صدر الرماد من سلسلة بساتين عربستان الجزء الأول 7 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-07-06

صصدر الرماد
كانت (دعجاء) البالغة من العمر أربعين عامًا تتجول في أحد أسواق "دمشق" الكبيرة وخلال تجوالها مرت بسوق النخاسة المشهور هناك وسمعت الجدال التالي:
(البائع): لن أعطيك هذه الجارية دون طفلتها!
(المشتري): وما حاجتي لتلك الطفلة؟! لا أريد سوى أمها!!
(البائع): لن أبيع الطفلة وحدها وهذا هو عرضي إن شئت فاقبل به أو ارحل من هنا!
(المشتري): سوف أدفع الثمن لكلتيهما لكني لن آخذ الطفلة معي...!
(البائع): لا يهمني ما دمت ستدفع قيمتها..
دفع الرجل للبائع قيمة الجارية وابنتها الصغيرة التي كانت تبلغ السابعة من العمر تقريبًا وعندما قبض البائع المال سلم الأم للمشتري فلحقت الطفلة بأمها فقام المشتري بركل الطفلة في بطنها بقوة مما جعلها على الأرض من شدة الألم وتبدأ بالبكاء ليأخذ أمها الغارقة في دموعها بعيدًا عنها ويرحل. اقتربت (دعجاء) من الفتاة التي تجمهر حولها الناس وبدؤوا يتحسسون جسدها تمهيدًا لأخذها فهي في النهاية جارية بالمجان لكنها وصلت قبل أن يؤذيها أحد وحملت الطفلة التي كانت تتلوى من الألم على أكتافها وهمت بالخروج من السوق حتى استوقفها رجل ضخم وقال:
"إلى أين تأخذين تلك الجميلة؟"
(دعجاء): وما شأنك أنت أيها القبيح..؟
(الرجل) بغضب: هذه الصبية تحصني وسوف آخذها!!
(دعجاء) وهي تبتسم:
هذه الطفلة لا تخص أحدًا وخصوصًا بهيمة مثلك!
صرخ الرجل ونادي على ثلاثة رجال آخرين وقال لهم:
"أحضروا تلك الصبية وكذلك المرأة لنستمتع بهما الليلة!"
هجم الرجال من بين حشود الناس في السوق على (دعجاء) التي كانت تحمل الفتاة على كتفها الأيمن وبحركة سريعة من يدها اليسرى سقط الرجال الثلاثة على الأرض يصرخون من ألم عظامهم التي تهشمت داخلهم. غضب الرجل ورفع حجرًا كبيرًا فوق رأسه ليرميه عليها فرفعت سبابتها للأعلى وأنزلتها لتنزل الصخرة على رأسه وتهشمه. بدأ الناس في السوق بالصراخ والتفرق من حولها ومن حول الرجال الأربعة الذين فارقوا الحياة وخلال ذلك الهلع رحلت (دعجاء) بهدوء وخرجت من السوق. توجهت بعد ذلك إلى منزل استأجرته في المنطقة عندما وصلت لـ"دمشق" قبل أيام قليلة وأخذت الصبية معها وبعد وصولها إلى المنزل قامت برعايتها حتى استعادت عافيتها وبمجرد أن أفاقت أخذت بالبكاء طلبًا لأمها فقالت (دعجاء):
توقفي عن البكاء يا صبية..
(الطفلة): أين أمي؟!
(دعجاء): أمك ذهبت ولن تعود..
فزاد بكاؤها وهي تردد:
أريد أمي.. أريد أمي!!
نهرتها (دعجاء) بصوت قوي وقالت:
أمك رحلت للأبد ألا تفهمين؟!.. ولن تربها مجددًا وأنا سأكون أمك من الآن!
بكت الطفلة بصوت أعلى وقالت:
أعيديني لها..! أريد أمي أريدها!!
سكتت (دعجاء) قليلًا ثم قالت بهدوء:
وأين هي أمك الآن؟
(الطفلة): لا أعرف لكني أريد أمي أريد أمي!!
بقيت (دعجاء) تفكر حتى المساء وهي تنظر لتلك الطفلة الباكية والتي نامت من شدة البكاء وقد رق قلبها لحالها فقررت أن تحضر لها أمها. بدأت في تمتمة بعض الطلاسم فخرج لها جني أزرق اللون وقال لها:
بماذا تأمرين يا سيدة (دعجاء)؟
فقالت له: ابحث لي عن مكان أم تلك الفتاة الصغيرة يا (فردك).. أمها ليست بعيدة عن هنا..
(فردك): سمعا وطاعة..
وخلال دقائق عاد (فردك) وقال:
أم الفتاة موجودة في منزل قريب من هنا وهي في صحبة رجل..
(دعجاء): وما هو الحال الذي وجدتها عليه؟
(فردك): وجدتها تحتضر ويبدو أن الرجل الذي معها قد قام بتعذيبها بقسوة ولا أظن أنها ستري الصباح..
(دعجاء): خذني لها..
أخذها (فردك) إلى باب منزل الرجل الذي اشتري أم الطفلة وأمرته (دعجاء) بعدها بالانصراف ثم طرقت الباب ففتح الرجل وهو نصف عار وقال:
ماذا تريدين؟!
(دعجاء): أين الجارية التي اشتريتها اليوم من سوق النخاسة؟
(الرجل): وما شأنك أنت بها؟!
(دعجاء): أريد أن أشتريها منك..
(الرجل) مبتسمًا بسخرية: لن أبيعها!
(دعجاء): سوف تبيعها لي أو آخذها منك عنوة دون مقابل!
ضحك الرجل بشدة وأغلق الباب في وجهها..
طرقت الباب مرة أخرى ففتح الرجل الباب وهو يصرخ ويقول:
ماذا تريدين؟!!
لم ترد عليه لكنها غرست سبابتها في عينه وفقأتها. وضع الرجل يده على عينه وسقط على الأرض وبدأ بالصراخ وهو يقول:
عيني!.. عيني!.. ماذا فعلت بعيني أيتها العاهرة؟!!
دخلت (دعجاء) بكل هدوء إلى المنزل وبدأت بالبحث في أرجائه حتى دخلت غرفة وجدت فيها أم الطفلة وهي في حالة يرثى لها لكنها ما زالت على قيد الحياة فقالت لها:
تعالي معي سوف آخذك لابنتك.
(الجارية): لا أظن أنني سأعيش لأراها..
(دعجاء): قومي يا امرأة واذهبي لابنتك..!
(الجارية) وهي تحاول رؤية (دعجاء) من خلال أعينها المتورمة:
هل ابنتي (ربوح) معك؟
(دعجاء): نعم وهي بانتظارك..
(الجارية) في نفسها الأخير: أرجوك يا سيدة اعتني بها اعتبريها بنتك أرجوك لا تتركيها وحدها أرجوك...
لفظت بعدها الجارية أنفاسها الأخيرة..
وقفت (دعجاء) في منتصف الغرفة تفكر ولم يدم تفكيرها طويلًا وهمت بالخروج من الدار وتوقفت عندما أمسكها الرجل من قدميها وهو يقول:
انتظري يا عاهرة ماذا فعلت بعيني؟!
(دعجاء) وهي تنظر للرجل بازدراء:
اترك قدمي وإلا فقدت شيئا أثمن من عينك..
ترك الرجل المرتعد من الخوف قدم (دعجاء) التي خرجت متوجهة نحو دارها ودخلت على الطفلة لتجدها نائمة فقررت أن لا توقظها وتخبرها بموت أمها. في اليوم التالي استيقظت (دعجاء) على صوت بكاء الطفلة التي تنادي وتبحث عن أمها فأخذتها ووضعتها في حجرها وقالت لها:
"اسمعي يا (ربوح) أمك سافرت وقد أوصتني بالعناية بك وهي بخير ولقد تحققت أنها تركت ذلك الرجل السيئ.."
(ربوح) وهي تمسح دموعها: ولم لم تأخذني معها؟
(دعجاء): لم تستطع لكنها وعدتني أنها ستعود يوما ما وتأخذك معها وحتى ذلك الحين ستبقين معي هل أنت موافقة؟
هزت (ربوح) رأسها بالموافقة وهي تبتسم..
فعانقتها (دعجاء) وقالت:
لن يؤذيك أحد وأنت مع عمتك (دعجاء) الآن..
رحلت (دعجاء) عن "دمشق" في اليوم نفسه متوجهة الغرب الجزيرة وعاشت هناك مع (ربوح) وقدمتها للناس على أنها ابنتها حتى بلغت السابعة والعشرين من عمرها وتعلمت خلال تلك الفترة من (دعجاء) فنون السحر والشعوذة وأصبحت مساعدة لها في كل أعمالها.

أحلام متناقصة
دخلت (دعجاء) على (ربوح) في أحد الأيام خلال إقامتهما في "الحجاز" وقالت لها:
أريد أن أكون عصبة للساحرات وأريدك أن تساعديني في البحث عن الفتيات المناسبات لتكوين هذه العصبة لأنك الوحيدة التي أثق بها..
(ربوح): وما عصبة الساحرات يا عمة؟
(دعجاء): مجموعة من الساحرات يجتمعن ليكن يدًا واحدة وعلى قلب واحد.
(ربوح): ولماذا تريدين تكوين هذه العصبة يا عمة؟
(دعجاء). لأنني أنوي السفر بهن إلى "اليمامة" والاستقرار هناك لأنها اليوم معقل لأقوى السحرة ولا أريد أن نتعرض للموت على يد أحدهم خاصة وأنهم يكرهون الساحرات المستقلات بأنفسهن أمثالنا ويرون أنهن يجب أن يكن تحت إمرتهم ولا يخرجن عن طاعتهم وخدمتهم.
(ربوح): ولماذا لا نذهب أنا وأنت فقط فنحن لسنا مستضعفتين ويمكننا الاعتناء بأنفسنا والدفاع عنها؟
(دعجاء): السحرة في الـ "يمامة" قد يكونون مختلفين في ما بينهم لكنهم يتفقون وتتوحد آراؤهم على الساحرة التي لا تخضع لهم حتى يقضوا عليها..
(ربوح): وما حاجتنا إذا للذهاب لمثل هذا المكان فنحن هنا في الـ"حجاز" قد وجدنا الراحة والأنس والناس هنا لطفاء ولا يتعرضون لنا؟
(دعجاء): الساحرات في كل بقعة من الجزيرة يجدن حرية في ممارسة عملهن بكل سهولة دون مضايقات من السحرة الذكور عدًا "اليمامة" فهم يحاربون الساحرات بشراسة وهذا الأمر يزعجني جدًا وأريد أن أضع حدًا له فنحن لسنا بأقل شأنًا منهم وأنا أريد الذهاب هناك للعمل بكل حرية.
(ربوح): لم لا تحاولين التحاور معهم يا عمة؟
(دعجاء) وهي تبتسم: سحرة الـ "يمامة" يحتقرون الساحرات عموما بلا سبب مقنع وهؤلاء يجب أن لا نعطيهم وزنا بالتحاور معهم أو سماع رأيهم.
(ربوح): لماذا يا عمة؟
(دعجاء): لأننا لسنا ملزمات باحترام رأي من لا يحترم نفسه
(ربوح): وما شأننا بغيرنا؟
(دعجاء): السحرة في "اليمامة" بدؤوا بمراسلة السحرة في شرق البلاد وغربها للتأثير عليهم والسير على منهجهم فهم لم يكتفوا بديارهم فحسب بل يريدون نشر حقدهم على الساحرات أي كل مكان وجعله عرفًا يحتذي به بين السحرة وقد تأثر بعض السحرة للأسف بهم وبدؤوا بتبني وجهة نظرهم وأفكارهم المقيتة وهذا يشكل خطرا علينا على المدى البعيد لذلك آن الأوان ليكون لنا صوت مسموع فساحرات العرب هن الأقوى بين ساحرات العالم كله ومع ذلك مستضعفات في أرضهن وهذا الأمر يجب أن ينتهي.
(ربوح): كما تشائين أنا معك في كل ما تقومين به
(دعجاء): هل تعرفين أحدًا يمكن أن نجنده معنا ويكون صالحًا لهدفنا؟
(ربوح): هناك فتاة غريبة الأطوار تعمل لدى أحد السحرة كخادمة وأظنها تعلمت بعض علمه.
(دعجاء): وما الغريب في تلك الفتاة؟
(ربوح): تلك الفتاة نحيلة جدًا وفاقدة لإحدى عينيها ولا يبدو عليها أنها قوية لكن ذلك الساحر متمسك بها جدًا ويثق بها بشكل كبير ويكلفها بمهام كثيرة فقلت في نفسي لعلها تكون مناسبة لتكون ضمن عصبتنا.
(دعجاء): لا أريد ساحرات ضعيفات.. أريد نساء قويات يدعمن هدفي لا أن يكن عبئًا علي.
(ربوح): لا أعرف يا عمتي لكني أحسست أن تلك الفتاة تملك شيئًا مميزًا لكني لم أستطع أن أضع يدي عليه.
(دعجاء): لا بأس سوف نذهب لرؤيتها وإذا كانت مناسبة فسوف نقوم بضمها لنا.. أين يعيش هذا الساحر؟
(ربوح): بيته قريب من هنا متى ما أردت أن نذهب فأخبريني
(دعجاء): لا وقت لنضيعه لنذهب الآن..
ذهبت (دعجاء) مع (ربوح) لمنزل الساحر وعندما وصلتا طرقت (ربوح) الباب ففتحت لهما فتاة هزيلة عروقها ظاهرة على يديها وعظامها بارزة وكانت تملك عينا واحدة والأخرى مفقوءة وبلا جفن. لم تتكلم الفتاة بل اكتفت بالإشارة بيدها إليهما للدخول ظنًا منها أنها زبونتان للساحر الذي تعمل عنده. عندما دخلتا الدار جلستا في منتصف المنزل وبعد دقائق دخل عليهما الساحر ولم يكن كبيرا في العمر بل كان يناهز الأربعين من عمره فقط. جلس أمامهما وقال:
بماذا يمكنني أن أخدمكما؟
(دعجاء): من تلك الفتاة التي فتحت الباب..؟
(الساحر) باستغراب يخالطه القليل من الغضب: وما شأنك بها..؟
(دعجاء): مجرد سؤال..
(الساحر): لا علاقة لك بها إذا كنتها لا تريدان استخدام أي من خدماتي فأرجو منكما الرحيل..
خرجت الاثنتان من منزل الساحر وبعد ابتعادهما بخطوات قليلة توقفت (دعجاء) فاقتربت منها (ربوح) وقالت لها:
ما رأيك يا عمة؟
(دعجاء): الفتاة لفتت انتباهي أيضًا..
(ربوح): وما أكثر شيء لفت انتباهك فيها؟
(دعجاء): جسدها تعرض لطلاسم كثيرة ومع ذلك ما زالت على قيد الحياة وهذا أمر نادر..
(ربوح): هل تظنين أن ذلك الساحر هو من فعل بها ذلك؟
(دعجاء): لا أعرف لكن حالها يدعو فعلا للشفقة ويجب أن نحررها حتى لو لم نضمها إلينا
(ربوح): ألم أخبرك يا عمة أنها مسكينة؟
(دعجاء). لكننا قد لا نستخدمها فهي تبدو ضعيفة جدًا وهزيلة..
(ربوح): لا بأس لكن يجب أن نخلصها من ذلك الساحر الخبيث..
عادت الاثنتان في اليوم التالي لمنزل الساحر لكنهما لم تطرقا الباب بل انتظرتا بالخارج في مكان بعيد حتى خرج فتوجهتا إلى المنزل وطرقتا الباب ففتحت لها الفتاة الهزيلة وأشارت بيدها بأن سيدها غير موجود.
فقالت (دعجاء): أعرف يا صبية لكننا نريد التحدث معك أنت.
أشارت الفتاة لفمها كي تشرح لـ(دعجاء) أنها بكماء ولا تستطيع الحديث..
(دعجاء): لا بأس سوف ندخل على أي حال..
دخلت (دعجاء) و(ربوح) وجلستا في منتصف الدار وظلت الفتاة الهزيلة واقفة أمامهما والقلق واضح على وجهها..
(دعجاء): لا تقلقي لن يتسبب لك هذا الساحر بأي أذى بعد اليوم.. لكن هذا الكلام لم يخفف من قلق الفتاة التي ذهبت مسرعة لغرفتها عندما سمعت صوت الساحر وهو يفتح الباب للدخول. دخل الساحر للمنزل ورأى (دعجاء) و(ربوح) في وسط منزله فدنا وجلس بقربهما بهدوء وقال:
ماذا تفعلان هنا وماذا تريدان..
(دعجاء): أسمع.. لن أطيل الحديث معك.. الفتاة التي تعمل عندك سوف تخرج معي ولا أريد نقاشًا في هذا الموضوع
فضحك الساحر بهدوء وقال:
هل أنت من أهلها؟
(دعجاء): لا ولكن لن نسمح لك بتعذيبها أكثر من ذلك يكفي ما أصابها بسببك.
(الساحر): أي تعذيب؟
(دعجاء): انظر إليها وإلى حالها.. لقد تسببت في الكثير من العذاب لها.. أنا ساحرة وأستطيع أن أرى الأثر الذي تركته طلاسمك على جسدها.
(الساحر) مبتسمًا، ولكني لست من فعل بها ذلك..
(دعجاء): لا تكذب...
(الساحر): هل تريدين أن تسمعي حكاية هذه الفتاة؟
فقالت (دعجاء): أخبرنا..
أخذ (الساحر) نفسًا عميقًا ثم قال:
هذه الفتاة اسمها في الأصل (أحلام) لكن أهلها وعشيرتها كانوا دائما يسخرون منها ويعيرونها ويسمونها (رتيكة) لأنها كانت فتاة مكتنزة وكان هذا الشيء يزعجها كثيرا ويدفعها للبكاء معظم يومها لذلك حاولت بشتى الوسائل أن تنقص من وزنها كي تكون كسائر الفتيات في عمرها ولكن وزنها كان في ازدياد وكانت المضايقات تحيط ها من كل جانب فقررت أن تبحث عن حل لمشكلتها بأي وسيلة وهذا ما قادها للأسف للتفكير بالسحر لذلك توجهت يوما إلى ساحر وأخبرته بمشكلتها ورغبتها بحل سحري لبدانتها فقال لها:
"علاجك سهل وسوف أعطيك إياه دون مقابل.."
أعطاها الساحر كيسًا به خليط وطلب منها أن تشرب من منقوعه كل يوم في الصباح والمساء وعندما ينتهي الخليط تعود له كي تأخذ غيره دون مقابل وأن تستمر معه حتى تصل للوزن الذي ترغب به. استمرت (أحلام) على هذا الحال لمدة أسابيع وبدًا وزنها فعلا بالتناقص ففرحت كثيرا لأن علاج الساحر قد بدأ مفعوله بالظهور عليها لذلك استمرت بالذهاب إليه بشكل منتظم للحصول على الخليط عندما كان ينفد منها وبعد مرور بضعة أسابيع وصلت للوزن الذي كانت تريد أن تكون عليه وتوقفت عن الذهاب إلى الساحر لأنها لم تعد بحاجة لذلك الخليط. وفي ليلة استيقظت من النوم لتجد الساحر في غرفتها يقول:
"لماذا توقفت عن القدوم إلي.."
فنهضت مفزوعة من فراشها وقالت:
"لم أعد أحتاج إلى الخليط فقد وصلت للوزن الذي أريده وأنا أشكرك على ذلك"
فأمرها بأن لا تتوقف عن زيارته حتى يأمرها بذلك..
(أحلام): لن أعود فلقد انتهت حاجتي لك ولخليطك وإذا كنت تريد مالا أعطيتك لكن عدا ذلك لن أفعل شيئًا.
(الساحر): كما تشائين.. لكن لو أتيت يوما لطلب شيء مني فلن أساعدك أبدًا.
(أحلام): لا تقلق لن أطلب مساعدتك في أي شيء.
خرج الساحر من غرفتها وعادت هي للنوم وعلى وجهها ابتسامة الرضا لما حققته..
مرت الأيام واستمر وزن (أحلام) بالتناقص بالرغم من أنها توقفت عن تناول الخليط حتى بات جسدها هزيلًا جدًا وأصبحت لا تقوي على الحركة وبدأت بعض الأمراض تصيبها بسبب تلك النحالة وبالرغم من أن أهلها أخذوها للكثير من الحكماء إلا أنهم وقفوا عاجزين عن تفسير حالتها أو إيقافها. لذلك استجمعت ما تبقى من قواها وحملت جسدها الذي كان يئن من الألم وذهبت للساحر بحثا عن علاج لحالتها المتردية والتي كانت بلا شك ستقودها لقبرها. طرقت (أحلام) بابه وكان ذلك ليلا لأنها خرجت دون علم أهلها. فلم يجب أحد فبقيت تطرق حتى خارت قواها وسقطت عند الباب وبعد دقائق من سقوطها فتح الساحر الباب ونظر لها وابتسم بسخرية وقال:
ما الذي أتى بك في هذه الساعة؟
(أحلام): أرجوك.. أرجوك خلصني مما أنا فيه..
(الساحر) مبتسمًا: لن يكون العلاج بلا ثمن هذه المرة..
(أحلام): أطلب ما تشاء من المال لكن خلصني من هذا العذاب والألم!
(الساحر): لا أريد مالًا.. أريد عينك اليمنى..
(أحلام): عيني..؟!
(الساحر): نعم عينك.. واليمني تحديدًا...
(أحلام): خذ ما تريد لكن خلصني..!
نزل الساحر على ركبتيه وأخرج سكينًا صغيرة من جيبه وانتزع عين (أحلام) اليمنى ثم وقف وقال:
"انتظري هنا وسأعود.."
دخل إلى منزله وعاد بعد دقائق ومعه كيس ومده لها وهي ما زالت مستلقية على الأرض من التعب وعينها ما زالت تنزف والذي بدوره زادها ضعفًا ووهنًا وقال لها:
"خذي من هذا الخليط مرة واحدة فقط وسينتهي كل شيء"
رمى الساحر الكيس على (أحلام) التي لم تقو حتى على مد يدها لأخذه وفقدت الوعي. بعد ساعة أفاقت وجاهدت نفسها ومدت يدها وأخرجت محتوي الكيس وتناولته وعادت للنوم أمام شرفة المنزل. أفاقت (أحلام) في الصباح لتجد أنها استعادت بعض قوتها وأن جرح عينها بدأ بالالتئام وأنها تستطيع الوقوف والسير. عادت لمنزلها ونامت طيلة ذلك اليوم. استيقظت في اليوم التالي وقد استعادت عافيتها بالكامل وأحست ببعض القوة التي فقدتها في الأيام السابقة ومع مرور الأيام لاحظت أن وزنها لم يعد للنقصان لكنه لم يزدد كذلك إلا شيئا يسيرًا مكنها من التحرك والقيام بمهامها اليومية.
استمرت على حالها المستقر لعدة أسابيع بالرغم من أن أهلها بدؤوا بالضغط عليها ومضايقتها كثيرًا لتفسير فقدانها عينها لكنها كانت تتجاهلهم ولا ترد عليهم حتى ذلك اليوم الذي سألتها فيه أختها وقالت:
ما الذي حدث لوجهك يا (أحلام)؟
فصرخت فيها وقالت: ألم ننته من هذا الموضوع؟!!
فقالت أختها: لا أقصد عينك..
(أحلام): ماذا تقصدين إذًا؟
فقالت لها: انظري للمرآة وستعرفين..
أحضرت (أحلام) مرآة صغيرة كانت تستخدمها لوضع الكحل ولم تعد تستخدمها بعد فقدانها لعينها ونظرت لوجهها وصدمات. رأت أن شعر وجهها بدأ في النمو في مناطق مثل الشارب واللحية مما دفعها لتفحص بقية جسدها فاكتشفت أن الشعر بدأ ينمو على صدرها وبطنها وكذلك سيقانها أيضًا. أصيبت (أحلام) بالذعر وخرجت من منزلها متوجهة لمنزل الساحر وطرقت الباب بقوة حتى فتح لها وقال: ماذا تريدين الآن؟
(أحلام): ما الذي فعلته بي؟!
(الساحر): لم أفعل بك شيئًا.. لقد عالجتك مما كنت فيه وأخذت الثمن في المقابل..
شقت (أحلام) عن جيبها وصرخت وقالت:
ما هذا إذًا؟!!
ضحك الساحر وقال لها: ادخلي وسوف نتحدث بشأن ذلك جلست (أحلام) داخل منزل الساحر وهي تبكي وقالت له:
أرجوك خلصني من هذا البلاء..
(الساحر): لا يوجد شيء بلا ثمن..
(أحلام) وهي تبكي: ولكنك أنت من تسبب لي بذلك
(الساحر): لا تكثري الكلام فإما أن تدفعي الثمن الآن أو اخرجي وابحثي عمن يعالجك
(أحلام): وماذا تريد مني الآن؟.. عيني الأخرى؟!
(الساحر): لا.. أريد لسانك..
وقفت (أحلام) وقالت: مستحيل!!.. لن أكون ضحية لساديتك تقطع مني جزءًا في كل مرة آتي فيها إليك!!
(الساحر): كيا تشائين... يمكنك الرحيل الآن...
خرجت وهي تبكي وقررت عدم العودة لذلك الساحر مرة أخرى لكنها لم تستطع العيش بين أهلها وعشيرتها لأن الشعر استمر بالنمو حتى بات الناس يسمونها بـ (الغول). وبعد مقاومة لبضعة أسابيع انهارت وعادت للساحر ووافقت على الثمن الذي طلبه منها. قطع الساحر لسان (أحلام) بنفس السكين التي استأصل بها عينها وقدم لها خليطًا آخر وقال لها:
"تناولي هذا الخليط فورًا وسيلتئم لسانك وسيبدأ الشعر بالتساقط خلال أيام..."
وضعت (أحلام) يدها على فمها النازف وهي تبكي بلا صوت وأخذت بيدها الأخرى الخليط وخرجت من منزل الساحر. بعد أيام من تناول الخليط استعادت عافيتها وبدأ الشعر المنتشر في جسدها بالتساقط ولم ينتبه أهلها إلى أنها فقدت لسانها وظنوا أنها لا تريد الكلام فقط. بعد ذلك بأسابيع بدأت تعاني من كوابيس مزعجة ومخيفة كانت تتمحور أغلبها حول شخص بلا ملامح يقوم بتعذيبها ويحاول الاعتداء عليها مما يدفعها للاستيقاظ مفزوعة والخوف يعتريها ويمنعها من العودة للفراش.
تحولت حياتها لجحيم بسبب تلك الكوابيس التي حرمتها من لذة النوم ففي كل مرة تنام فيها يأتيها ذلك الرجل الخالي من الملامح ويبدأ بتعذيبها ولأنها لم تستطع النطق والشكوى لأحد قررت العودة للساحر لأنها أدركت أنه المتسبب في هذه الكوابيس. عادت مرة أخرى لتطلب العلاج لكنه هذه المرة رفض تقديم العون لها وقال:
"لم يعد لدي شيء أعطيك إياه.."
وبالرغم من توسلاتها البكماء له إلا أنه رفض وقال لها:
"لن تتخلصي من هذه الكوابيس إلا إذا تعلمت السحر.."
لم تكن تستطيع (أحلام) العودة لأهلها بسبب تلك الكوابيس كما أنهم بدؤوا يملون من حالتها ولا يتواصلون معها كثيرا فقررت البقاء مع الساحر وتعلم السحر منه.
(دعجاء):.. وماذا حدث بعد ذلك..؟
أكمل (الساحر) حديثه وقال:
قابلت (أحلام) مصادفة عندما كنت أتجول في السوق ولفت انتباهي شكلها وهي تحاول الشرح لأحد الباعة أنها تريد بعض الأعشاب وعندما اقتربت منها سألتها عن سبب رغبتها بتلك الأعشاب فحاولت أن تتواصل معي بالإشارة لكنها لم تستطع لذلك تواصلت مع قرينها لأفهم منه ماذا تريد.
وبالفعل أخبرني بالأعشاب التي كانت تريد شراءها فأخبرت البائع بطلبها وأخذت ما تريد وهمت بالرحيل. تبعتها وهي متوجهة لبيتها أو بالأصح بيت الساحر وخلال لحاقي بها أكمل قرينها كلامه معي وشرح لي كل حكايتها، فقد كان مستاء لحالها وكارهًا لمعاملة ذلك الساحر لها. دخلت (أحلام) منزل الساحر وسمعت صراخه عليها وأنا أقف خارج المنزل ويبدو أنه كان يضربها لأنها تأخرت.
انتظرت بالخارج أفكر في حال تلك المسكينة. وبعد تفكير قررت تخليصها من قبضته. لم أكن أنوي مواجهته وجها لوجه لأن ذلك قد يدخلني في مشكلات مع السحرة في المدينة خاصة وأني لم أكن من أهل المنطقة وكنت مجرد عابر سبيل لكني عقدت العزم على تعليمها بعض الطلاسم التي يمكن بها أن تدافع عن نفسها أمامه.
عدت في اليوم التالي وانتظرتها حتى خرجت للسوق فلحقت بها وحدثتها عن نيتي لمساعدتها. ترددت في البداية لكنها في النهاية وافقت. طلبت منها أن تزورني في منزلي كل يوم ولو لفترة بسيطة وسأحاول تعليمها شيئا يسيرا كل يوم مما يعرف بالـ"الطلاسم الحركية" وهي طلاسم يمكن تنفيذها بحركات اليد والأصابع دون الحاجة للسان.
(دعجاء): أعرف هذا النوع من الطلاسم لكنه أسلوب صعب وقليل من يتقنه..
(الساحر) مكملًا حديثه:
استمرت (أحلام) بزيارتي في كل فرصة تجدها حتى أنها كانت تزورني مرتين أحيانا في اليوم نفسه إذا سنحت لها الفرصة. وكانت مهتمة بالكتب التي كانت تتحدث عن الطلاسم الحركية بأنواعها. وبعد عدة أشهر أصبحت أقوى وبدأت تسيطر على تلك الكوابيس التي كان الساحر يستخدمها للسيطرة عليها أو معاقبتها لكن الساحر أحس بذلك التغير وواجهها وقال لها:
"هناك شيء مريب بك يا فتاة.."
لم ترد (أحلام) عليه وتجاهلته واستمرت بزيارتي بانتظام. ولأنها كانت بكماء فلم أعلمها سوى على الطلاسم التي يمكن تنفيذها بحركات اليد والتي في الغالب لا تجذب الساحر العادي لأنه يجد في الطلاسم المنطوقة سهولة أكبر لكنها كانت أقوى. خلال الأشهر التي قضتها معي تعلمت مني الكثير حتى أنها أتقنت بعض الطلاسم التي لم أتقنها أنا لأنها كانت تقرأ بنهم من مكتبتي المتواضعة.
لم أدرك القوة التي وصلت إليها (أحلام) حتى دخلت يومًا علي في موعد لم أتعود عليها الحضور فيه وكانت مغطاة بالدماء فخفت أن ذلك الساحر قد قام بإيذائها أو اعتدى عليها لكن قبل أن أقف وأتجه نحوها رمت تحت قدمي رأس ذلك الساحر وطلبت البقاء معي تلك الليلة. ومنذ ذلك الوقت لم أحدثها في الموضوع وقد بقيت معي الآن أكثر من ثلاث سنوات تخدمني مثلما خدمت ذلك الساحر مع أني لم أطلب منها ذلك.
سكتت (دعجاء) قليلًا ثم قالت:
هل تأذن لنا بأن نأخذها معنا أيها الساحر؟
(الساحر): لا أنكر أن لها معزة خاصة عندي لكن لن أجبرها على البقاء لو رغبت في الرحيل فهي ليست أسيرة أو جارية عندي..
(دعجاء): جيد.. أستدعها.. أريد الحديث معها وحدنا..
نهض الساحر من مكانه وذهب لمناداة (أحلام) وخلال غيابه قالت (ربوح):
"هل قررت تجنيد هذه الفتاة المسكينة يا عمة..؟"
(دعجاء): سوف نرى الآن..
حضرت (أحلام) وجلست أمامهما وخرج الساحر من الغرفة ليتركهن وحدهن كما طلبت منه (دعجاء). شرحت (دعجاء) لـ(أحلام) عن رغبتها بضمها لعصبتها وكذلك الهدف من تلك العصبة فوافقت على عرض (دعجاء) لكنها اشترطت موافقة الساحر فأخبرتها (دعجاء) أنه لا يمانع لو كانت هي راغبة بذلك. نهضت (أحلام) وذهبت لغرفتها وجمعت حاجياتها لترحل معهما وعند خروجها من غرفتها رأت الساحر أمامها وهو مبتسم ويقول:
"أتمنى أن تجدي السعادة حيث تذهبين يا (أحلام).."
عانقته عناقًا طويلًا ودمعت عينها الوحيدة خلاله وخرجت بعد ذلك برفقة (دعجاء) و(ربوح) وعندما أصبحن خارج المنزل استوقفتهما وأخبرتهما بالإشارة أنها لا تريدهما أن ينادياها بـ (أحلام) أبدًا فقالت (دعجاء):
ماذا تريدين أن نسميك إذًا؟
فكتبت على الأرض بأصبعها...
(رتيكة[ءء
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا