النوم الأسود 12 للكاتبة مروى جوهر

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-06-24

12) 

بعد عدة أيام استيقظت ذلك الصباح الباكر وباتت عندي رغبة قوية في الذهاب إلى الكلية، رغبة قوية في الذهاب إلى الكلية، رغبة لمعرفة ذلك الشيء المريب، شعور عميق يزداد بأن ما حدث معي يجبرني على البحث، لكنني راقبت نفسي وأنا أتهيأ للخروج، رأيتني أنتقي ملابسي على غير عادتي اللامبالية، أضع قليلا جداً من مساحيق التجميل.. أنسق خصلات شعري بشغف وحب له، ربما تماديت قليلا في زينتي دون أن أشعر، هل أفعل ذلك من أجل يونس أم من أجلي؟ لا أريد تضليل نفسي، لكنني بعد أن عرفته علمت أنه في الحب هناك من يظهر أجمل صفات حبيبة أو أسوأها.

شعور بالذنب متواز مع كل ذلك لإهمالي مذاكرتي مؤخراً، أؤمن أن النجاح لا يأتي صدفة، لابد من بذل الجهد والوقت لجعله ممكنا، كان يونس يدعمني لاكتشاف الأمر كما قال ويذكرني بدراستي أيضاً، معادلة صعبة لكنها ممكنة مع إنسان مثله، يونس إنسان نادر الوجد كما قالت حنين، عرفت ذلك بعد أن عرفته عن قرب، في إحدى مقابلاتنا أبدى رغبته في التقدم لخطبتي ونعلن الأمر، لكنني كنت أجبن وأضعف من خطوة كهذه، على الأقل في هذا التوقيت، طلبت منه تأجيلها لميعاد أنسب فوافق في تفهم وحلم.

أتذكر أثناء إحدى لقاءاتنا في الكلية أخبرته بأمر الطالب السابق وما قاله، كنت حريصة على أن يعمل كل شيء أعلمه أو أمر به، لكنه قال في سلامة:

سمعت بشأن هذا الحريق بالطبع، يقولون: إنه كان أمراً مفجعا، بعض الطلبة احترقوا بإحدى غرف العزف، والمحزن أنهم لم يستطيعوا إنقاذهم!

كلما تذكرت ما قاله أصابني التوتر، كانت الأحداث الصغيرة تتوالى في الطابق الثالث مع الطلاب كما تناثرت الأقوال، لعلهم يحلمون مثلي، كنت أصر على وجود تفسير لما حدث معي في غرفة العزف، كنت على وشك الوصول إلى الكلية، لم أدر هل كان الطريق مزدحما أم لا؟

فأفكاري وتوقعاتي وتخوفاتي قد ازدحمت برأسي حتى إنني فقدت الإحساس بالزمن، وجدتني فجأة أعبر حديقة الكلية لأجد نفسي مباشرة أمام المبنى، "العم سيد" ينظر إلي ويبتسم في وداعة! هذا المبنى وهذه الوجوه تبدو طبيعية جداً في وضح النهار، يخيل إلي أن العم سيد هذا تتبدل ملامحه ليلا يصبح نسخة محتملة لشيطان ماكر، تجاهلته ثم توجهت إلى حضور المحاضرات.

بدا لي نهاراً ثقيلا مملا بدون يونس، قررت أن أركز وأنغمس في الدراسة لكي لا أشعر ببطء الوقت، وقد كان، أسرعت ساعة الوقت في مرورها وقد اقترب ميعاد التدريب في غرفة العزف، لاحظت أنين لم أتناول شيئاً من الصباح فذهبت إلى الكافيتريا لأبتاع شيئا، كان الدكتور قابيل يشرب قهوته على منضدة قريبة مني، قابلني بابتسامته المعهودة وبشاشته التي تشعرني بالاطمئنان، وكان البائع يعطيني شطيرتي والقهوة، ذهبت لأسلم على الدكتور قابيل فهو شخص ودود مع جميع الطلاب ولم يرفض لأحد طلبا قط، عرض علي أن أشاركه المنضدة فرحبت، كان يونس لم يأت بعد، لم يكن ليأتي إلا في ميعاده الطبيعي لئلا نثير الشكوك حولنا، أخذ الدكتور قابيل يتحدث معي في ود:

هل تسير أمور الدراسة والعزف معك على نحو جيد يا فريدة؟

أجبت سؤاله الروتيني..

إلى حد كبير نعم.

أكمل وهو يرتشف القهوة ولا ينظر إلي:

هذا شيء عظيم، لأن غالبية الطلاب خائفون من المبنى، ولا يأتون إلا في النهار، جميل أن أراك في هذه الساعة المتأخرة في الكلية.. تعجبني شجاعتك وإخلاصك للموسيقى يا فريدة. قلت في حماس واندفاع:

أنا لا أستسلم يا دكتور..

قال في تلقائية وهو ينظر إلي بإعجاب:

جميل.. جميل.

فكرت في أن أسأله عن المبنى وما يحدث فيه ولماذا اقترح في الماضي نقل الكلية لكنني ترددت ويبدو أنه لاحظ فقال:

أتريدين قول شيء ما؟

قلت في تردد:

لا شيء سوى غرابة ما يحدث فعلا يا دكتور قابيل، سمعت من بعض الزملاء أنك طلبت سابقا أن ينقل مقر الكلية إلى مبنى آخر لكن تم رفض طلبك من الوزارة! هل هذا حقيقي؟

ابتسم وقال في عدم اكتراث:

هذا المبنى لعين لا تعيش فيه الأسرار.. إنما الأشباح فقط:

ثم أطلق ضحكة على ما قال كأنها نكتة، فابتسمت مجاملة وقلت بنبرة تائهة:

من يدري؟

أكمل قهوته ووضعها على المنضدة وبدا يلملم أغراضه استعداداً للمغادرة وهو يكمل حديثه:

المبنى كما ترين غير مناسب للدراسة، الكثير من القصص ولا أحد يدري أين الحقيقة:

لمح يونس فعلا صوته وهو يصافحه:

ها هو بطلي الهمام قد أتى.. لابد أنها حصة عزف:

صافحه يونس مبتسما وناظراً إلي وقال..

ها هي أمامك في انتظاري لا يفوتها شيء إلا وتدربت عليه..

نظر إلي الدكتور قابيل في مرح وقال:

فنانة مجتهدة يا ابنتي.. سيكون المستقبل أجمل بإذن الله..

ثقي في نفسك قبل أي شيء.

نظرت إليه في ود وقلت:

أشكرك يا دكتور وأتمنى ذلك.

رحل الدكتور قابيل وكان لكلماته وقع طيب جميل على روحي، جلس يونس ينظر إلي لحظات في حب صريح أشبع روحي أكثر بعد كلمات الدكتور قابيل، فتوقفت عن كل شيء أفعله إلا أن أملأ عيني ونفسي منه، فهم يونس كل هذا وأراد أن يقطعه عن عمد لمصلحتنا، كما اتفقنا وأصررت أنا من قبل ألا يعلم أحد عنا، وياليتني ما فعلت، أريد أن أبقى في حرية معه الآن، نظر يونس حولنا وقال في حماس:

كم تدفعين لمعرفة خبر مثير؟

كان ذكيا ليحول تفكيري إلى شيء متخلف تماما، الآن أخمن ماذا يقصد؟ نظرت إليه وابتسمت وأنا أريد أن أفهم..

خبر مثير متعلق بأي أمر؟

قال في سرعة:

وهل يوجد الكثير من الأمور المهمة هنا؟

فكرت أنه ربما خطبني من والدتي كمفاجئة؟ فقد اقترب يوم مولدي وسيكون يوم حفل التخرج أيضاً.. ابتسمت وقلت في بلاهة لم يعهدها علي..

لا أعلم.. ولا أريد أن أخمن.. فلتقل في سرعة:

تلفت في حذر واقترب ثم قال..

أخيراً تمكنت من أخذ موافقة الدكتور صالح لفتح غرفة مخزن الهالك، أتتذكرين ما قاله الطالب السابق؟ أتتذكرين أنك أردت رؤية البيانو المحروق؟ غدا يحدث هذا.

رغم أهمية ما قاله إلا أن أملي قد خاب كثيراً، ثم انتبهت أنني أصبحت مثل بقية البنات بعمري أو مثل بقية البنات فحسب، كلنا نملك نفس العقلية في الحب مهما كبر أو صغر العمر، حاولت أن أرسم الحماس على وجهي وأفتعل صوتا آخر ثم قلت:

فعلا؟ هذا أمر أنتظر بشدة.. وكيف حدث هذا؟

نظر إلي يونس وقد اكتشف أمري  وتبسم في لؤم ثم قال:

قلت له إنني بصدد عمل بحث عن عمر الآلات الموسيقية الافتراضي، لذلك أريد أن ألجأ لمخزن الهالك لرؤية بعض الأمور عمليا، لم يكن الأمر سهلا أبداً، هذا الرجل لا يريحني يا فريدة.. أعني الدكتور صالح.

قلت..

أوافقك الرأي تماما..

سرح يونس قليلا ثم قال..

لقد وافق على مضض وبعد كثير من الإلحاح، أعلم أنه ليس من صلاحياتي لكن تمسكه بأن يؤجل الأمر لكي يكون معي كان لافتا للنظر والبحث وراءه أيضاً.

قلت بعد تفكير:

هل تظن أننا يمكن أن نستعين بالدكتور قابيل إذا ما تطلب الأمر؟

كان يونس يفكر فيما قلت ثم رد:

ربما نفعل ذلك.. دعينا لا نستبق الأحداث.

جاء ميعاد العزف فصعدت الدرج بجانبه، وكلما صعدنا طابق نظرنا إلى بعض، تبوح العين بما يعجز اللسان عن البوح به، نسيت أمر الطابق الثالث فترة ولو قصيرة من الزمن معه، أشعر كأنه يفك كل قيودي دون أن يفعل شيئاً ملموسا، لكنه يفعل كل هذا بروحي في انسيابية لا مجهود ولا تصنع فيها.

الطابق الثالث بكامل إضاءته، دخلنا الغرفة، وبدأنا بتجهيز البيانو ومقطوعة النوم الأسود وبدا كل شيء طبيعيا، يخيل إلي أن النوتة الموسيقية بانتظاري أيضاً، أتعامل معها كمعلم ثان، نظرت إلى يونس فوجدته مشغولا.. فسألته.

بماذا تفكر؟

نظر إلي وقال:

كل ما انتظره أن أجد في المخزن هذا البيانو المحروق الذي يتردد أنه شهد حريق غرفة العزف:

نظرت إليه وتذكرت الحلم على الفور:

أتمنى لو أعرف أسباب الحريق الحقيقية وكل شيء عن هذا المكان.

قال يونس:

علمت من بعض أقاربي أن ما قاله كريم الطالب السابق هو بالفعل ما يتردد، أن النيابة حينها أغلقت الغرفة بشمع أحمر لحين الانتهاء من جمع الأدلة، وتم فتحها مرة أخرى بعد سنوات بعد أن قيدت أسباب الحريق نتيجة سيجارة مشتعلة، هراء أصدقه في مكان آخر.. لكن ليس هنا.

تذكرت ما قاله عمن ماتوا محترقين فسألته:

أتعلم أي الغرف التي احترق بداخلها الطلاب كما ذكرت؟

أجاب في بساطه:

هنا، غرفتنا التي نتدرب فيها يا فريدة! هيا فلنبدأ العزف!

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا