مضت الساعات ببطء على معتز، فقد مرت أكثر من 30 ساعة تقريبا وهو على حالته، لم يذق خلالها الطعام والشراب أو أي نوع من السوائل التي يحتاجها جسم الإنسان، فإن لم تقتله الإصابات البليغة التي تعرض لها جراء الحادثة فسيقتله بلا شك هذا الجوع والعطش الشديدين.
فجأة ! وبسرعة البرق! واجهته تلك المرأة وجها لوجه وكانت ملامحها كفيلة بإثارة الرعب في النفس، فمنظرها ليس ببشري وهي أقرب لهيئة جنية غاضبة وقد غطى الشعر المنكوش معظم وجهها.
ذهب معتز بعيداً بتفكيره، حتى وصل به الخيال لباب المسجد في حي لم يتعرف عليه أو يتذكره وكان معه صديق له يدعى تامر..
تامر: "بدون مزاح.. هيا لنصلي العصر، فقد أقاموا الصلاة منذ مدة".
معتز: "صلي عني الله يرضى عليك.. وبحاسبك بعدين"..وهو يكتم ضحكته المستهزئة بصعوبة.
تامر: "استغفر ربك يا أخي ويالله بلا سخافه".
معتز: " يا عمي روح، تريدني أن أصلي العصر وأنا لم أصلي أيا من الفروض السابقة لا الظهر ولا الفجر ولا العشاء أمس ولا المغرب ولا.." وانفجر من الضحك.
تامر: " لا حول ولا قوة إلا بالله، اتق الله في نفسك واترك خطوات الشيطان فإنه عدو الإنسان و..".
رد معتز بتبجح:
" لا دخل للشيطان فيما أفعله، إن صلاتي بيني وبين ربي وليس لأحد دخل بما أفعل فهو من سيحاسبني عليها، ثم يا أخي لاحقين على العبادات كلها بعدنا 22 سنة ليش مستعجل؟!"..
"آآآآه يا عزيزي تامر، كنت تحرص على سعادتي وتخشى علي من الانغماس في المعاصي والرذائل وكنت أجرك للتعاسة والذنوب، كنت تخلص لي النصيحة وتحثنى على السجود إلى الله لإخراجي من الظلمات وإنارة قلبي، وكنت أجتهد فغوائك للمضي بمسلك الشيطان! فها أنا اليوم منكفئ على وجهي لا أستطيع الحراك منتظراً أن تحين ساعتي، ولا أحسب بأني سأنعم بالسجود مرة أخرى، أشهدك يا ربي أنك لو أرجعتني أعملن عملا صالحا ما بقى لي من عمر وأصلي حتى يغشي علي". وأخذ يبكي وقد اشتد به الألم والظمأ والجوع فغاب عن الوعي من جديد.
يا ماما، لماذا لا تقبلني قبل خروجك إلى ملاقاة أصحابك؟".. تساءلت أم معتز على أعتاب باب البيت وهي تحدثه وقد هم بالمغادرة.
معتز وقد رفع حاجبيه بتعجب:
"هل أنت جادة يا أمي؟ ما شاء الله لم تتركي أي نوع من الأنواع الزيوت إلا وقد تحممتي به! وبصراحة هي تقرفني وأنا متطيب بأنواع فاخرة من العطور الفرنسية. هل تريدين أن يتعرض ابنك للطرد من الشلة بسبب روائح الزيوت النفاذة هذه؟ هل ترضين هذا يا أمي؟".. قالها بصورة مسرحية ساخرة.
ردت الأم بخزى:
" لا والله يا ولدي، لا أتمنى لك إلا كل الخير، وأتمنى أن تكون دائما الأحسن من بين كل الناس، سامحني يا حبيبي، سأتطيب في المرة القادمة حتى أقبلك أنا ولا أوسخ هندامك".. وابتسمت ابتسامة الأم الحنون.
رد معتز بلكنة لاتينية:
"تشاااوه".. وخرج من المنزل متجها لسيارته..
أغلقت الأم الباب خلف ابنها وهي تودعه بنظراتها وتدعو له. غلبتها دموعها فسقطت رغما عنها وهي في حزن لا مثيل له على فراق ولدها وجفائه.
تذكر معتز مشهداً آخر وهو جالس مع أمه على مائدة الطعام وأختيه الأصغر سنا مريم وسارة عل نفس الطاولة..
بدأت أم معتز الحديث بعد تردد:
"سأذهب اليوم إلى مدرسة أختك سارة فقد فازت بالمركز الأول على مستوى المدرسة ولكن.." سكتت قليلا فقد أحست في حال متابعتها الحديث قد تتعرض للتوبيخ من معتز الذي نظر إليها طالبا المتابعة، أكملت الأم وقالت: " ولكن شالي كما تراه أصبح قديما وباليا، وأريد منك بعض النقود لأشترى لي شالا جديد يليق بذهابي لحفلة التكريم في المدرسة".. وابتسمت وكأنها تقول: "لا بأس إن كنت لا تريد فعل ذلك".
رد معتز بغضب شديد ليس له اي مبرر:
"والله إنك لمجنونة! لقد كبرتي وخرفتي، قد قلت لك أني ذاهب مع أصدقائي لمدة ثلاثة أيام وقد تكفلت بمصاريف دعوتهم وأنت فاضية تروحين حفلات وتشترين ملابس جديدة؟!".
مريم :" أخرس يا حيوان!".
ردت عليها الأم ناهرة:
" لا يا مريم لا، هذا سند البيت اليوم بعد موت والدك، فهو على حق".
" آسفة يا ماما".
" الله يقويك يا ولدي، لم أقصد أن أضايقك، فقد نسيت أنك أخبرتني عن سفرك، وأنك ملتزم مع أصدقائك، سامحني يا ولدي، إنها غلدتي".
رد معتز بضيق:
"أووه! هذا البيت مما وقاتل! سأخرج قبل أن أشعر بالاختناق".. ودفع طاولة الطعام ونهض واقفا، فسقط الطعام من على الطاولة وتناثر من حوله وخرج غاضبا وأغلق الباب بكل قوة من خلفه.
أخذ يبكي وكأنه بدموعه سيعيد عجلة الزمن ويتمكن من تغيير ما مضى من أفعاله وعقوقه لوالدته، صرخ بصوت مبحوح: " أماه! سامحيني بالله عليك أن تسامحيني، جعلت فداك، أعاهد ربي بأن أقبل أقدامك إذا رجعت إليك.. آآآآه ويا حسرتاه! عققتك فأحتويتيني! سببتك فزاد حبك لي! نالك الأذى مني فغفرتي لي دنائتي. يالله سامحني واغفر لي خطاياي وا..".
كانت حنجرة معتز قد جفت عن آخرها بسبب تأثرها بالعطش والحر الشديد، فباتت تلتصق ببعضها من الداخل وبدأ يشعر بالاختناق التدريجي، وبات يشهق بصورة متقطعة وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة وفجأة.
وقع نظر معتز بصعوبة على الزجاج الجانبي المحاذي له، فوجد حركة غريبة وظل غريب يتحرك بشكل مضطرب. فدقق النظر وإذا بكلب ضال يحاول الدخول إلى المركبة من أكبر فتحة موجودة، تسلل الخوف إلى قلب معتز ولكن قواه لم تسعفه أبداً وهي خائرة عن آخرها، نجح الكلب في الدخول وجعل يشمشم بأنفه الرطبة البادرة المكان وذهب إلى المرأة المستلقية ومن ثم توجه إلى وجه معتز داعسا بطريقة على جسمه فاشتد الألم وبلغ منتهاه وغاب عن الوعي.
أفاق وقد بلل وجهه ماء دافئ منسكب فتح عينيه فوجد أن الكلب رفع إحدى رجليه نحو وجهه طالقا لنفسه العنان وهو يتبول على وجهه، وبلهفة غريبة أخذ معتز يشرب من بول الكلب ليطفئ عطشه، وكان الكلب لا يتوقف عن التبول ومعتز يروي عطشه حتى امتلأ بطنه عن آخره، وأفرغ بعضا من حموضة طعمه ونتانه رائحته.
غادر الكلب بعدها خارجا من نفس المكان الذي دخل منه وكأنه أنهى مهمته بنجاح!
كان شربه للبول كفيلا بإمداده بعض القوة ليواجه بها محنته، فأحس أن بمقدوره الآن أن يحرك بعضا من أجزاء جسمه وكأن ما شربه كان مشروبا للطاقة. ومحاولة تحريك يديه ولكن دون جدوى.
" يارب، يا الله، أنا عبدك الشقي فنجني لأعمل صالحا، نجني لأسجد لك حتى ترضى، نجني حتى أقبل أقدام أمي وأخدمها وأبرها ما بقي لي من عمر، نجني حتى أنصح كل شباب العالم على طاعتك وأفنى عمري بخدمة دينك، إني أطمع برحمتك يا الله". استرسل بالدعاء حتى..
هل هذه هي العناية الإلهية يا تري؟ ما أرحمك يارب،
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا