البئر الجاف
جمال تسير تحت شمي "عربستان" المحرقة.. الماء ينفذ شيئاً فشيئاً من القافلة الآتية من ساحل الهجرة والتي لم تصل لوجهتها منذ أسابيع. تذمر بين المسافرين والركاب من طول المسافة وعناء السفر.. حوار يدور بين مرشد القافلة والفارس المكلف بحمايتهم:
(الفارس}َ أليس من المفترض أننا قد وصلنا لوجهتنا منذ أسابيع أيها المرشد؟
(المرشد}َ بلى لكني لا أستطيع أن أفهم ما الذي حدث فالطريق لأرض "اليمامة" أحفظه جيدًا وما أراه الآن يختلف كل الاختلاف عن ما أعرفه وكأننا ندور في دائرة.
(الفارس}َ الماء والزاد بدأ ينفذان وكلامك هذا لن يفيدنا وقد تحدث ثورة بين المسافرين وأنا وجنودي لن نستطيع وقتها حمايتك منهم.
(المرشد}َ وماذا تريد مني أن أفعل أنا أسير حسب علمي؟!..
(الفارس}َ علمك لم ينفعنا وقريباً سيقود لهلاكنا؟!..
(المرشد}َ انظر... انظر...
(الفارس}َ.. ماذا؟
(المرشد). هناك شخص ملقى على الرمال لعله تائه مثلنا..
(الفارس}َ لا تقترب منه وأوقف القافلة فربما يكون قاطع طريق فهذه من حيلهم
(المرشد}َ سوف أوقف القافلة واذهب أنت ورجالك للتحقق من الأمر
أوقف المرشد القافلة وطلب منهم التخييم وإعداد الطعام وتوجه الفارس مع رجاله الخمسة باتجاه الشخص الملقى على بعد منهم. اقترب الفرسان من الجسد الملقى على الرمال ليروا عجوزاً قد ناهزت السبعين من العمر وكانت مغمضة العينين ويبدو عليها الإرهاق فأمر الفارس أحد رجاله بحملها للمخيم.
عاد الفارس مع رجاله وأمر بإطعام العجوز وسقيها الماء وسط تذمر فنهرهم الفارس وقال:
"هل تريدون مني ترك هذه المسكينة في الصحراء لتموت؟! عودوا لأماكنكم وسوف نستأنف المسير في الصباح!!"
حل الليل ونام أغلب المسافرين في خيامهم وجلس المرشد مع الفارس حول النار وأخذ الفارس يقلب قطع الجمر بسيفه ويقول:
ما العمل الآن؟.. المسافرون بدؤوا بالتمرد وحالهم يسوء كل يوم وأنا لا ألومهم؟
(المرشد}َ لا أعرف فالأمر محير لقد قطعت المسافة بين "هجر" و"اليمامة" عشرات المرات وهذه المرة الأولى التي أضل فيها عن الطريق.
(الفارس}َ يجب أن تجد حلاً سريعاً قبل فوات الأوان!
(صوت امرأة من خلفهما}َ.. أنا لدي الحل..
(العجوز) مبتسمة: أشكركم لمساعدتي وأحب أن أرد لكم هذا الجميل..
(المرشد}َ تفضلي يا عمة اجلسي بجانبنا
(العجوز}َ شكراً يا بني...
(الفارس}َ كيف ستساعديننا؟
(العجوز}َ هناك بئر يبعد عن هذا المكان مسافة نصف يوم يمكنني أخذكم إليه لكي تتزودوا بالماء
(المرشد}َ عظيماً! هذا سيسهل علينا رحلتنا!
(الفارس) وهو يرفع يده في وجه (المرشد). انتظرا... كيف وصلت لهذا المكان المقطوع؟
(العجوز}َ كنت مسافرة مع قافلة لكنني سقطت من على دابتي ليلاً عندما غفوت ولم أنتبه إلا بعد رحيلهم عني..
(الفارس}َ كلامك لا يقبله العقل
(العجوز}َ.. ولماذا أكذب عليك؟
(الفارس}َ كي تستدرجينا لمكان معزول ويخرج رفقاؤك. ويقتلونا ليستولوا على القافلة!
(العجوز}َ وما الفرق بين قتلكم هنا أو هناك؟
الفارس: ...
(المرشد}َ أيها الفارس هذا المرأة فرصة أتت لنا من السماء لا تضيعها بشكوكك!
(الفارس}َ حسناً.. لكنها ستأتي معنا مقيدة حتى نرى البئر
(العجوز}َ موافقة بالرغم من أن هذا أسلوب مهين..
(المرشد) مبتسماً: سامحينا يا عمة فالاحتياط واجب..
توجه الفارس مع المرشد والمرأة العجوز بعد ما قيداها نحو المكان الذي أشارت إليه واصطحب معه اثنين من جنوده وكانوا جميعاً يمتطون الخيول ما عدا العجوز المقيدة والتي ركبت خلف المرشد على جواده وخلال سيرهم نحو البئر واقترابهم منه قال المرشد للعجوز:
من أين أنت يا عمة؟
(العجوز}َ أنا من عرب الجنوب
(المرشد). وما الذي أتى بك كل هذه المسافة؟
(العجوز}َ أتيت أبحث عن الرزق
المرشد: وحدك؟
(العجوز}َ لا..
(المرشد) مبتسماً: .. مع من إذاً؟
(العجوز}َ مع بناتي الخمس..
(المرشد}َ وأين هن؟.. ولماذا تركتك وحدك في الصحراء؟
(العجوز}َ لم يتركنني لكني أمرتهن بالبقاء في انتظار قدومي..
(المرشد}َ في أرض ال "اليمامة"؟
(العجوز}َ لا..
(المرشد}َ أين إذاً؟
(العجوز}َ عند البئر..
فالتفت (المرشد) بتعجب يخالطه قليل من الخوف نحو العجوز التي كانت تبتسم بهدوء وقبل أن يصرخ للتوقف صرخ الفارس قبله وقال:
إني أري البئر!!... هيا يا رجال!!
اندفع الفارس بخيله مع جنوده مسرعين نحو البئر تاركين المرشد والعجوز خلفهم. حاول المرشد شد لجام خيله للانطلاق لكن العجوز أمسكت يده وهمسات في أذنه وقالت:
"ابق هنا إذا كنت تريد أن تعيش.."
وصل الفارس ورجاله للبئر ونزل من على ظهر جواده مسرعاً ونظر داخله فلم ير أو يشتم رائحة الماء فرمى بالقربة للقاع لكنه لم يجد شيئاً فصرخ باتجاه المرشد الذي كان بعيداً عنه وقال:
لا يوجد ماء!.. البئر جاف!
لم يرد المرشد بل وجه كلامه للعجوز و قال:
ما العمل الآن؟
فقالت له: لا تقلق.. بناتي سيتصرفن
وخلال نداء الفارس للمرشد سمع همساً يأتي من داخل البئر يقول:
"أرجوك.. ساعدني.."
نظر الفارس في البئر وقال: من هناك؟.. هل يوجد أحد؟
كرر الصوت نداءه وقال:
"أرجوك لا تتركني هنا أنا خائفة.."
أمر الفارس جنوده بإنزال حبل والنزول نحو مصدر الصوت. نزل أحدهم لأسفل البئر فرأى مستعيناً بالنور الخفيف داخل البئر فتاة نحيلة الجسم وفاقدة لإحدى عينيها فحملها وأخرجها وبمجرد خروجها ابتسمت العجوز وهمست في أذن المرشد وقالت:
"هذه ابنتي (رتيكة)"
(المرشد),َ لم هي نحيلة جداً هكذا؟
(العجوز) مبتسمة: لكن قلبها كبير...
اقتراب الفارس من (رتيكة) وقال لها بصوت صارم:
ما الذي جاء بك إلى هنا؟!.. وكيف انتهى المطاف بك في البئر؟!
لم تجب على سؤاله وقبل أن يكرر السؤال عليها سمع صوتاً آخر آتياً من البئر يقول:
"أرجوك.. ساعدني"
فالتفت الفارس للجندي الذي نزل للبئر وقال له:
هل هناك شخص آخر في البئر؟!
فرد بارتباك وقال:
أقسم أني لم أر غير هذه الفتاة..!
أمر الفارس الجندي الآخر بالنزول. وبمجرد نزوله شاهد فتاة أخرى ذات شعر أسود طويل وجمال لافت وبشرة بيضاء كالثلج فتبسم الجندي بغباء ومد يده لها وأخرجها من البئر. وقفت الفتاة بجانب (رتيكة) ونظر إليها الفارس باستغراب وقال:
ومن تكونين أنت؟
خلال هذه الفترة وصل المرشد والعجوز للبئر ونزلا من على جوادهما وفك المرشد قيدها فصرخ الفارس فيه وقال:
من أمرك أن تفك قيدها؟!!
(العجوز}َ أنا
(الفارس),َ ومن أنت؟!
(العجوز),َ أنا (دعجاء ابنة وصبان) وسوف تكون نهايتك اليوم على يدي..
أخرج الفارس وجنوده سيوفهم من أغمادها واتخذوا وضع الهجوم مما دفع المرشد للهرب والاختباء خلف البئر. تقدمت (دعجاء) ووقفت بين بناتها والفارس وجنوده وقالت مبتسمة:
ماذا تنوي أن تفعل أنت وجنودك؟
(الفارس),َ سوف نذبحكن كذبح الشاه!!
ضحكت (دعجاء) وفتياتها وقالت:
لسنا مستضعفات كما تظن أيها الأحمق!
(الفارس),َ لا مكان لكم أيها اللصوص بين الشرفاء!!
ابتسمت (دعجاء) وقالت بسخرية:
ليكن في معلومك أيها الفارس المعصوم أني أحب الناقصين وكلنا منهم..
أمر الفارس جنوده بالهجوم عليهن وقتلهن في الحال لكن ما أن أخذوا بضع خطوات حتى رفعت (رتيكة) راحة يدها في وجوههم ليسقطوا على الأرض صرعى، ذهل الفارس من المنظر وقال:
من أنت وماذا تريدين؟
(دعجاء}َ لم أكن أنوي قتلك أنت وجنودك كنت فقط أنوي أن أترككم عند البئر وأنهب قافلتكم وأرحل لكن إهانتك لي بتقييدي كالبهيمة ستدفع ثمنها غالياً!
(الفارس),َ سأقتلك أنت وساقطاتك!!
(دعجاء),َ.تخلصي منه يا (ربوح)..
تقدمت (ربوح) نحو الفارس الذي رفع سيفه ليضرب عنقها فقالت له وهي مبتسمة:
"هيا اقتلني.."
لم يستطع الفارس تحريك يده وظل يحدق في عينها حتى اختنق في أنفاسه وسقط ميتا على الرمال..
اقتربت (دعجاء) من جثة الفارس ونظرت لها باشمئزاز وقالت:
"عندما تصبح ملاكاً حاسب الشياطين.."
عندها صرخ المرشد وقال:
الرحمة.. الرحمة.. أرجوكن لا تؤذينني!
قالت له (دعجاء) وهي تضحك:
لا تقلق يا بني لن نقتلك لكن يجب أن تقدم لنا خدمة أخيرة
(المرشد),َ اطلبي أي شيء لكن أبقي على حياتي...!
بعد أن ركبت (دعجاء) وبناتها والمرشد الخيول سألت (رتيكة),َ
أين بقية أخواتك؟
فأشارت بيدها نحو الطريق المؤدي للقافلة فغضبت (دعجاء) وقالت:
ألم أخبرهن بأن ينتظرن معكما عند البئر؟!
انطلقت الخيول الأربعة باتجاه القافلة وقبل وصولهم صادفوا ثلاث فتيات يمشين على أقدامهن فتوقفت (دعجاء) لترى أنهن بقية بناتها وقالت:
لماذا لم تنتظرنني عند البئر كما أمرتكن؟!
(هنان),َ لقد مللنا الانتظار يا عمة إن (رتيكة) و(ربوح) كانتا معك ولم يستلزم الأمر وجودنا جميعاً
(دعجاء}َ وما رأيك أنت يا (خود)؟
(خود}َ لا أعرف لقد تبعت (هنان)..
(دعجاء),َ وأنت يا (ضنة)؟
(ضنة),َ آسفة يا عمتي..
(دعجاء),َ حسابكن سيكون لاحقاً ليس لدي وقت أضيعه معكن أكملن رحلتكن على الأقدام للقافلة وإذا تأخرتن فبحق (عاشق نورة) سوف أرحل وأترككن لتمتن في الصحراء!!
(هنان),َ كيف تتركيننا هنا يا عمة المكان بعيد والليل علي وشك الحلول؟!
(دعجاء),َ الأمر لا يستلزم وجودكن جميعاً..
انطلقت (دعجاء) وخلفها المرشد و(رتيكة) نحو القافلة وقبل أن تتبعهم (ربوح) اقتربت بجوادها من الفتيات وقالت:
حماقة مثل هذه أتوقعها من (هنان) ولا أستغربها من (خود) لكن أنت يا (ضنة) فاجأتني..
ضربت (ربوح) جوادها بقدمها الحافية وانطلقت مسرعة للحاق بالبقية..
(هنان) رافعة يدها في الهواء: فليرحلوا لست مهتمة!
(خود),َ لكن يا (هنان) العمة تبدو غاضبة
(هنان),َ وهل هذه أول مرة تغضب فيها منا؟
(خود),َ لا ولكن هذه المرة تبدو غاضبة جدا فهي لا تقسم ب (عاشق نورة) إلا في الأمور التي تثير غضبها بشدة
(ضنة),َ ليتني لم آت معكما..
(هنان),َ أخرسي فنحن لم نجبرك على القدوم معنا ولم نطلب منك مرافقتنا من الأساس!
(ضنة),َ فعلا أنا المخطئة.. تحركت (ضنة) مبتعدة عن رفيقتيها...
(خود),َ أين أنت ذاهبة يا مجنونة؟!
(ضنة) وهي تبتعد عن رفيقتيها في وسط الصحراء:
لا علاقة لكما بي!
(هنان),َ دعيها لعل الذئاب تأكلها ونرتاح منها..
(خود),َ ماذا تقولين؟ الليل بدأ بالحلول ولن نجدها!
صفقت (هنان) وأشعلت ناراً وجلست وقالت:
اتبعيها أنت فأنا متعبة..
جرت (خود) خلف (ضنة) وهي تنادي لكنها لم تجدها وعادت بعد مدة لمكان النار التي أشعلتها (هنان) فوجدتها نائمة فركلتها وقالت:
كيف تنامين وأختنا ضائعة؟!
(هنان) وقد نهضت مفزوعة:
وما شأني أنا؟! هي من اختارت الرحيل؟!
جلست (خود) بجانب (هنان) وقالت:
ضنة فتاة صغيرة ولن تستطيع الاعتماد على نفسها
(هنان) وهي تتثاءب:
ضنة ساحرة وتستطيع أن تدافع عن نفسها...
(خود) وهي تنظر للأفق: أتمنى ذلك..
سارت (ضنة) مسافة بالاتجاه الذي تظن أنه يؤدي للقافلة وعندما حل الليل أشعلت ناراً وجلست بجانبها وبينما كانت جالسة تحدق بالنار سمعت صوتاً يقول:
مازلت يا معشوقتي تخاطرين بحياتك؟
ضحكت (ضنة) وقامت من مكانها تلتفت يميناً ويساراً وتقول:
أين أنت يا (أزرق)؟
فرد الصوت وقال:
بجانبك يا معشوقتي كما كنت دائماً وسأبقي..
(ضنة),َ اخرج لأراك أريد أن أعانقك!
فرد الصوت وقال: لك ما تأمرين يا معشوقتي..
فظهر أمامها مخلوق ضخم مفتول العضلات يفوقها طولا بمرتين ونصف المرة له قرنان لكن ملامحه وسيمة جداً وكان جلده أزرق فاندفعت نحوه وعانقته بقوة وقالت:
ابق معي الليلة يا ازرق...
(أزرق),َ ليس لي مكان على هذه الأرض غير المكان الذي تطؤه أقدامك..
فتعانقا بجانب النار وحدقا بالقمر المكتمل وباتا حتى الصباح..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا