فجأة ومن دون سابق إنذار أتاه صوت طفل يبكي بجانب أذنه اليسرى، أدار رأسه اتجاهه فوجده وقد جلس متربعا وكأنه أضاع أمه. طفل لم يتجاوز عشرة أشهر من العمر، فأخذ يحدثه بتودد: "من أنت يا حبيبي؟ ولماذا تبكي؟". قالها وقد نسي بأنه لوحده في السيارة المحطمة، رد عليه الطفل: "أنا معتز".
معتز: "ماذا؟ معتز! هل هل أنت أنا؟".
رد الطفل متحدثا بلغة عربية فصيحة:
"نعم.. أنا هو أنت، وأبكى لما أراه ينتظرني من العذاب!".
معتز وقد انتفضت أركان قلبه:
"وما الذي تراه من عذاب يا ترى؟".
أجاب الطفل باكياً:
"أراني في الدرك الأسفل من النار وقد سلخ لحم وجهي وتجد جلدي وسلخ مرة أخرى فلا أكاد أن أستريح من عذابي إلا ويعود الألم من جديد!".
معتز: "يا ويلي! وكيف لي أن أتوب لأتجنب هذا العذاب؟".
أجاب الطفل بحسرة:
"لقد فات الأوان الآن. فلا فائدة ترجى منا، لقد كنا أشقى خلق الله ولم نعمل ليومنا هذا، فسنذوق اليوم طعم العذاب بما اقترفت أيدينا من المعاصي والآثام.
معتز: " لااااااا يا ربي.. إرحمني وافر لي ذنوبي، وبدأ ينطق بالشهادتين بصعوبة بالغة وكأن حجراً يضغط مطبقا على رئته".
ضحك الطفل معتز بطريقة هستيرية ثم وقف منتصبا مواجها معتز وقد توسعت عيناه عن آخرهما وتلونت باللون الأسود وتلون فمه كاملا أيضاً بالسواد، وقال بصوت ساخر:
"هل عرفت ربك الآن يا شارب الخمر يازاني يا عاقن اليوم ستسأل وستحاسب على أعمالك، اليوم ستأكل الجمر وتشرب الحميم، اليوم ستسلخ وتشوي في قعر السعير". أخذ الطفل بالاقتراب من معتز تدريجيا وهو يهدد ويتوعد حتى انطلق بسرعة عالية باتجاه وجه معتز وفي لمح البصر داخل الطفل في فم معتز المفتوح من الأهوال التي يسمعها. فشهق كمن يصارع الغرق لينجو بحياته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". أخذ يرددها ويتعوذ حتى داهمه صداع لم يعهده من قبل، وقد ضغط على عينه الوحيدة الباقية وسرعان ما أغمضها محاولا إنقاذها من أن تلحق بأختها، وشرع في قراءة ما يحفظ من آيات القرآن الكريم.
"هل هذه سكرات الموت يا ترى؟ فبدأت أهلوس وأتخيل أشياء ليست موجودة؟ هل يا ترى هذه نهايتي؟ لو مت الآن فلا شك بأنني سأذوق العذاب الأبدي؟ يا لحماقتي! فقد عشت 22 عاما ولم أفكر في يومي هذا.. أستغفر الله وأتوب إليه.."
بدأت حدة الصداع تزداد وتضغط على رأسه وبدأ جبينه بالتعرق، فسريان الدم في جسمه ليس بالصورة الطبيعية، فقد أزدادت لزوجة الدم في عروقه بسبب نقص السوائل وأصبح الدم لا ينتقل بسهولة إلى باقي أعضاء جسمه وإلى رأسه تحديدا! أحس بضيق في التنفس وبصعوبة التقاطه لأنفاسه فهو لم يذق إلا بول ذلك الكلب منذ أن حلت عليه هذه المصيبة.
بدأ صوت المحرك بالانخفاض وبدأت حركة دورانه بالتباطؤ، وخفقت الأضواء وبدأ الظلام يتسرب ويغطي المكان شيئاً فشيئاً وهو يقضي على ما تبقى من نور يضئ المكان! حل السكون وعم المكان ظلام حالك أخيراً.
قال معتز لزميله:
" لم يبق لدي أي كمية حشيش لبيعه، ماذا عسانا أن نفعل؟ فأنا مفلس وليس لدي دخل أصرفه على أسرته! يجب أن تتصرف وتأتي لي بما ينقذني من هذه الورطة!".
رد زميله:
"ما بالك يا معتز؟ اصبر قليلا، فأنا أرتب لصفقة العمر، هذه المرة سنترك بيع الحشيش فهو لا يناسبنا، لقد اتسعت دائرة زبائننا وأصبح بمقدورنا أن نقفز خطوات طويلة إلى الأمام ونترك عمل الهواة خلفنا، إنني أتحدث عن الاحتراف يا عزيزي، فهناك شحنة كبيرة من الكوكايين في طريقها إلينا وتحتاج لمن يقوم بببيعها والمتاجرة بها، كل ما علينا فعله هي أن نستلم الشحنة ونوصلها إلى عنوان المذكور، وبعدها أبشر بالخير يا صاحبي".
رد معتز بسعادة غامرة وحماس بدا ظاهرا:
"وأنا لها يا صاحبي، والله لو تخدر الشعب كله ما همني، أريد المال فقط".. ومثل بأصابعه حركة النقود الشهيرة وأخذ من أنفسه نفسا مسموعا قائلا: "أريد أن أشم رائحة الرزم الخضراء والدولارات، أبغي أعيش شوي ياخي".. ضحك الصديقان على حركات معتز الكوميدية واتفقوا على إتمام الأمر بسرية مطلقة وانطلق كل في طريقه.
وهو في الطريق إلى البيت، وجد فقيرا في الطريق يسأل الناس، فأعطاه بعض الفكة ورماها في أحضانه وتابع طريقه إلى أن وصل إلى مقصده.
استفاق مما هو عليه ولم يكن يستطيع رؤية أي شيء فالظلام يكسو كل شيء حوله، "الحمد لله الحمد لله كنت كريما مع الفقراء يا رب ها أنا أحسن للفقراء والمساكين وأعطف عليهم، ارحمني برحمتك".. قالها معتز وأجهش بالبكاء، ونظر إلى قاع قدميه فقد كانت تواجه وجهه ورأى وقد كتب عليها: "تبا لك يا مرائي، هل تحسب أن هذا سيسعفك؟".
دخل كائن غريب إلى السيارة قاطعا عليه حبل تفكيره وتأمله بقاع رجله، فهو الآن لا يعلم إن كان على قيد الحياة أم فاقداً للوعي أو أنه ان يحلم أو ربما تكون روحه معلقة في حياة البرزخ! الظلام حالك ولكن قد بدأ فجر اليوم الثالث بالبزوغ مما أنار المكان ولو بالنزر اليسير من الضوء، ركز سمعة بجهة مصدر الحركة يريد التأكد من هذا الكائن الزائر، فإذا به يسمع صوت غراب أسود كان يقف على بطنه مصدرا لصوت منكر مزعج.. قااااق قااااااااااق.. قاااااااق. وقفز إلى المرأة المستلقية بجانبه. أخذ الغراب يلتفت إلى اليمن وإلى الشمال بصورة سريعة وكأنه يتأكد من خلو المكان من أي مخلوق يشكل خطر عليه، ومن ثم أخذ يغرز منقاره في جثة المرأة بينما معتز يحاول أن يسترق النظر ولكن كان من الصعب عليه أن يرى ما يدور في جهة المرأة الملقاة هناك! إذ أن مكان الغراب خلف المقعد وقد خلعت أغلب المقاعد من أماكنها وسقطت على سقف المركبة مما جعلها تشكل حائلا بينه وبين المرأة.
بطن معتز بدا ملتصقا بظهره وكاد الجوع أن يفتك به، هو ليس الجوع فقط بل نقص في جميع المواد الضرورية والمغذية التي يحتاجها الجسم السليم من فيتامينات ومعادن وغيرها. فما بالك إذا كان الجسم قد تعرض لحاث قوي ويعاني من إصابات بليغة! كان معتز خائفا بعض الشيء فلا يتمنى أن يهجم عليه الغراب ويلتهم أجزائه الممزقة. "يا ويلي لو التفت الغراب إلي؟ ماذا عساي أن أفعل؟ لن أستطيع الدفاع عن نفسي وسأكون فريسة سهلة له"، أخذ يذكر الله ويدعوه أن ينجيه.
قال معتز لتامر وهم خارج المعة:
"يا أخي ملل! أتمنى السفر إلى بانكوك! بلا دراسة بلا و جع قلب!".
تامر: " لم لا، إنها فكرة جيدة، ولكن دعنا ننهي هذا الفصل ولكل حادثة حديث.
معتز: "أففف، يا لك من شخص ممل".
وبينما هو يتذمر وجد حمامة وقد أصيبت في إحدى جناحيها وهي تحاول جاهدة الطيران أو الاختباء من المارة في الشارع، وكانت محاولاتها للطيران فاشلة ومن دون جدوى، ارتسمت علامات السرور على وجه معتز حين رآها، راوغها إلى أن تمكن من الإمساك بها، أخذ يقلبها بين راحتيه وأحس بنبضات قلبها تتراقص خوفا من المصير الذي ينتظرها بين يديه، أخذ يعصرها براحتيه وشعر بعظامها الهشة وقد أحدثت صوت طقطقة يحبها.. ورماها بقوة إلى الأعلى قائلا: "طيرييي! هياااا!". وكان يضحك بسوداوية مقيتة مستمتعا بما يفعله! فكانت الحمامة ترتطم بالأرض بقوة وتسقط من ارتفاع شاهق كلما رماها إلى أعلى، أعاد الكرة عدة مرات حتى تهشم جسمها بأكمله ولفظت أنفاسها.
تامر: " يا لك من مجرم، حرام هذا الذي فعلته يا معتز.. أأنت مجنون؟".
معتز: " إنما الأعمال النيات، وأنا نيتي كانت مساعدة الحمامة على الطيران، صدقني موتها أفضل من أن يعثر عليها قط ويفترسها وهي لا تزال حية! لقد قمت بما يدعي بالقتل الرحيم، ما بالك؟ هل أنت من معية الرفق بالحمام! هيا هيا دعنا نذهب ولا تكن حساسا". قاااااق! انتفض معتز ورجع إلى واقعه، أفزعه ذلك الصوت الحاد المزعج الصادر من الغراب، حتى أنه أحس بوشك فقدانه لوعيه، فرأى الغراب يقف على صدره وعيناه السودوان تناظره بنوع من الشر الواضح، وأخذ الغراب يصدر أصوات غريبة مقززة وهويحرك جناحيه بقوة، وبدأ بعدها بالتلوي حتى أفرغ ما في معدته من لحم المرأة المهضوم على وجه معتز، وكانت الكمية مصحوبة ببعض ما أكل الغراب من قبل، وغادر الغراب المركبة وحلق مبتعداً عن المكان".
صدم هذا الموقف معتز وصعق مما رأى، وأخذ يلعق وجهه حتى يتمكن من الوصول إلى اللحم وما أجتره الطير من على وجهه، فكانت تلك بمثابة الوليمة لمعتز وهو ما كان جسمه بأمس الحاجة إليه، تضاربت مشاعره في صدره وأخذ يبكي بحرقة لما أحسه بأنها عناية من الخالق لخلقه وبأنه يأكل لحم إنسان مثله.
"غراب يطعمني وكأني فرخة! وأنا كنت أتلذذ بقتل أي كائن حي يمشي وأتحكم بمصائرهم، يالتعاستي! فبأي ذنب أحاسب اليوم، أبعقوقي لوالدتي، أم لتركي الصلاة، أم لمتاجرتي بما حرم الله، أم بشربي للمسكرات أم أم.. ها أنا ذا أنتظر ساعتي وقد أمد الله في عمري حتى أستغفر وأتوب عن ما ارتكبته من آثام وخطايا، يا رحمن يا رحيم إني أتوب إليك فاغفر لي يا تواب فإنك العفو الغفور".
ضربت المكان عاصفة رملية مصحوبة بهواء شديد الحرارة كادت أن تسلخ جلد معتز وتكمل على ما تبقى من جسده.. "النجدة! النجدة!" كان معتز يحاول الصراخ بأعلى صوته ولكن ما لا يعلمه هو أن صوته لم يتجاوز حدود المركبة لتهتك أحباله الصوتية، أحس معتز برغبة عارمة تتملكه بأنه سيفارق الحياة من شدة التعب والوهن. اشتدت الريح وزادت كمية الأتربة في الأجواء وبدأت بالدخول إلى السيارة وتراكمت عليها من الخارج وهو يكاد أن يختنق من الغبار.
طارت قطعة قماش بسبب تأثير الهواء وغطت وجهة فمنعت الأتربة من الدخول إلى فهمه وأنفه.
"يا رب! الحمد لله على حالي! يا رب إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه". وهدأت العاصفة فجأة، وساد الهدوء في المكان وغط معتز في سبات عميق.
هابي بيرث دي تو يو هابي بيرث دي تو يو.. معتز وأصحابه من الشباب والبنات يحتفلون بعيد ميلاده الثالث والعشرين في أحد المراقص الليلية المعروفة وبعض البنات لم يتجاوزن العشرين من العمر وقد ارتمين في أحضانه، صوت الموسيقى بدا صاخبا وقد ارتفع في أرجاء المرقص، كان الجميع منهمكين بالرقص والشرب واللهو فتجد شابا وفتاة في زاوية وهم يتبادلون القبل، وهناك امرأة تترنح وتترامي بين أحضان الشباب بلا استحياء، رن هاتف معتز في هذه الأثناء وهو منغمس في ملذاته، وكان المتصل والدته.
"أووه ماذا تريد هذه العجوز الشمطاء".. قالها معتز بتذمر حتى كاد أن يسمعه كل من في المرقص.. "أففف يا لها من سارقة للأوقات السعيدة" ضغط على زر الاستقبال في الهاتف وبادرها مجيبا بصوت أقرب إلى الصراخ: "ماذا تريدين"؟
ردت الأم بتعب بدا واضحا على صوتها:
" يا حبيبي، أنا تعبانه، وأحتاج أن أذهب إلى الطبيب".
رد معتز بجفاء:
" خذي أسبرين ونامي، ولا تزعجيني باتصالك رجاء"..
الأم: "أخذت يا حبيبي ولكن دون جدوى، أرجوك أن تأتي يا ولدي".
معتز: "أوووه"..
وأقفل الخط وأكمل حفلته وكأن شيئا لم يكن.
" لا لا لا لا، مستحيل، لا يمكن! هل كنت بهذه الوقاحة مع أمي؟" وأخذ يبكي بحرقة!" لماذا تدور هذه الأحداث في رأسي؟ لماذا؟ لابد أنني أهذي.. نعم هذا هو الهذيان بعينه متجسداً بما أفعله!
وأخذ يضحك كالمجنون ويصرخ بوهن: "النجدة! ساعدوني!" ويضحك ويقهقه ببلاهة حتى حل الظلام ولم يعد يرى أو حتى يميز ما حوله، أخذ ينفخ بكل ما أوتي من قوة لكي يزيح قطعة القماش التي تغطي وجهه، كرر المحاولة عدة مرات حتى نجح أخيراً، وأخذ نفسا عميقا حتى كادت رأتيه أن تنفجرا من كمية الهواء التي تنفسها!
بدأ جسد معتز يسبح في الهواء ورأى كل أعضائه تتحرك وهي بحالة جيدة، وأحس بفرحة عارمة تملأ قلبه، فقد كان مشلولا وكتفه مخلوعه وعظمة ترقوته قد خرجت من كتفه ورجله كسرت بشكل فضيع، بعد كل هذا أصبح يطير مرتفعا في السماء الزرقاء الصافية، والطيور الجميلة بألوانها الزاهية تطير حوله وكانت الأرض من تحته سهولا وجبالا ومساحات ممتدة خضراء وقد تدفقت المياه من الأنهار والشلالات من جميع الأنحاء وكونت جداول وبحيرات في غاية الروعة ورسمت لوحة في منتهى الجمال.
"مهلا! أنا أطير بثياب بيضاء! هل أنا في الجنة؟ أهذا هو إحساس أهل الجنة؟ إنه لإحساس في غاية الروعة يا لسعادتي! لقد نجيت ههههه نجيت هاها هاهاها". وأخذ يضحك منتشياً.
فجأة، بدأت ألوان السهول والجبال تتغير، فأخذت تتلون باللون البني القاتم وازدادت في الجمود وبدأت ترتسم في الأجواء ألوان سوداء غريبة، واحترقت الأشجار وانتشرت النيران في الأرجاء وتحولت الطيور من حوله إلى مخلوقات بشعة ومخيفة، وانفجرت الشمس ونفثت حممها في السماء كاسية الأفق بلون أحمر قان، وحل الظلام الحالك وبدأ معتز يهوي إلى القاع وهو يصرخ بفزع:
لااااااا. فبدأت لاجبال تتفجر بالحمم البركانية من كل مكان وازدادت سرعة سقوطه ناحية الأرض حتى اقترب من السقوط في أكبر فوهة بركان وعند الاقتراب وقبل لحظة الاصطدام انتفض جسد معتز وهو لا زال على حاله داخل السيارة والعرق يتدفق منه بجنون "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الحمد لله، الحمد لله". وقد بدا عليه الارتياح بعد أن علم أن ما رآه لم يكن إلا مجرد كابوس.
كان معتز في هذه الأثناء يشعر بألم لا يحتمل يكتسح معدته "آآآآه آآآآآه يا رب أعني آآآآآه آآآآه". وبدأ النور يتخلل إلى أرجاء السيارة، وبدأت العاصفة تلوح مرة أخرى في الأفق ولكن بدتت شهدتها أضعاف ما كانت عليه بالأمس! حتى بدأت تهز أركان السيارة المحطمة بقوة وكأنها تحاول أن تقتلعها من مكانها! ومعتز يتألم وقد أوشك قلبه على الخروج من صدره والتوقف عن النبيض.
"آآآآآآآه يا رب.. آآآآآه يا رب". رددها بيأس وخوف امتلك جميع وجدانه!
اشتدت العاصفة أكثر من السابق وبدأ الرمال بالزحف إلى داخل المركبة وبدأت بدفنها وكأن هناك من يحاول طمس معالمها! والألم في ازدياد وقد احتوى على جميع ما بقى لمعتز من مشاعر! حتى كاد رأسه أن ينفجر من شدة الضغط وعلم أن ساعته قد حانت وبدأ يستغفر وينطبق الشهادتين منتظراً مصيره المحتوم. كانت الرياح قد حملت أطنان من الرمال باتجاه المركبة حتى غطتها عن بكرة أبيها!
لم يعد معتز يسمع أي صوت حوله، فالهدوء يعم المكان. والزلام الحالك يغشي كل شيء، وعلم معتز أن السيارة قد غرقت تحت كومه أتربة تقدر بالأطنان! وأن ساعة رحيله قد أوشكت أن تبدأ وبأن نهايته أصبحت على مرمى حجر منه! فدقات قلبه بدأت تعلن عصيانها وتخفت تدريجيا، والإعياء الشديد سيطر عليه وانتصر، فالمكان ملئ بالرمل الأحمر الناعم وقد أدى ذلك إلى تدهور حالته والتعجيل في استسلامه.
أخذ يتمتم ويهذي ويتكلم بصورة غريبة، فنجده ينادي أسماء أشخاص يمرون في مخيلته، فمرة يقول يا هاله، عونك ومرة يا شادي تعال فتعلم أنه قد فقد ما بقى له من عقل وقارب حافة الجنون، وقد أوشك أن يفارق الحياة فتلك هي سكرات الموت ذلك ما يحدث حينها.
أغمض عينه المتبقية وقد حاول إبقائها مفتوحة قدر المستطاع ولكن غلبه الأمر فاستسلم وأغمضها وتوقف عن التنفس وعم المكان سكون موحش.
عندها.. بدأت الأتربة المحيطة بالسيارة بالإنجلاء كاشفة عن أجزائها، وبدأ الضوء يتخلل المركبة ولكن ببطئ شديد، وترى آلات حادة تخترق حديد السيارة، أزيلت قطعة كبيرة من بدن الحطام ودخل ضوء قوي داخل السيارة معلنا عن وصول الإنقاذ وعج المكان بأصوات مختلفة ومتداخلة، فيسمح صوت شخص يلقي بالأوامر فيما يقوم البقية بتنفيذها وصوت الطائرة العمودية تحلق أعلى المنطقة وقد زادت العاصفة سوءاً.
"ارفع! ارفع تلك القطعة يا هادف! لا، لا تحرك هذه، فقد تنفجر في أي لحظة! قف عندك.. هات الخرطوم وناولني المنشار!".
قال أحدهم:
"ماذا ترى؟".
رد زميله وقد أطل برأسه داخل المركبة:
" لا شيء فالتراب قد غطى المكان بأسره".. أردف قائلا: "هات المجرفة حالات". وبدأ بالحفر ولكن بحذر حتى وجد يدا ورأسا أثناء عملية الحفر..
قال الرجل صارخا:
"هناك شخص! هناك شخص!".
تساءل زميله:
"أهو على قيد الحياة؟".
الرجل في المركبة:
" لا أدري.. يا إلهي! هناك شخص آخر، لقد وجدت شخصاً آخر"..كررها كمن عثر على كنز!
بدأ المنقذون بتقطيع المركبة إلى أجزاء صغيرة حتى كشفوا عن معتز ومن معه ووضعوا كمامات الأكسجين على فم معتز وبدأوا بإنعاش قلبه وتدليكه، وحقنوه بإبرة مخدر المورفين وانشغلوا بإسعافه وإيقاف نزيفه.
كان معتز يسمع ما يدور حوله ولكن دون أن تبدو عليه علامات الحياة.
اخترق الأسماع صوت جهاز اللاسلكي الذي يحمله أحد المنقذينك "أفدني بالحالة، حول".
المنقذ: "وجدنا رجل وامرأة في موقع الحادث وتم انتشالهم بنجاح، الرجل في الخمسين من عمره".
صعق معتز مما يسمعه "من في الخمسين؟ أنا في الثالثة والعشرين!".. أيمكن أن يكون شخص آخر معي لم أنتبه لوجوده؟
أردف المنقذ قائلا:
"وامرأة أحسبها تبلغ ال ...." وغاب الصوت عن معتز وقد رفعت الجثتين على نقالتين استعداداً لنقلهما إلى سيارة الإسعاف.
فتح الطبيب عين معتز وهو لا يزال في موقع الحادث، فرأي معتز مصباحاً صغيراً مصوبا على عينه ونقل المصباح إلى العين الأخرى ولكنه لم يرى شيئاً.
الصوت من اللاسلكي:
"أي مستجدات؟ حول"..
رد المنقذ:
" الرجل نبضه ضعيف جداً ولا نحسبه سيعيش. والمرأة العجوز قد فارقت الحياة منذ مدة".
ذهل معتز وصعق من دوي ذلك الخبر المنفجر في أذنه والذي كاد أن يفجر عروقه". امرأة.. عجوز؟ من؟!".
أدار رأسه ناحية النقالة التي بجانبه محاولا استراق النظر إلى المرأة المستلقية عليها، وكان المنقذون على وشك تغطيه وجهها إعلانا عن وفاتها، انتفض جسد معتز وقد سقطت رجله على الأرض من النقالة وتوقف قلبه فجأة من هول المنظر الذي يراه. كان الذي يرقد على النقالة الأخرى وقد غطيت بالكامل هي أمه، فلم تكن كما ظن بأنها أخته أو صاحبته، بل كانت أمه. لقد قتل أمه، وأكل لحمها، ماتت أمه التي أراد تقبيل قدميها. ماتت من قصر في حقها طوال عمره، ماتت من تحت أرجلها جنات الخلد.
"هات المقابس الكهربائية حالا! افسحوا الطريق!" مزقت دشداشة معتز ووضع الصاعق على صدره وكبس الزر، ارتفع جسم معتز وكاد أن يقع من النقالة فمر شريط في ذاكرة معتز مع أول صعقة تلقاها..
" يا حبيبي متى بتخلصنا من أمك؟". صت امرأة على مائدة الطعام في الأربعين من العمر.
رد معتز:
" يا حبيبتي قريب.. قريب.. فلم أجد الوقت المناسب لآخذها إلى دار الزفت.. العجزة".
"بابا متى أذهب عند صديقي؟" أتاه صوت طفل في الثانية عشر من عمره جالسا على المائدة نفسها.
رد عليه معتز:
" يا شادي يا حبيبي قلت لك بعد المغرب".. وارتشف رشفة من النبيذ وغادر المنزل.
قال معتز وهو في طريقه إلى الخارج:
"هالة حياتي لا تنسى أن تصطحبيه إلى صديقه".
زد من قوة الشحنة! افسحوا المجال! وكبس مرة أخرى على الزر! معتز مع مجموعة من الرجال في حانة فندق راقي..
سامر لمعتز:
"يا أبو شادي يجب علينا بيع الكمية بأسرع وقت وإلا سوف تكون نهايتنا ولن نفى بالتزاماتنا".
معتز: "وماذا عساي أن أفعل؟ الشرطة وفرق مكافحة المخدرات تراقبنا منذ مدة".
جمال: " يا جماعة الشرطة والله أهون من أن يغضب علينا أبو خالد". وأردف وهو يبلغ ريقه: "أنا سأنسحب وأذهب إليه على ركبتي لأطلب منه الصفح".
رد معتز بغضب:
"يا غبي لا تفعلها فسيقتلك حتما ويشتت عائلتك". قالها وهو ينتفض خوفا ثم أردف: "أنا سأغادر بعد يومين لأخذ أمي لدار العجزة في المنطقة التي تقع على الحدود وسآخذ الشحنة معي لأتصرف بها. أعرف رجلا هناك سيساعدنا".
سنفقده إن لم ترجع نبضات قلبه في هذه اللحظة! افسحو!" وكبس الزر وقد زاد من قوة الشحنات الكهربائية أكثر من قبل حتى أنها تركت علامة احمرار واضحة على صدره.
" هيا يا أيتها العجوز اركبي السيارة فلا يوجد لدي وقت أضيعه.. هيا بسرعة". وهو يقودها باتجاه السيارة.
قالت الأم وهي تذرف الدموع بغزارة:
"يا ولدي دعني أنام في الغرفة الخارجية وأعدك أن لا أزعجك وزوجتك أبداً ما حييت، فأنا أخاف النوم بعيدة عنك وعن أحفادي أرجوك يا معتز، احتسبني خادمة عندك وأعدك أن أقوم بأعمال المنزل".
معتز وقد أمسكها من ذراعها بقوة:
"ألا تسمعين؟ اركبي هيا!". ودفعها لتجلس في الكراسي الأمامي. "أنت لا تستطيعين الحراك وتريدين أن تقومي بأعمال المنزل؟!" وضحك بغضب.
قالت أمه:
" لا تفعل هذا بي يا بني، أنا أمك خاف الله فيني".
معتز وقد امتلأت عيناه شرا والخمر كاد أن يخرج من عينيه من شدة السكر:
" يا شمطاء لا أريد أن أسمع لك صوتا، وإلا سأرميك في الشارع"، وانطلق بالسيارة وشحنة من الهيروين في الصندوق الخلفي.
انطلق مسرعا على الخط السريع متجها إلى الحدود ووصل إلى طريق معتم، وكاد أن يصطدم عدة مرات من شدة سكره.
كانت الأم تقرأ القرآن بصوت خفيف وقد جفت دموعها من البكاء.
قال معتز بضيق:
" لقد نفذ صبري منك! اقرأي ما تريدين قراءته في بيتك الجديد وليس هنا، فصوتك يوترني ويحرق أعصابي".
ردت الأم:
"أخاف عليك من غضب الله يا بني فأنا أمك وغير راضية بما تفعله بي. فأنت يا معتز أب الآن ولا ترضى أن يعاملك أبنائك هذه المعاملة، وأنا امرأة عجوز، ألا أستحق منك بعض العطف، ألا يرق قلبك لي ويرحم ضعفي! لقد ربيتك صغيراً وحملتك بين يدي لفترات طويلة وكنت أخاف عليك من نسمة الهواء الباردة، أطلب من الله أن يخلصني من هذا العذاب ويريني دار خيراً من الدار التي أنا فيها. وعسى أن يهديك وأن..".
قاطعها معتز وقد اتسعت عيناه ووجه نظره إليها بغضب:
"اصمتي! اخرسي! لا أريد سماع صوتك ولا محاضراتك! أنت السبب فيما أنا فيه، تدعين على أن أترك عملي الذي لا أجيد سواه وتدعين علي بال...."
شهقت الأم قائلة:
"حاسب يا معتز!"
خرجت المركبة عن مسارها ودخلت في المنطقة الرملية وقد تجاوز معتز سرعة 180 وأخذت المركبة بالدوران حول نفسها بلا سيطرة من معتز وتدههورت عدة مرات حتى وقعت في واد صغير وقد اختفت ملامحها عن الشارع العام.
"أفسحوا!".. وكبس زر الشاحن الكهربائي للمرة الرابعة، هنا بدأ قلب معتز بالاستجابة والخفقان مرة أخرى، وغرزوا الإبر في المحاليل الموصولة إلى أوردته، عاد إليه وعيه شيئاً فشيئاً والدموع تنهمر من عينه، اتجاه برأسه نحو السيارة التي بجانبه وقد كتب عليها وحدة إدارة مكافحة المخدرات، وكان زجاج المركبة يقابله وقد وضع عليه العاكس. فأمعن النظر في الزجاج وقد رأى شعره وقد اشتعل شيبا.. فهو ليس في الثالثة والعشرين من عمره بل هو رجل شارف على بداية الخمسين فعلم حينها أنه كان خائفا مما اقترفه بين بلوغه وحتى سن الثالثة والعشرين من عمره فمصيبته الآن أعظم وأمر. وجدوا كميات من المخدرات كفيلة بإرساله إلى حبل المشنقة وبلا محاكمة! ولكن على أية حال، فقد بترت رجله وفقد عينه وأصيب بشلل كامل.
مضى على وجود معتز 15 عاما قضاها في السجن المركزي وهو مقعد على كرسي خاص، أصبح غير قادر على تحريك شيء من أعضائه عدا رأسه ولسانه.
قبل أن يتوفى في سجنه لأسباب طبيعية كان خلالها هو الواعظ الرسمي للسجناء، حفظ القرآن كاملا وتاب آلاف من السجناء على يديه وأخذ جوائز عدة من جهات مختلفة في مجال خدمة المجتمع، وكان مثالا لرجل الدين والداعية الإسلامي، كان كلما يتكلم عن بر الوالدين يبكي بحرقة حتى يكاد أن يغشي عليه من التأثر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا