من رواية وهج البنفسج الجزء الأول 1 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-07-06

النافذة الصغيرة 

في منطقة سكنية متواضعة وقف الأهالي يراقبون تسوير مجموعة من المنازل المجاورة لهم باعها أصحابها مؤخراً بمبالغ طائلة تفوق قيمتها التي تستحق، والبدء بهدمها بجرافات عملت بلا انقطاع حتى حولت تلك البيوت لأراض خالية، بعد ذلك بأيام انقلبت تلك المنطقة المسورة لورشة عمل وبناء كبيرة.

كانت الأحاديث الجانبية التي تدور بين سكان الحي ترجح قيام مجمع تجاري أو سكني كبير في تلك البيوت لأراض خالية. بعد ذلك بأيام انقلبت تلك المنطقة المسورة لورشة عمل وبناء كبيرة.

كانت الأحاديث الجانبية التي تدور بين سكان الحي ترجح قيام مجمع تجاري أو سكني كبير في تلك الرقعة الشاسعة، لكن مع مرور الأيام اتضحت معالم ما كان يبني على تلك الأرض، وهو قصر كبير وفخم بتصميم هندسي لافت، وباحة يمكنها ضم عدة بيوت. انتهى تشييد ذلك القصر الفخم خلال أشهر قليلة، لأن العمل على إقامته لم ينقطع ليلا أو نهاراً.

كان أهالي تلك المنطقة يتابعون تطورات البناء يوميا خلال ذهابهم وإيابهم من أعمالهم، وكان بعضهم متحمسا لمعرفة من هم الجيران الجدد، ولم اختاروا الإقامة في حبهم المتواضع، فالأحياء التي يقيم فيها الأثرياء معروفة، وحيهم لم يكن من تلك المناطق المحسوبة على الطبقات المخملية، حتى إن الحي الذي أقيم فيه القصر لم تكن جميع الخدمات البلدية قد وصلت إليه بعد، لكن خلال البناء قامت البلدية بإيصال جميع تلك الخدمات في وقت قياسي، مما عاد بالفائدة على أهالي الحي وبعض الأحياء المجاورة للقصر.

علم الناس بانتهاء أعمال البناء والتشطيب لذلك القصر عندما بدأت أنوار سوره العظيم تشع ليلا وتنير الشوارع المحيطة به، وكذلك عندما بدؤوا يلاحظون شاحنات نقل الأثاث وهي تدخل من بوابة القصر الكبير على مدى خمسة أيام.

تعرف أهالي الحي بعد أشهر طويلة من مراقبة تشييد القصر إلى الأسرة التي ستقطن فيه بعدما دخلت حيهم سيارتان فارهتان تتوسطهما سيارة ثالثة أكثر فخامة وأكبر حجما.

 توقفت السيارات الثلاث عند بوابة القصر، وبدأ بعض أهالي الحي يتجمعون على بعد منها دون الاقتراب في رغبة منهم لإلقاء نظرة على جيرانهم الجدد. ترجل من السيارتين الفارهتين مجموعة من الرجال، وتقدم أحدهم وفتح الباب الخلفي للسيارة الثالثة الكبيرة، لينزل منها رجل كانت علامات الثراء بادية عليه، تتبعه فتاة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها تقريبا لا تقل عنه أناقة، بل زادت عليه بالحلي التي كانت تلبسها وحقيبتها اليدوية باهظة الثمن. بقى الرجل يحدق بمنازل الحي التي كانت أمام قصره وعلى وجهه نظرة انتشاء، وكأنه حقق حلما كان يحلم به طويلا.

أخرج من جيبه غليونا خشبيا، فقام أحد الحراس بإخراج قداحة مذهبة ألصق شعلتها بطرف الغليون، فأخذ الرجل نفسا من الدخان ونفثه في الهواء قبل أن يعود مع الفتاة للسيارة، ليغلق الحارس خلفهما الباب بكل حذر وهدوء، ويعود هو وبقية الرجال لسياراتهم التي تحركت بمرافقة السيارة الكبيرة لداخل القصر.

بعد أن أغلقت بوابة القصر بدأ الناس الذين شادوا ذلك المنظر بالحديث في ما بينهم، وبدأت التكهنات حول هوية ذلك الرجل الثري، وعن سبب اختياره لحيهم المتواضع للسكن فيه.

حسم الجدال عندما تحدث رجل مسن وقال إنه تذكر ذلك الرجل، وإنه كان يسكن مع أهله في الماضي في هذا الحي، وتحديداً في أحد المنازل التي أقيم عليها القصر، وأنه قد ترك الحي مع عائلته منذ زمن طويل وباعوا منزلهم بعدما خسر أبوه عمله، واضطروا للانتقال لمكان آخر يتناسب مع أحوالهم المادية المتردية. قاطعة أحد الأهالي الواقفين وقال: يبدو أنك مخطئ يا أبا عبد الرحمن، فهذا الرجل لا يبدو أنه عرف الفقر في حياته قط.

رد الرجل المسن بالقول: وهل الأغنياء يولدون أغنياء؟ ضحك الرجل الذي شكك في كلام المسن وقال: أغلبهم نعم.

بدأ الرجل المسن بالتحرك مبتعدا عن الناس المجتمعة وهو يقول: أعرف ما رأيت ولا يهم إن كنتم تصدقوني أم لا.

مضت الأيام وتلاشى فضول الناس تدريجيا بالقصر وقاطنيه، خاصة أن بوابة القصر لا تفتح إلا نادرا، وعندما تفتح لا يخرج منها سوى العاملين أو الحراس ولم يشاهد أحد ذلك الرجل الثري أو الفتاة التي كانت ترافقه بعد ذلك. لكن هذا الأمر تغير عندما فتح باب القصر عصر أحد الأيام، وخرج أربعة حراس بزي موحد وانتشروا بشكل منتظم عند مدخل القصر لتخرج خفهم تلك الفتاة ومعها امرأة مسنة تحمل سلة خشبية مغطاة بقطعة من القماش، وبدأت بالسير والحراس حولها نحو أحد البيوت في الحي. لم يكن في الحي ذلك الوقت الكثير من الناس سوى بعض المارة ومجموعة من الصبية الذين كانوا يلعبون الكرة في وسط الشارع، وجميعهم توقفوا ليراقبوا تلك الفتاة لباب المنزل رمقت أحد الحراس بنظرة لتشير له بطرق الباب ففعل، وعندما فتح خرج رجل بملابس متواضعة، وبمجرد رؤيته للحراس جزع وقال وهو يرتعد: أنا لم أفعل شيئا، لقد كنت في المنزل طوال اليوم!

قالت الفتاة بابتسامة مصطنعة: مساء الخير.. نحن جيرانكم الجدد، وقد أتيت كي أعبر لكم عن امتناني لقبولكم لنا في حيكم.

حدق الرجل بتعجب في تلك الفتاة المتأنقة وهي تحدثه بلطف، ولباقة كان من الواضح أنها مصطنعة وأنها مجبورة عليها، وقبل أن يرد أشارت الفتاة للسيدة المسنة التي كانت بجوارها وتحمل السلة المغطاة، فأخرجت السيدة منها قطعة من الكعك التي ربط فيها مبلغ كبير من المال، وقدمته للرجل الذي نظر لقطعة الكعك والمبلغ المربوط بها وقال باستنكار: ما هذا؟

الفتاة: وهي تتصنع الابتسام والابتهاج: شيء بسيط يعبر عن امتنانا.

الرجل: بتجهم: امتنانكم على ماذا؟

الفتاة: وحاجبها يرتعش في محاولة لكظم غيظها من كلام الرجل وشفتاها ترتديان ابتسامتها المصطنعة مجددا: لأنكم استقبلتمونا في حيكم الجميل.

الرجل: وهو يغلق الباب بقوة: لم يستشرني أحد قبل قدومكم!

تحولت ابتسامة الفتاة لتجهم وصرخت في مرافقيها بالعودة فوراً المقصر، وبالفعل عادوا والفتاة تتذمر وتتمتم بكلمات لم تكن مسموعة للناس الذين كانوا يراقبونها، لكن من الواضح أنها كانت كلمات بذيئة، دخلت الفتاة القصر ودخلت خلفها السيدة العجوز وهي تحمل السلة الخشبية، ووقف الحراس عند الباب الذي أغلقته الفتاة بقوة نجم عنها صوت ارتعدت له أرجاء المكان. جلست الفتاة وهي تستشيط غضبا على إحدى الأرائك الفخمة في القصر وهي تقول بصوت مرتفع:

هذا جزاء من ينزل لمستوى الرعاع!

السيدة العجوز: وهي تضع السلة على المائدة وتجلس عند قدمي الفتاة وتبدأ بخلع حذائها: لا تزعجي نفسك يا سيدة هياء، فهم لا يعرفون قدرك.

هياء بعصبية: أسكتي يا حليمة فهذا ليس ذنبك، بل ذنب أبي الذي أجبرني على ذلك!

الأب بهدوء وهو ينزل من الطابق العلوي ممسكا بغليون في يده: هل انتهيت من توزيع الكعك بهذه السرعة؟

لم ترد هياء على أبيها، بل اكتفت بالتجهم وضم ذراعيها.

حليمة تنهض من أمام الفتاة برهبة لقدوم السيد الكبير، وتأخذ بضع خطوات للوراء وتقف مطأطئة رأسها للأرض وكفها اليمنى على كفها اليسرى.

اقترب الرجل من ابنته بخطوات بطيئة، ثم جلس بجانبها وهي متجهة وتنظر للجهة الأخرى بصمت وعيناها تنفجران غضبا.

الأب: وهو يضع بعض التبغ في غليونه: ما بك؟

 هياء: بعصبية ووجهها مدار عن أبيها: لا شيء!

وجه الأب نظرة للسلة على الأرض، ثم وجه كلامه ل حليمة وقال: هل أعددت الكعك المحلي كما أمرتك؟

حليمة وهي تهز رأسها بالموافقة برهبة وبصوت مرتعب: نعم يا سيدي!

الأب وهو ينفخ سحابة من الدخان ويرفع القماشة التي كانت تغطي السلة ويلقي نظرة بداخلها: ما هذا المربوط بالكعك؟

حليمة ويداها ترتجفان: بعض المال يا سيدي.

الأب بغضب وصوت مرتفع جدا: ومن طلب منك وضع أموال مع الكعك(إز. طلبت منك صنع كعك فقط!

هياء وهي تصرخ في أبيها: لا تصرخ في حليمة يا أبي!.. لقد كانت فكرتي أنا!

الأب بتعجب: فكرتك؟ ما هذه الفكرة الغبية؟!

هياء وهي تشيح بنظرها عن أبيها بوجه عابس: كنت أريد إدخال السعادة في قلوب جيراننا البؤساء بإعطائهم بعض المال.

الأب: بتجهم: لقد أهنتهم بفعلتك هذه؟

هياء بسخرية: لا يمكن إهانة الأوباش.

نهض الرجل وصفع ابنته وقال لها بغضب: لو قلت مثل هذا الكلام عن أهل الحي مرة أخرى فسترين سخطي الحقيقي.

نهضت هياء من مكانها وبدأت تصرخ في أبيها وتقول: أعرف أنك لا تحبني وتنحين الفرصة لتهينني.. هيا!.. اضربني أكثر كي ترتاح!

هم الرجل بتوجيه صفعة أخرى لابنته، لكن حليمة أطبقت على يده بكلتا يديها وبدأت تقبلها وتبكي وتقول: أرجوك يا سيدي.. أرجوك أصفح عنها!

بقى الرجل يحدق بعيني ابنته الدامعتين بغضب لفترة، ثم أنزل يده وقال: انزعي لفافات الأموال من الكعك يا حليمة!

حليمة وهي تترك يد السيد وتتوجه باكية نحو السلة وتحملها وتهم بالتوجه نحو المطبخ.

الأب وعينان لا تزالان تحدقان بعيني هياء الدامعتين والغاضبتين: انتظري يا حليمة!

أدارت حليمة نظرها نحو السيد، ثم وقفت مكانها متسمرة ودموعها تتساقط على قطعة القماش الحمراء التي غطت السلة.

الأب: هي من سيفك لفافات الأموال!

حليمة بصوت وجل: يمكنني القيام بذلك.

رفع السيد يده في وجه حليمة لإسكاتها وعيناه تنظران ل هياء بغضب.

زفرت هياء بسخط وتوجهت نحو حليمة، وانتزعت السلة من قبضتها وصعدت للطابق العلوي حيث كانت غرفتها.

الأب ل حليمة وهو يراقب ابنته تصعد للطابق العلوي: غدا من أول الصباح ستخرجين أنت معها فقط بدون الحراس، وستوزعان الكعك على جميع الجيران.

حليمة: لا أريد رفض أوامرك يا سيدي، لكن السيدة هياء صغيرة وأنا لا أستطيع حمايتها وحدي من أي خطر قد تتعرض له.

الأب وهو يجلس على الأريكة ويقول بحسرة: أي خطر يا حليمة؟ لقد تربيت في هذا الحي، وأهله من أطيب الناس الذين قابلتهم في حياتي.. وهذا هو سبب انتقالي إلى هنا.. أريد أن تتعلم ابنتي معني الاختلاط بالناس البسطاء.

حليمة السيدة هياء اجتماعية وكانت تملك صداقات كثيرة في حينا السابق.

الأب وهو يضع بعض التبغ في غليونه: كل صداقاتها السابقة كانت بلا معنى وبلا هدف، وتافهة مثل أصحابها.

حليمة تنزل رأسها وتصمت.

الأب وهو يبحث في جيبه ابنتي فقدت أمها منذ الصغر ولا تعرف من دروس الحياة شيئاً.

هرع أحد الحراس الواقفين عند الباب نحو السيد عندما رآه يبحث عما يشعل به غليونه، ومد له قداحته المذهبة التي اعتاد أن يشعل بها غليون سيده، وبدأ يلف بكرتها محاولا إشعالها، لكن لم يظهر منها سوى الشرر المتطاير دون لهب متقد.

الأب وهو يخرج من جيبه علبة كبريت ويشعل غليونه مبتسما بعود ثقاب:

بعض الأشياء لا تخذلك مهما كانت قديمة.

الحارس وهو يعيد القداحة لجيبه ويبتسم بتوتر: فعلا يا سيدي الأشياء القديمة أجمل.

الأب وهو ينفخ سحابة من الدخان في وجه الحارس: ومن قال لك إن عود الثقاب أقدم من القداحة؟

الحارس بتوتر: ماذا تقصد يا سيدي؟

الأب يضع ساقا على ساق ويشوح بيده للحارس بالعودة لمكانة.

حليمة وهي محنية الرأس: هل تأمرني بشيء يا سيدي قبل أن أذهب للسيدة هياء؟

الأب وهو يدخن ويمعن النظر في النافذة الزجاجية الكبيرة أمامه والتي كانت تطل على حديقة القصر: لا.. لكن لا تنسى ما أمرتك به. غدا توزعان جميع الكعكات على أهل الحي، وهي من ستقدمها بنفسها.

حليمة: أمرك.

الأب: وأخبريها أنه لو بلغني أنها أهانت أحداً أو تصرفت بسلوك مشين، فسوف تعاقب بشدة!

حليمة وهي تتراجع للخلف بخطوات متقاربة وحذرة متوجهة للسلم المؤدي للطابق العلوي: لا تقلق يا سيدي، لن يحدث ما يسيء لك.

صعدت حليمة السلالم، فأشار السيد للحراس بجانب الباب بأن يقتربوا منه، وعندما استقروا أمامه قال: عندما تخرج ابنتي غدا كونوا حولها لكن لا تدعوها تراكم.. أريد أن تشعر بأنها تسير في الشارع وحدها بلا حراسة كما اعتادت.

هز الرجال رؤوسهم وعادوا لمكانهم عند باب القصر.

مع أول إشراقه للشمس دخلت حليمة غرفة هياء بعدما طرقتها لنجدها نائمة، فاقتربت منها وقبلت جبينها وبدأت تمسح عليه بحنان دون أن تتحدث، حتى فتحت هياء عينيها وابتسمت عند رؤيتها لمربيتها التي ربتها منذ الصغر وقالت: صباح الخير يا حليمة.

حليمة وهي مبتسمة: صباح الخير يا أميرتي. هل نمت جيدا؟

هياء وهي تنهض وتجلس متربعة وسط السرير وتمد ذراعيها وتتثاءب: نعم.

حليمة وهي تضع يدها على فم هياء: الفتيات لا يتثاءبن بهذا الشكل.

هياء وهي ترمي بنفسها للخلف على مخدتها الناعمة الكبيرة وتقول بسخرية: وكيف تثاءب الفتيات؟

حليمة وهي مبتسمة: ألست جائعة؟.. لم  تشاركي أباك العشاء ليلة البارحة.

هياء وهي تحدق بسقف غرفتها: لا أظنه افتقدني.

حليمة وهي تقلب الملابس مبتسمة: لا.. لقد نسى أن يجهز مكان أمك على المائدة.

هياء: أحيانا يخيل إلى أن أبي مجنون.

حليمة وهي تسحب فستانا من الدولاب وعلى وجهها نظرة استغراب يخالطها بعض الاستياء: لم تقولين مثل هذا الكلام؟

هياء وهي تنهض وتعتدل في جلستها وتسند ظهرها للمخدة الكبيرة: أمي ماتت منذ سنين طويلة وهو لا يزال يعد لها أطباقها المفضلة على المائدة في كل وجبة.. إذا لم يكن ذلك جنونا فماذا تسميه؟

حليمة وهي تفرش الفستان على السرير: حب.

هياء وهي تضحك بسخرية: حب؟

حليمة: نعم حب.. لم أنت مستغربة؟.. ألا تحبين أمك؟!

هياء وهي تنزل من طرف السرير وتمسك معلاق الفستان وترفعه أمام نظرها: أنا لم أعرف أمي كي أحبها.

حليمة بوجه حزين: لكنها أحبتك.. وبشدة أيضاً.

هياء وهي تمد الفستان نحو حليمة: هذا الفستان لا يصلح لجولة توزيع الكعك على أراذل الحي، فهو أفخم من ذلك.

حليمة وهي تمسك الفستان وتقول بخوف وتوتر شديدين: أرجوك يا سيدتي، لا تستخدمي مثل هذه العبارات فقد يسمعنا السيد الكبير وتكون عاقبتنا وخيمة.

هياء وهي تزفر: حسنا يا حليمة، لأجلك فقط لأني أعرف أنه سيصب جام غضبه عليك.

حليمة وهي تخرج فستانا آخر من الدولاب مبتسمة: ما رأيك بهذا؟

هياء: ما حكايتك مع الفساتين يا حليمة؟ هذه ملابس معدة لمناسبات خاصة وليس لجولة لتوزيع الكعك!

حليمة وهي تنزل رأسها: أعتذر يا سيدتي، لكني أردت أن تكوني بأبهى حلة.

هياء وهي تفتح أحد الأدراج تحت مرآتها الضخمة: اختاري من هذه الملابس ريثما أستحم.

حليمة: لكن هذه الملابس طلبت مني أن أرميها لأنها رثة ولم تعد تعجبك.

هياء وهي تخرج من الغرفة: بالنسبة لأهل الحي فهي آخر صيحة

بعدما انتهت هياء من الاستحمام في حمامها الرخامي الفاخر ارتدت الملابس التي انتقتها لها مربيتها، بعدها همت بالخروج وتبعتها حليمة. نزلت الاثنتان من الطابق العلوي، فوجدنا الأب واقفا عند الباب يدخن غليونه، تحت سلة مغطاة بقماشة صفراء وقال: لقد طلبت من الطباخ أن يخبز كمية أخرى من الكعك كي تأخذيها معك.

هياء بجفاء: كعك حليمة ألذ.

الأب وهو يبتسم ويسحب الغليون من فمه: المهم أن توزيعها بلباقة.

هياء متجاهلة أباها: هيا يا حليمة كي ننتهي من هاذ اليوم.

تقدمت حليمة نحو السلة كي تحملها، لكن السيد منعها وقال:

هياء هي من سيحمل السلة!

هياء وهي تتقدم بتجهم نحو السلة وتمسك بمقابضها وترفعها وتنظر لأبيها المبتسم: هيا يا حليمة لنخرج!

هرعت حليمة نحو باب القصر وفتحته لتخرج منه هياء حاملة سلة الكعك وأبوها يراقبها مبتسما وهو يضع بعض التبغ في غليونه.

بدأت هياء بالسير نحو بوابة القصر الخارجية مروراً بحديقته الكبيرة التي امتلأت بالنوافير الحجرية والنباتات والأزهار الجميلة، وخلال سيرها قالت ل حليمة السائرة بجانبها: لم ألاحظ من قبل أن حديقتنا جميلة هكذا.

حليمة مبتسمة: حديقة منزلنا السابق كانت أجمل.

هياء وهي تتفحص الحديقة بنظرها: لم أنتبه للحديقة السابقة أيضاً، كنت أدخل وأخرج بالسيارة المكتومة.

حليمة: الجمال حولنا في كل مكان، نحن من نختار رؤيته من عدمها.

شدت هياء قبضتها على السلة ورفعتها قليلا وهي تزفر نفسها عميقا.

حليمة بقلق: هل أنت متعبة يا سيدتي؟ يمكنني أن أحمل السلة عنك بعدما تتجاوز البوابة ونبتعد عن نظر السيد الكبير!

هياء: لا يا حليمة، لن أعرضك لسخط ذلك المجنون.

حليمة: لا تقولي ذلك عن والدك يا سيدتي.

هياء وهي تبتسم وتنظر أمامها خلال سيرها: أستغرب من دفاعك المستميت عنه دائما.

حليمة: أفضال السيد الكبير على كثيرة ولا يمكنني نسيانها.

هياء: أفضاله عليك مقابل عملك الذي تقومين به وليس لسواد عينيك.

حليمة وهي تبتسم: لقد تكفل السيد الكبير بنفقات معيشة ودراسة أبنائي منذ ولادتهم حتى إنهائهم دراستهم، ولا أظن أن راتبي يغطي كل ذلك.

هياء وهي ترفع السلة وتشد من قبضتها على أطرافها: وإن يكن. أنت لا تدينين له بشيء.

حليمة: عندما ترزقين أطفالا ستعرفين أن أعظم معروف يمكن أن يقدمه لك أحدهم هو أن يجعلك مطمئنة عليهم.

هياء وهي تقف وتلتفت إلى حليمة مبتسمة: أليس هذا ما تقدمينه له بالعناية بي؟

حليمة وهي تنظر لجبين هياء مبتسمة: هذه أول مرة أرى فيها قطرة من عرقك.

هياء وهي تضع السلة على الأرض وتمسح جبينها بيدها وتنظر للعرق على أطراف أصابعها بحسرة: ممتاز.. الآن سوف أكون لائقة لأهالي الحي.

حليمة وهي تضحك: لا عيب يا ابنتي في القليل من العرق خاصة إذا كان بسبب القيام بشيء تحبينه!

هياء وهي تحمل السلة وتكمل المسير نحو البوابة، ومن قال إني سعيدة بما أقوم به.. أنا أقوم بذلك فقط كي لا أعطى سببا له ليمارس سخطه علي.

حليمة تتبع هياء وهي تتبسم بصمت.

عند وصولهما للبوابة انتبه حارسها ل هياء وهي تحمل السلة، فجري مسرعا نحو ولحق به اثنان من الحراس الذين كانوا يقفون عندها، وقال بتوتر ل حليمة: لم لا تساعدين السيدة الصغيرة يا حليمة؟!.. كيف تتركينها تحمل هذه السلة الثقيلة وحدها؟

ماذا لو علم السيد الكبير بذلك؟!

مد الحارس يديه لأخذ السلة، لكن هياء أبعدتها عن متناوله وقالت: هذه أوامر سيدك، فلا تلم حليمة!

الحارس بتعجب: لكن يا سيدتي.

هياء بسخط: لا تكثر الكلام وافتح البوابة!

الحارس وهو يجري بارتباك نحو البوابة: أمرك.. أمرك..

هياء ترمق حليمة بنظرة وابتسامة بعدما شرعت أبواب القصر: هيا يا حليمة.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا