مملكة الجمال
سار أمين وهياء من خلفه حتى توقف أمام باب خشبي مغلق بمزلاج حديدي يعتليه قفل نحاسي كبير، وقال: هذا هو باب السرداب.
هياء: السرداب المؤدي لمكتبك؟
أمين وهو يخرج سلسلة من المفاتيح من جيبه: نعم.
هياء وهي تنظر لسلسلة المفاتيح: مل كل هذه المفاتيح؟
أمين يدخل أحد المفاتيح في القفل النحاسي ويديره بصمت.
فتح الباب وأصدر صريراً حاداً خلال فتحه ليكشف خلفه ظلاما دامسا، فقالت هياء بقلق: كيف سننزل في هذه الظلمة؟
أمين وهو يأخذ بضع خطوات للأمام: انتظري هنا.
دخل الرجل المسن وبدأت هياء تسمع خطواته وهو ينزل للأسفل حتى تضاءلت أصوات خطواته واختفت بقيت هياء عند طرف باب السرداب تحاول أن ترى شيئاً من خلال ذلك الظلام الحالك، لكنها لم تستطع أن ترى شيئاً. بعد دقائق قليلة من الوقوف عند مدخل السرداب، رأت نوراً مشعا يأتي من الأسفل أنار لها ما كان أمامها وهو سلم خبي يقود للأسفل. سمعت بعدها صوت أمين وهو ينادي عليها ويقول: يمكنك النزل الآن!
ترددت هياء، لأن التوتر والقلق تسللا لصدرها فجأة، لكنها استجمعت شجاعتها وبدأت بالنزول. بعد بضع خطوات رأت هياء الرجل المسن وهو يتوسط مكانا مناراً بمجموعة من الشموع، وكانت جدران ذلك المكان عبارة عن رفوف كبيرة وممتدة للسقف، ومملوءة بالكتب بكافة الأحجام والألوان، ورأت كذلك سلما مستنداً إلى أحد تلك الرفوف، ومن الواضح أنه كان يستخدم للوصول إلى الرفوف العالية. وتتوسط المكان كنبة بنية اللون مصنوعة من الجلد جلس عليها أمين مبتسما، وخلفه ساعة مستديرة كبيرة مدفونة في أحد الرفوف. عندما وصلت هياء للسلمة الأخيرة أخذت بضع خطوات داخل المكان وهي تنظر حولها بانبهار وتقول: هل هذه هي مكتبك؟
أمين مبتسما: نعم.
هياء وهي تمسح بسبابتها على أحد الرفوف: متى كانت آخر مرة قمت بتنظيفها؟
أمين وهو يضحك: لا أجد وقتا لذلك.
هياء وهي تسير ببطء وتتمعن بنظرها للرفوف، وتمسح بيدها على كعوب الكتب المصفوفة فيها: هناك شيء جذاب في مكتبتك.
أمين: اختاري كتاب منها.
هياء وهي تلتفت إلى أمين مبتسمة: أخبرتك بأني لا أحب القراءة.
أمين: كيف تمقتين شيئاً لم تجربيه من قبل؟
هياء وهي تكمل السير بجانب الرفوف وتحدق بالكتب: كتب المدرسة كانت كافية كي أعرف أني لا أحب القراءة.
أمين: القراءة أمر مختلف عن المذاكرة.
هياء وهي تسحب كتابا أحمر بأطراف مذهبة وتحدق به: كلاهما ممل.
أمين: لن أجبرك إذا كنت متيقنة من ذلك.
أعادت هياء الكتاب الأحمر ذا الأطراف المذهبة للرف، ثم رفعت سبابتها وبدأت تشير للكتب واحداً واحداً.
أمين: ماذا تفعلين؟
هياء ونظرها منصب على الرفوف: أحاول عد الكتب.
أمين وهو يبتسم: 5454 كتابا!
هياء وهي تنزل سبابتها وتنظر للرفوف بانبهار: يا الله.. عددها كبير جداً.
أمين وهو ينهض من الكنبة: هيا لنرحل كي لا تتأخري عن العودة.
هياء وهي تلتفت إلى أمين: أريد واحداً.
أمين باستغراب: تريدين ماذا؟
هياء: أريد كتابا.
أمين وهو يجلس مرة أخرى على الكنبة الجلدية: كنت أظن أنك لا تحبين القراءة.
هياء وهي توجه نظرها لرفوف الكتب: ولا أزال لا أحبها.
أمين: لم تريدين كتابا إذا؟
هياء وهي سارحة في الرفوف الشاهقة: لا أعرف.. أريد تصفح أحدها فقط.
أمين مبتسما: أعرف كتابا سيروق لك.
هياء وهي تلتفت إلى أمين: لا أريد أن أقرأه. أريد تصفحه فقط.
أمين وهو ينهض من الكنبة ويتوجه لرف خلفه: الأمر لن يستدعي منك سوى تصفح بسيط.
هياء باستغراب: ماذا تقصد؟
أمين وهو يبحث بنظره بين الكتب: كم عمرك يا هياء؟
هياء: اثنتا عشرة سنة وسبعة أشهر وخمسة أيام.
أمين وهو يضحك ويسحب كتابا أزرق بنقوش سوداء: يبدو أنك تعدين الأيام حتى تكبري.
هياء: أريد أن أكبر بسرعة كي أتحرر من قيد أبي.
أمين هو يعيد الكتاب الأزرق ويسحب كتابا آخر أخضر اللون بالنقوش هل تظنين أن الحياة بدون ستكون أجمل؟
هياء: لن تكون أسوأ بالتأكيد، لكنه بلا شك لن يفتقدني.
أمين وهو يمد الكتاب الأخضر ل هياء: خذي هذا الكتاب.
هياء وهي تأخذ الكتاب الأخضر من يد أمين: هل جميع كتبك هنا قصص وروايات، أو أن بينها كتبا علمية؟
أمين: مع أنك لا تحبين القراءة فأنت ملمة بأنواع الكتب.
هياء: وهي تنظر للكتاب الأخضر: الروايات تافهة ولا فائدة منها، كلها خيال. الكتب العلمية على الأقل تملك بعض الفائدة.
أمين: العلم الثابت ما هو إلا خيال أصابه الجمود.
هياء: ماذا تقصد؟
أمين وهو يقترب برأسه من هياء ويحدق بعينيها مبتسما: لا يوجد كتب مملة هنا، لا تقلقي.
وجهت هياء نظرها لعنوان الكتاب الذي بين يديها وقد كان مكتوبا بلون فضي لامع وقرأته: حقول القمح.. عنوان غريب.
أمين: كتاب جميل. عشت معه حياة أخرى..
هياء: هل هو كتاب عن صناعة الخبز؟
أمين وهو يبتسم: لا.
هياء تقلب الكتاب: أين اسم المؤلف؟
أمين يرفع نظره ويحدق بالرفوف: لا يوجد كتاب باسم مؤلف.
هياء باستغراب: ماذا تقصد؟.. كيف لا يكون لها مؤلفون؟
من كتبها إذا؟
أمين: لا تهتمي بمن كتب الكتاب بقدر اهتمامك بمحتواه، وأنا أضمن لك أن محتوى كل كتاب من هذه الكتب لم ترى مثله من قبل قط!
هياء: تقصد لم أقرأ مثله من قبل.
أمين: قصدت ما قلت.. وتذكري ألا تفتحي الكتاب إلا إذا كنت عاقدة العزم على قراءته.
هياء بسخرية: لماذا؟.. هل ستعاقبني إذا لم أقرأه بالكامل؟
أمين: لا لكنك لن تخرجي منه قبل أن تنهيه.
هياء مبتسمة: سوف أتصفحه فقط وأعيده لك.. أخبرتك بأني لا أحب القراءة!
أمين وهو يجلس على الكنبة الجلدية: هيا تصفحيه.
هياء وهي تنظر للساعة الكبيرة خلف الكنبة: إنها الآن التاسعة وأربع دقائق، ولا أملك وقتا كافيا، ولا أريد أن أتأخر في العودة.. هل يمكنني أن أستعيره وأتصفحه في المنزل؟
أمين: لا، فالكتب هذه لا تخرج من هنا أبداً.
هياء: لا تقلق.. لن أسرقه!
أمين مبتسما: الكتب تسرق ولا تسرق.
هياء تنظر ل أمين باستغراب.
أمين: هياء افتحي الكتاب كي لا تتأخري في العودة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا