بتعجب، ثم حرك عصاه ليشير للكلب الصغير بتحريك قطيع الخراف للعودة أوراها وهو يقول لـ هياء: هيا سنعود.
لم ترد هياء عليه وبقيت تبكي عند ضفاف النهر.
لم يصر عرندس عليها لمرافقته، وسار مع قطيعه عائدا من حيث أتى.
خلال بكاء هياء انتبهت لزهرة بنفسجية كانت الوحيدة عند ضفاف الهر، فاقتربت منها وتمعنت بها وأحست بشعور غريب. أحست بأنها رأت تلك الزهرة من قبل، ودفعها ذلك الإحساس للانحناء واستنشاق عبيرها. خلال استنشاق هياء لعبير الزهرة البنفسجية رأت انعكاس وجهها في الماء. رأت فتاة بيضاء البشرة كالثلج بجدائل صفراء كالشمس، وعينين زرقاوين كالسماء. لم تعرف نفسها وقالت وهي مهمومة: من أنت؟ ومن أنا؟
أمضت هياء ساعات عند ضفاف النهر تفكر، ولم تعد للكوخ حتى بدأت الشمس بالمغيب، وقبل أن يختفي قرصها المحمر من الأفق سمعت صوتا يناديها من خلفها، فالتفتت لترى رجلا بشارب ولحية طويلة يقترب منها. نهضت هياء من مكانها بقلق وبدأت تراقب ذلك الرجل المقترب منها بخطوات متسارعة حتى وصل إليها وقال: ما الأمر يا أمل؟.. لم أنت هنا وحدك؟
هياء بتوجس: من أنت؟
الرجل باستغراب: من أنا؟
هياء: نعم، من أنت؟
الرجل: يبدو أن حالتك أسوأ مما كنا نظن.
هياء: ماذا تقصد؟
الرجل: أنا أبوك يا أمل.. ألا تذكريني؟
9
هياء بعصبية: لا!.. لا أذكرك.!.. ولا أذكر شيئاً من هذا المكان أو هذه الحياة!
الرجل وهو يتقدم نحوها محاولا عناقها لا بأس.. هيا لنعد للمنزل.
هياء وهي تبتعد بخطوات للوراء عن الرجل: ابتعد عني!
وقف الرجل مصدوما من تصرفها، وبعد صمت وتحديق لم يدوما طويلا قال: ما الذي تريدينه؟ ما الذي يرضيك؟
هياء تدمع وتصرخ بقوة: لا أعرف!
الرجل بهدوء: هل يمكننا الحديث على الأقل؟
هياء تلتف بسرعة وتمسح دموعها بظهر يدها: نتحدث عن ماذا؟
الرجل يقترب منها بحذر: مجرد حديث.. لا يهم الموضوع.
هياء وهي تنظر للأرض بحزن: أنت لا تعرف بما أشعر به الآن.
الرجل وهو يعانق هياء ويضم رأسها لصدره: إذا لم أشعر أنا بك فمن سيشعر؟
بدأت هياء بالبكاء كالطفل على صدر ذلك الرجل، وبعد دقائق من البكاء المستمر أجلسها على الأرض وجلس بجانبها وقال: إذا كنت لا ترغبين في الزواج بـ عرندس، فلا بأس. لست مجبرة على ذلك.
هياء وهي تبتسم وتدمع وتحدق بالنهر أمامها: لقد سئمت من محاولة شرح مشاعري.
الرجل: أنا منصت.. قولي كل ما تريدين قوله.
هياء: لن تفهمني.
الرجل: لا بأس.. تكلمي يا أمل.
هياء تبتسم بحسرة.
الرجل بوجه قلق: ما بك؟
هياء وهي تلتفت إلى الرجل مبتسمة وعيناها حمراوان وغارقتان بالدموع: لا شيء يا أبي.. لا شيء.
الرجل وهو يبتسم ابتسامة عريضة ويعانقها عناقا قويا: الحمد لله على سلامتك. لقد استعدت ذاكرتك!
بادلت هياء الرجل عناقه بالرغم من أنها لم تتذكر شيئاً، لكنها قررت تقبل حياتها الجديدة وتقبل فكرة أنها فقدت ذاكرتها فعلا، وأن هواجسها بأنها شخص آخر لم تكن سوى أوهام صدقتها. بعد أقل من أسبوع تزوجت هياء بـ عرندس، وبالرغم من أنها لم تكن له أي مشاعر قبل الزواج، إلا أنها أحبته مع مرور الوقت خاصة بعد ما أنجبت مولودها الأول، ورأت عنايته بها وخوفه عليها خلال حملها وحبه لها الذي كان يعبر عنه في كل فرصة تتاح له. عاشت هياء سنوات طويلة مع زوجها وأطفالها الذين بلغوا ثلاثة صبية وأربع بنات زوجتهم في الرعي والفلاحة في مزرعة أبيها التي ورثتها مع أختها بعد وفاته. كدت لسنوات طويلة ولم تر غير أسرتها الكبيرة في تلك الحياة، فقد كانوا مكتفين بأنفسهم ويعيشون حياة سعيدة. عندما بلغت هياء الثمانين من العمر كانت قد رأت الكثير من أحفادها وزوجت بعضهم، ولم تتعكر تلك السعادة إلا عندما أصيب زوجها الذي ناهز التسعين من عمره وقتها بمرض عضال لم يتعاف منه، وتهاوت صحته بسببه سريعا، وفي اليوم الذي ساءت فيه صحته بشكل كبير وأحست هياء أنه سيفارق الحياة طلبت من أبنائها وأحفادها الخروج من المنزل، وتركها مع زوجها في لحظاته الأخيرة.
هياء مبتسمة وهي جالسة عند فراش ز وجها: إلى أين تنوي الذهاب يا عرندس؟
عرندس وهو مستلق على فراشه: رحلة يجب أن نسير إليها جميعا.
هياء وهي تمسك بيد زوجها: خذني معك.
عرندس يضع يده على يد زوجته مبتسما: وهل ستتركين أبناءك و بناتك؟
هياء وهي تدفع: لا قيمة لهم بدونك.
عرندس وهو يسعل ويضحك: هل تذكرين عندما ادعيت فقدان الذاكرة لتتهربي من الزواج بي؟1
هياء وهي تبتسم وتدمع: كنت حمقاء. لم أعرف أنك ستكون أجمل شيء في حياتي
عرندس وهو يمسح على رأس هياء: أنت من كنت النور والبهجة في حياتي، وشمسها التي لم تغب يوما.
هياء تدمع وتشد عل يد عرندس: لا تتركني إذا؟
عرندس وهو يغمض عينيه: لا تتأخري أنت.
لفظ عرندس نفسه الأخير تاركا هياء محدقة بوجهه وهي تدمع بصمت.
بعد موت عرندس ودفنه في فناء المنزل بجوار قبر فردوس ووالدها، أمرت هياء أبناءها بحفر قبر رابع لها، فتعجبوا من طلبها وبدؤوا يدعن لها بالعمر المديد، فقالت لهم: هل تظنون أن جسدي سيقاوم روحي الراغبة في الرحيل؟!
إحدى بناتها: ماذا تقصدين يا أمي؟
هياء وهي جالسة عند قبر زوجها: عندما تشتاق الأرواح تذوب الأجساد.
بعد هذه الجملة، أنزلت هياء رأسها وأغمضت عينيها، لكنها لم تر ظلمة، بل رأت نوراً قويا ووميضا مبهراً استمر ثواني قبل أن ينقطع، لتجد نفسها في مكتبة كبيرة وهي ممسكة بكتاب في يدها، وأمامها رجل بلحية بيضاء يجلس على كنبة جلدية وخلفه ساعة كبيرة تشير للتاسعة وخمس دقائق. نظر الرجل إليها مبتسما وقال:
هل استمتعت بالكتاب يا هياء؟
رمت هياء الكتاب، وصرخت صرخة قوية دوى منها المكان. وضعت يديها على رأسها وجثت على ركبتيها واستمرت بالصراخ حتى أغمى معليها.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا