ارتميت على سريري عائمة في ناري. عارية إلا من رماد حريقها ورائحة شوائي. أبحث عن فروع طرية أتعربش عليها واستظل بين أوراقها، لعل حفيفها بنفض عتي رمادي ويداوي قروحي. لكن تعبي لم يسمح لي حتى أن أستحضر وجه عطية وأطب عليه بأنيني وبمبارد رأسي التي تئز.
هل يباشر الزلزال هزاته العنيفة ليطيح بصرح الحب الذي اعتليته؟ كان شيء بداخلي ينطحني بقرونه ويؤرجحني في مهب الأسئلة: هل سأقدر على الصمود في وجه العاصفة؟ هل أمتلك القدرة لأسوي اعوجاج قوس الواقع الثقيل الذي يؤمن بالفوارق وبالطبقات ويزجرني بقضبان التقاليد والأصول؟ كان هذا القوس يتحطم ويتهاوى في أحلام يقظتي التي يصير فيها عطية سيدي وحبيبي، أجثو على صدره أرنبة بردانة طامعة بالدفء والأمان والمتعة. أنسى سواد جسده الذي كرهته ليلة اقتحمني، أتآلف الآن معه وأحبه وأشتهيه. وكان الحب الذي يحرر الروح من عبوديتها يحرر الأجساد من ألوانها، ويخلق ألواناً أخرى لمن نحب فتتماهى بها. ماذا عن الواقع الآن؟ هل أستطيع تغيير ألوانه وكسر قضبانه لأتسرب منه فراشة حرة؟ شعرت أن مجهولاً غامضاً يتربص بي فاتحاً شدقيه ليلتهمني دفعة واحدة. أخذت حبة منوم وحاولت الفرار من توقعات الغد الذي ينذر بعاصفة أخرى من أمي.
* * *
رغم أنه رنين خجول إلا أنني توقعتها أمي المستأسدة لخوض حرب معي. لكني فوجئت بوجه عطية ينبئ عن أرق وقلق. أغلقت الباب... حضنته بكل احتياجي إليه وبكيت على صدره. لا أدري كم رقدت عليه بوجعي وتأوهاتي الجريحة وهو يمسح بكفه على شعري، ويدب بالأخرى على ظهري مربتاً بحنان لم أشعره حتى مع أمي. التصقت به أكثر، أحسست جسده مضعضعاً كمن رض بالحجارة. وفحولته خاملة. لم أدرك سر هذا العطب المفاجئ إلا حين قال:
- أخوك فاجأني بعد خروجك.
اختض جسدي.. شعر عطية بأنني سأتهاوى. حملني بين ذراعيه وأسندني على الأريكة. جلس أمامي. التقطت عيناي أوراماً متكورة على وجهه. اشرأب عنق فضولي بعنقه مدفوعاً باشرئباب روحي التي هلعت:
- ماذا فعل بك؟
- أمرني أن أترك الشقة ولا أطأ المكتب.
- هل وافقت وخضعت؟
أسقط نظرة إلى الأرض:
- آسف يا نادية. كان لابد أن أنبهه. قلت له سيدتي وحدها من تملك إصدار هذا الأمر.
- "برافو" عطية. أظنه خرج خائباً.
- لا... بل صرخ وقال "تتحداني يا حقير" ورفع كفه. أسقطها حارة وصارخة على خدي. ثم خرج وهو يهدد "سنرى أنا.. أو أنت وسيدتك".
شعرت بحقد كبير على أخي. تأملت وجه عطية المأزوم. ماذا أفعل لأحميه وأنأى به عن ظلمهم؟ هل أدعوه أن ينساني؟ كدت أنحب بتوسل موجوع: "أطفئني من قلبك يا عطية قبل أن تبتلعك النار... ابتعد عن يمي. لا تغرنك نعومة رمله ودفئه. إنه يغلي بالألغام. ما إن تغوص فيه حتى يفيض... ستصير المدينة كلها "تسونامي" جديدة تجرفك وتجرفني.. وتحل دمك ودمي".
لكن التوسل سرعان ما ذاب، وارتداني إصرار قوي أنني لن أترك عطية لقمة سهلة لمن يملكون شهوة الأذى. سأدافع عنه وعن حبي حتى الرمق الأخير.
أيقظني عطية من غيابي:
- لم أنم البارحة. توقعته بدأ معك واكتشف أمرنا.
لم أخجل.. صارحته:
- ضربني، بصق في وجهي حين اعترفت له أننا متحابان و... سنتزوج.
فوجي عطية، اتسعت عيناه وكاد بؤبؤاهما يقفزان من محجريهما. لم نكن قد طرحنا هذا المشروع. تصورته سيفرح... سينط ليقبلني شاكراً.. لكنه ظل جامداً مبهوتاً سابحاً في تيه المفاجأة.. أيقظته:
- ما بك يا عطية؟
وقف، شعرت بقامته تتضخم وبصوته يحتج بغضب:
- لن أسمح أن تخسري أهلك لأجلي.
لم يعطني الفرصة لأحاججه. ركض نحو الباب وفر كمن يفر من حريق.
* * *
قبل الغداء واجهت عاصفة أمي بعاصفة أشد. كنت انتظرت أن تطرق بابي. وحين لم تفعل ترجلت إلى شقتها. لم أطرق طرقاتي المعهودة التي تحبها، وحين فتحت ألوت قبل أن تسمع تحيتي. جلست والعكر يملأ وجهها، وأطلقت قذيفتها:
- "أهلاً بالست عبلة العاشقة عنتر".
لم أرد. تركتها تغلي.. تبحث عن مدخلٍ تنفذ منه إلى حوار أرادت له أن يكون صاخباً:
- "مين بيعمل عملتك؟ مش عيب عليك؟".
ضغطت على أعصابي. قررت أن أجابهها بهدوء:
- الحب مش عيب.
صرخت:
- حبك برص. بتت أصول بتوطي رأسك لرأس العبد. هذا طمعان فيكِ".
لم أحتمل اتهامها، واستفاق ذلك الماضي الكريه أحسسته بحلقي كالزبد المتخثر المعجون بالرمل:
- عطية لا يطمع. أنت التي طمعتِ. أم هل نسيت أنك أرغمتني على الزواج من نايف؟ نسيت ما قلته "بكرا بيموت وترثيه". نسيت يوم ألقيت بالمصاغات أمامك فهويتِ على الأرض بعينين زائغتين تقلبين الثروة؟ وهذه الشقة؟ وسيارات المرسيدس الفخمة التي أصررت أن أشتريها لأبي وأخي؟ والهدايا التي أغدقتها عليك وغيرها التي تطلبينها لنهديها لمن تشائين؟ على الأقل عطية لم يطلب أنا التي أعطيه.
كنت أعصف بوجهها متخطية حدود اللياقة والأدب، وخفض جناح الذل وكأنها شخص غريب عني، بعيد عن قلبي وعقلي.
حين أخرست لساني توقعتها أن تواصل ثورتها وتندفع نحوي تلوي عنقي وتدوس عليه، لكنها ظلت في موقعها كمن صب عليها ماء حار. تحدق بي غير مصدقة. كانت غيوم داكنة تطوف على وجهها المقروح بالدهشة. وجمار الحزن العاجز تطل من عينيها، تحاملت على الإهانة، قامت متثاقلة تجر جسداً من الصخر. دخلت غرفتها. أغلقت بابها. فشعرت أن الدنيا كلها تغلق أبوابها في وجهي وترشني بغبارٍ أسود.
فررت إلى شقتي. انطرحت على فراشي. وانخرطت في بكاء ساخن. عرقي يتصبب كالدم، أطرافي من ارتجافاتها تكاد تتكسر، نفرت من نفسي وكرهتها. شعرتني ضئيلة بحجم فأرة مقيدة بحبال من شوك. والأسئلة الدامية تصطف في رأسي مثل طابور الكراسي، كل كرسي يجلس عليه سؤال: ماذا فعل بأمي؟ كيف جرؤت على إهانتها؟ كيف قذفت إلى سمعها مساميري الملتهبة؟ ثم، كيف تركتها وحيدة تعاني وجع كرامتها المطعونة؟!.
ضاقت الغرفة علي. تحركت جدرانها الصلبة باتجاهي وقبضت الهواء عني والصمت يدندن بلحن جنائزي ويسحلني إلى هوة سحيقة لا ألمح في جدرانها ثقباً صغيراً لأنفذ منه. تحاملت على نفسي، غسلت وجهي، قررت أن أركض إلى أمي أجثو أمامها وأطلب السماح والمغفرة.
فتح الباب لأخرج ففاجأني وجه إيمان. اندفعت إلى الداخل متوقعة ثورة لا تسمح قواي الخائرة أن تواجهها. لمحت عينيها متورمتين وبقايا دموع محقونة تبتلهما. أفلتت سؤالها الغاضب:
- ماذا فعلتِ بأمك؟
رغم يقيني بفظاعة ما فعلته. فإنني استقويت لأدافع عن موقفي:
- أمي لا تريد أن تفهمني.
- ومن تتصورينه يفهم جنونك؟ أنا لم أصدق حين أخبرني فيصل.
- تصدقين ماذا؟ هل رآني أخرج من شقته عارية؟
- أعوذ بالله... لكن الأمر غريب.
- وما الغرابة أن أدخل شقته؟
احتقن وجهها:
- أنت سيدته. تأمرينه فيصعد ليلبي طلباتك.
هزئت:
- وما الفرق؟ هنا نكون وحيدين كما هناك. والشيطان لا يختار أمكنته إن شاء أن يكون ثالثنا.
قبل أن تفتح شفتيها لتنطق ما لا أدريه، أطلقت صوتي بالتهديد:
- اسمعي يا إيمان، هذا شأني الخاص ولا أسمح لأحد بالتدخل فيه.
واجهت غضبي بغضب مماثل:
- الشأن لا يخصك وحدك، وليس من حقك أن تقلبي الدنيا على رؤوسنا. هل جننت لتتزوجي من عبد؟ هذا أمر عصي على الاحتمال.
تحديتها:
- وأنا لا أستطيع أن أكون عصية على قلبي.
صرخت وهي تهز ذراعها في وجهي:
- هناك تقاليد وعادات عليك الالتزام بها. ماذا سيقول الناس؟
(هو ذا السؤال الذي يقلقهم، ينفخون فيه حتى صار كالأسهم النارية تطلق جعيرها لنخشى صواعقها. يتحججون بالعادات والتقاليد التي يرضعونها من أثداء المجتمعات المتخلفة. ويطعمون حليبها لعقول أجيال تتوارثها جهلاً وخوفاً. لن أرضح لهذا الإرث الظالم. ليصرخ العالم أو يحترق. أنا سأعيش ولن أحرم نفسي حقها من أجل ماذا سيقول الناس).
التفت إلى إيمان:
- اسمعي المفيد... لن أتنازل عن قراري.. افعلوا ما شئتم.
أغلقت باب الحوار. انسلت إيمان خائبة، وكنت أستشف هسيس أفكارها المشتعل وهي تخرج من الباب.
* * *
لم أتوقع أن تأتيني أمي، أنا النجمة التي جرحت سماءها؛ تأتيني السماء بجلالها. بدت في انكسارها ذليلة ما جعلني أحتقر نفسي واستصغرها. لم أنتظر. ارتميت على صدرها وأمطرت ندم دموعي. وهي تربت على ظهري بهدوء، ورقرقة بكائها مثل قطرات الدم المعصورة. كانت تبكي بحرقة تفوق حرقتها يوم وفاة أبي، وكان تأنيب ضميري مثل مكاوي النار القديمة، لا تكويني لتشفي حروقي؛ بل لتزيد من الحروق وقيء أورامها. ما إن خرج صوتها من بئر قلبها حتى أدركت أنها لم تأت بعاصفة:
- "اسمعي يا نادية.. لما فقدت أبوك كانت هذي مشيئة الله. اليوم بحس إني راح أفقدك بمشيئة عنادك ويباس رأسك. عارفة هلق أنتي متل شو؟ متل اللي بدو يرمي حاله من رأس الجبل راح يتطوح ويقع على رأسه. أنا خايفة عليك تتدمري من شان شي ما بيستاهل".
فككت عقدة لساني المربوط:
- يا ماما هذه حياتي ومستقبلي، وأنت تعرفين كم قاسيت.
نفخت أمي تستدر صبرها:
- "وراح تقاسي أكثر لو ركبتِ رأسك. يا بنتي أنا أمك.. أريد مصلحتك لو مهما قسيت عليك أظل أمك. بحلفك برحمة أبوك، لا تكسري غصن عمرك وتكسري قلبي. أنا مش راح أحتمل اليوم اللي تتزوجي فيه عطية. الموت أسهل علي.. والله بنتحر".
التصقت بها.. تمسكت بغصنها كقطة تخشى الانزلاق. قبلتها واستعطفت قلبها:
- يا أمي أنا أحبه وأريده.
مسحت على رأسي:
- "يا بنتي الحب متل الفاس. ما بيضرب بالأرض مرة واحدة. زمان كنتِ هيك بتحبي جواد وبعدين نسيتيه. راح يجي يوم وتنسي عطية. والفاس راح تضل تضرب حتى تنفلح الأرض منيح وتستقر فيها البذرة الصالحة".
من أين جاءت أمي بهذه الفلسفة وهذا التشبيه العجيب؟ هل أبدعته المصيبة التي حلت على قلبها؛ أم هو منطق الأم الخائفة حد الموت على فلذة روحها؟ وجدتني أقف أمام منطقها مكتوفة العقل واللسان. همدت كل حرائقي ارتميت على صدرها وهمست:
- سامحيني يا أمي لقد قسوت عليك.
لم تستنكف أمي أن تقول:
- "أنا اللي قسيت عليك، لما راجعت نفسي؛ شفت ما في فايدة من القسوة. هلق أنا بنصحك وأنت حرة. تاخدي بالنصيحة أو تطشيها بالحيط. لكن فكري منيح قبل ما تتلفي حياتك وحياتنا".
* * *
خرجت أمي، وضعتني في مهب التفكير لأواجه نفسي. هنا قلبي يزأر بالحب ويرفض أن أكون ضمن قطيع يخشى عواء الذئاب؛ وهنا مجتمعي الذي سيوجه نحوي أفواه المدافع وينصب لي المشانق. تطوحت بحيرتي. لا أريد أن تنضب روحي من سيول الأمل، ولا أريد أن أغرق بسيول قراري قلوبهم وقلب مدينة لا تغفر، "فالسيد سيد والعبد عبد" ولا أحد يفهم أننا كلنا نصير عبيداً للحب حين نحب.
شعرت بحاجتي القصوى لعطية، تصورته متكوماً بجسده الطافح بالأسى، غارقاً في حيرته ليبحث عن مخارج ملائمة تقينا شر أهلي والمجتمع. رفعت سماعة الهاتف وطلبت منه أن يأتي ليسعف روحي.
حين دخل شعرت أن ريحاً تهب وتقصيني عنه، وحين اقترب شعرت أن الريح تقصيه عني. لكننا بمهارة غالبنا ريحنا. تحاضنا.. تلائمنا.. واستقررنا على الأريكة التي مكثت عليها نصائح أمي. كانت روحه متعكرة، وعقله شارداً لا يثوب إلى استقرار، والحزن يخترم قلبه كما يثقب قلبي. أخرست نباح الصمت بيننا:
- ماذا سنفعل يا عطية؟
تصورتها اللحظة التي سينهض فيها عطية من كهف عبوديته ليرفع سيفه ويذود عن قلبينا. لكن سيف لسانه الذي خرج من غمده جرح سمعي:
- لا يجب أن نحارب أهلك.
أكمل السيف جرحه وانغرز في قلبي حين قال:
- هم أقوى منا.
انتفض الخوف بكل جسدي:
- هل تتخلى عني يا عطية وأنت مليك قلبي؟
رشح وجهه ذلاً وشقت همسته شغاف قلبي:
- إن كنت ملكاً في قلبك فما أنا سوى عبد في نظرهم.
- لا تهمني نظرتهم... يهمني أن ننتصر لحبنا وحياتنا.
كنت كمن أذر عليه فلسفة خائبة وهو يعيش الواقع المرير بعقل يفوق عقلي:
- إن كنت تقدرين فأنا لا أقدر. أنا الآن في نظرهم إنسان بشع. كلب يعض اليد التي رعته وأطعمته وعلمته.
- لا تستسلم وتكسر مجاذيفي.
- نحن في مجتمع لا يرحم.
أحسسته عاجزاً، مصراً أن يلوذ إلى كهف الرق، يرفع راية استسلامه. كيف سأعول عليه أن يرفع السيف ويصد عني كرهم وفرهم؟ أين حبه؟
بكيت:
- أنت لا تحبني.
ركض إلي، أهوى برأسه على ركبتي يتوسل:
- أرجوك لا تقولي هذا. تعرفين كم أعبدك.
شددته من شعره، ورفعت وجهه أصب عليه غضبي:
- إذن لماذا تتخلى عني؟
- افهميني.. سأسبب لك التعاسة، أمك...
ابتلع الكلام. حدقت فيه بإصرار. أردت أن أسبر أعماقه والوساوس تتناطح داخلي: هل اقتحمت أمي بدورها شقته ولوت عنق كرامته وافترست بأنياب الكلام أحلامه؟ تفعلها أمي التي تأبى أن يكون سيد ابنتها من كانت سيدة له. لم تقدر أن تواجه عنادي وقوتي فاستضعفته، وأصرت عليه أن يبادر ويبتعد عنى، ربما لهذا تنازلت وجاءتني، وبدت هادئة لأنها طبخت طبختها مع أخي، تركاني واستلما عطية. أردت أن أتأكد، شحنت صوتي بغيصي:
- هي أمي إذن؟
أومأ بالإيجاب.. ثرت عليه. طرحته بعيداً عن حضني وانتفضت من أريكتي. وقفت كالمدفع المعبأ بالبارود:
- أنت جبان... محارب متخاذل يهرب من أرض المعركة لينجو بنفسه ويتركني فريسة لسيوفهم. لو كنت كما تقول تعبدني لما تخليت عن "إلهك".
لم يرد. كان يتقبل ثورتي وعيناه تتسعان، تدوران في محجريهما كأنهما تلمحان غدها الذي تبزغ فيه الدمعة، وتأفل منه الضحكة. صمتت بواريدي. أشفقت عليه من قسوتي. لم أقو أن أراه أمامي مكسور النفس مقصوص الجناحين. أسقطت رأسي في حضنه، وكالكلب الأمين صرت أتمسح به وقلبي في داخلي يصرخ ويحتج: "لماذا خلقك الله عبداً وخلقني السيدة؟ من أين أتي بشمس عادلة تشرق على السيد والعبد دون أن تفرق وتظلم؟".
- آآه يا عطية آآآه.... لا تذبحني.
تأوهت من بين دموعي وكفه تحرث بشعري وكأنها تتمنى لو تحرث الأرض كلها وتنبت بشراً لم يرضعوا الإرث البشع وأفكاره المعطوبة.
لم يكن لنا من خلاص إلا أن نبحر في لحظة حب تزفنا إلى جنتها. استلقينا على السجادة. أخذ يلعق دموعي، وشفتاي تبحثان عن مستقرهما بين شفتيه. تركت لجسدي حريته ليلتهب ويشتعل بالنار، أردتها أن تصهر طوق الحديد الذي ظل يحافظ على حدوده. تمنيته يقتحمني، يشقني كتلك الليلة الأولى. لكنه في اللحظة الحاسمة تماسك وتوقف. واجهته بعينين لا تخلوان من خوف وحذر. كانت روحه تخوي من كل أحلامها وتتهاوى.
* * *
حرنت في شقتي، حجبت نفسي عن وجوه أهلي الأعداء. انكفأت في صمت خاوٍ وظلمة لا أرى فيها غير وجه عطية المتآلف مع سوادها؛ يبزغ كشمس مهيضة الجناح. أحاوره.. أشحنه بالتمرد، بالقوة، أحلفه بحبي، أناشده ألا يتركني نعجة ضعيفة يسهل ذبحي وسلخي. لكنه بعناد المجبور يواصل استسلامه، فيشتد عنادي وأصرخ: "سأقاوم حتى آخر نفس".
كانت ساعات الصمت صاخبة بأفكاري المتخبطة. وكانت أحلام الليل ساحات حرب تعج بكل أنواع الأسلحة، تصولها علي مردة وأفاعٍ، وأنا عزلاء إلا من قلبي الذي يسكنه عطية. أجاهد لأدافع عنه وعني. أبحث عن مسارب لأفر منها وأرسو على شط يقيني شر الاختناق. ألج منعطفات خاوية إلا من زئير الريح. ألمح نافذة يتيمة. أكسر زجاجها فأرى وجوه صديقات قديمات عشن حالات مشابهة ولم أعرف نهاياتهن. قفز وجه صفاء. تذكرت الضجة التي ثارت ضدها حين تحدت المجتمع وكسرت قوالبه الجامدة. انتصرت لقلبها وتزوجت سائقها. قرر أن أبحث عنها أعرف كيف تعيش حياتها، وهل ظلت فخورة بانتصارها وكونت أسرة سعيدة؟ الفضول الأكبر كان أن أعرف إن كانت الفروق تكسرت بينها وبين زوجها أم لاحقها شبح السيد والمسود.
في الصباح اتصلت بزميلة قديمة، أخذت منها رقم صفاء وعنوانها وذهبت إليها. فوجئت بحال الشقة الضيقة التي تسكنها. وبأطفالها الأربعة بملابسهم التي تبدو رخيصة الثمن. توقعت أن أرى تلك الصفاء المرأة الأنيقة الممشوقة التي يطفح الفرح والتفاؤل على وجهها. خاب ظني، رأيت أمامي امرأة بدينة الجسد وقد جدب ازهرار وجنتيها. لم أرد أن أستبق الظن، عللت الأمر أنها تتفانى لبيتها وأولادها وضربت بنفسها عرض الحال.
ونحن نشرب العصير أبدت إعجابها بي:
- مازلت محتفظة بجمالك ورشاقتك.
وأنا أوشك على الرد كانت تسبقني:
- أكيد لم تتزوجي بعد موت العجوز.
سلمتني المفتاح لأدخل:
- وهل كانت صورتي ستتغير لو أني تزوجت؟
أفلتت ضحكة كالنواح:
- بس صورتك؟ ستتغير روحك، وأحلامك، وكل حياتك.
- يا لطيف.. ستجعلينني أخاف من الزواج.
بدا الجد على وجهها. رفعت بنانها كمن تحذر:
- ليس أي زواج.
- ماذا تعنين؟
- أعني الزواج غير المتكافئ. حين يتم ضد رغبة الأهل وتحفظ المجتمع.
- إذا كان هناك حب فلا شيء بهم. ها أنت مازلت تعيشين مع الرجل الذي أحببته وتحديت العالم لأجله.
نفرت، برمت وجهها المهزوم:
- "يا شيخة.. بلا حب بلا.. بطيخ"، لا نكتشف هذا الهراء إلا بعد أن تقع الفاس بالرأس.
- يا صفاء أنت بالذات لا أتوقع منك هذا الكلام، هل أنت شقية في حياتك؟؟
جرت نهدة حارقة وفاح أسى الدنيا من صوتها:
- وأي شقاء!
تركتها تسود وعقلي لا يقوى على التصديق:
- (مصيبة حين يصبح الخادم سيداً. سوف يثأر لنفسه من الليلة الأولى. تصوري بدل أن يهمس بكلمات الحب كان يعض شحمة أذني وينفخ فيها: قولي يا سيدي.. يا أميري.. وبعد أن كان يركض ليلبي أوامري؛ جعلني أنا التي أزحف لألبيه، مرة قذف مفتاح السيارة بوجهي آمراً أن أنظفها، وحين احتججت سخر مني وقال تذكري كم كنت تقذفينه بوجهي. أشكال الانتقام كثيرة. أجبرني أن أنحني عند قدميه لأدلكهما كل ليلة قبل أن ينام، كنت ألمح نظرات التشفي في عينيه وهو يراني ذليلة ولا أقوى على الاعتراض. لن أخجل منك يا نادية. ذات ليلة ونحن في لحظة انسجام اعتليته بشوقي فثار وحدفني عنه مبدداً شوقي بإهانته: أنا السيد أنا الــ "فوق"، وأنت الــ "تحت"، عداك عما فعله بأموالي، أنا الآن لا أملك إلا ما يتصدق به علي، أجبرني أن أعطيه وكالة عامة، باع كل ما أملك هنا واشترى في بلده العمارات وفيلا لأهله أحل فيها كالغريبة ضيفة عليهم. هذا الذل يهون أمام ذل الروح وجرح الكرامة بأشكال متعددة. لا تتصوري كم يكون الإحساس بالدونية باذخاً في تطرفه. فما إن تتسنى الفرصة لصاحبه حتى يستبد لينتقم. لا تطاق الحياة مع رجل كنت يوماً سيدته).
- وما الذي يجبرك على البقاء معه؟
- سببان كلاهما أمر من الآخر. أولاً الأولاد، هم من يكسرون الرأس. غداً عندما تصبحين أماً ستعرفين كم ستضحين وتصبرين. وثانياً الخوف من شماتة الأهل والمجتمع، فالأهل لا ينسون الإهانة التي نرشقهم بها. يظلون بانتظار لحظة هزيمتنا ليرقصوا شماتة وطرباً، أما المجتمع؛ فإن فشلنا فسيكون بمثابة الوثيقة والحجة التي يضربون بها المثل لكل من تحاول الخروج من عباءة العادات والتقاليد.
حزنت. تقطع قلبي وشعرت ذلها يفتح قنوات من الجروح في روحي. همست كأني أكلم نفسي:
- ظننتك حققت انتصاراً.
- نحن هكذا.. نتلذذ بانتصاراتنا.. لكننا لا ندرك أنها غير مكتملة الرشاد إلا حين نقع في الهاوية. القصص كثيرة، عمن أحدثك؟ هل تذكرين بهية؟
فركت جبهتي:
- آه تلك الجميلة التي كنا نغار من اهتمام الأساتذة بها ونحن في الجامعة.
- هذه أيضاً تعيش تعاستها. تزوجت لبنانياً من غير مذهبها، حرم عليها أن تزور أهلها. حتى التلفزيون حرم عليها أن تفتح قنال الكويت. كتبت لي رسالة واحدة من عشر صفحات حكت فيها عذابها وذلها. تصوري تلك التي كانت لا تلبس الفستان أقل من ثلاثمائة دينار صارت تشتري ملابسها من "البالة". استولى على أموالها ليسد بها عقدة فقره. لا يلبس إلا الماركات العالمية الغالية، وآمال المسيحية. هل تذكرينها؟ عصت أهلها وتزوجت كويتياً أذاقها الويل. تزوج عليها وحين عتت عليه طلقها وحرمها حتى من رؤية أولادها. رجال قساة كلهم "أولاد كلب".
عارضتها:
- كل قاعدة ولها شواذها.
- شواذ نادرون. سلمى مثلاً مازالت تعيش سعيدة مع زوجها الفلسطيني. لو ترين كيف يحترمها ويحوفها ويخاف عليها حتى من الطيور الطايرة وأهلها من عارضوا زواجها يحبونه الآن وهم كالسمن على العسل.
* * *
خرجت من بيتها محتشدة بالخوف والقلق. هل يمكن أن يكون عطية مثل الذين سمعت عنهم؟ هل يمكن أن يتحول الحب من الرحمة إلى الانتقام؟ من الرأفة بالمشاعر إلى سحق الكرامة بالأقدام؟ من أين تأتي القوة؟ من السيادة الطارئة أم من قلوب تزيف مشاعرها وتخدع؟ من ذكاءٍ شريرٍ يمتلكه الرجل؛ أم من غباء النساء المفرطات بالإعلان عن عواطفهن حد الاستهانة بها؟ ألا توجد نساء قادرات على خلق التوازن بين العاطفة والكرامة؟
رغم الذي سمعته وأساءني؛ قررت ألا أتأثر به. فكل إنسان له تجربته الخاصة، وأنا من حقي أن أخوض تجربتي وأعيشها. وسواء تمتعت بغديرها او غرقت في أسنها؛ فأنا المسؤولة في الحالين، وسأعتبره قدري الذي أنا مسيرة إليه. لن أسمح لوحشية الشكوك أن تفترس ثقتي بعطية الذي عرفت وفاءه وأمانته لمجرد أن سمعت تلك الحكايات التي هرشت بأعصابي وكادت تقرح أفكاري.
تمسكت بقراري أن أقاوم حتى آخر نفس. لكن سؤالاً فاض كالطوفان وأغرقني: هل سيصمد عطية مثلي ويقاوم أم سيرضخ لفروضات أهلي عليه؟ لم يكن قد حدثني بالتفاصيل عن الوسائل التي استخدموها معه حتى اتخذ موقفه وقال "لا يجب أن نحارب أهلك". لكنني واثقة أنهم لم يلجأوا لعصا الشدة فهو ليس عربياً وافداً ليهددوه بالتسفير من البلاد، وليس من "البدون" ليدبروا له مكيدة تؤدي به إلى السجن متهماً بريئاً. عطية كويتي وإن كان في نظرهم عبداً ابن عبد. لابد أنهم استخدموا معه سياسة استنهاض الشهامة والمروءة ليحميهم من مغبة كلام الناس مستغلين طيبة قلبه، ونبل أخلاقه، وحبه لي. وأكيد أن أمي بكت وتوسلته وربما تنازلت عن ترفعها فقبلت يديه ليرفض قراري.
آآآآه يا عطية... هل أصدق أنك ستنحاز لأهلي! وأنك ستلملم كسور قلوبهم وتكسر قلبي؟ حين دخلت المصعد وقفت متذبذبة، جسدي يضطرب، وعقلي يتردد بين اختيار الرقم، هل أدوس على الرقم واحد أم الرقم ستة؟ هل أدق باب شقته لأتخلص من احتشادي بحكايات صفاء؛ أم أفتح باب شقتي وأرتمي بأثقالي على سريري إلى أن أتخفف منها ثم أقصده؟ كان قلبي يحتقن بدموعه ووجعه المكتوم. ويطوف ما بين أنس الأمس بلياليه وأيامه ونحن نعيش متعة الحب، وبين الواقع الذي تتفشى ظلمته في الأفق وتنذر بسيل جارف يذوب معه رنين أحلامنا.
وجدت إصبعي مترنحاً ينساق إلى الرقم واحد ويضغط عليه ليرفعني إلى شقة عطية، وبقدر ما كنت مثقلة بهمومي؛ كنت ممتلئة بالوله. فوحدها لحظة الحب بين ذراعي عطية قادرة أن تزيح حوافر الخوف الثقيلة التي ترقص على جسدي الأشبه بالجثة الفارغة.
فتح الباب، حين رآني اضطرب واقشعر وجهه. أخرج نصف جسده وهو يضيق من فتحة الباب. بنظرتي المتذمرة وصوتي المنزعج:
- هل ستمنعني من الدخول؟
حاول التنقل واعتذر:
- حال الشقة مقلوب.. كنت أنظفها.
شعرت به يكذب، دفعته، أشرعت الباب ودخلت، كانت الشقة مستقرة ومرتبة. ولم يكن من جديد فيها غير تلك الحقائب الكثيرة المرصوصة على الأرض. صفعني المنظر وأخفت برق روحي:
- ما هذا يا عطية؟
تسكع لسانه في حلقه قبل أن ينطق:
- كما ترين... قررت الرحيل؟
زعقت بملء هزيمتي:
- إلى أين؟
- أرض الله واسعة.
صرخته كأني رأيت قبري يفتح أمامي:
- أرض لا أكون فيها لن تكون واسعة؟ بل ستكون قبراً لقلبك ومقبرة لأحلامك.
اندفعت عليه بصراخي ودموعي أتوسله، أستعطفه، أحلفه ألا يتسرع ولا يرضخ. انتظرت أن يتعطف علي برد يشفي غوائل لحظتي. لكنه بضعف وانكسار همس:
- لا أملك ما أدافع به عنك وعني.. لابد أن أرحل.
قلت بإصرار:
- سأرحل معك. ستترك البلد لهم. وستفتح المدن الحانية أذرعها وشطوطها لنا.
برم جسده عني وانخرط بنشيج لم أحتمل حرقته. التصقت بظهره حاوطت خصره بذراعي، نشجت دماً، وتجشأت آهات قلبي كلها وندائي:
- ارحمني... ارحمني...
استدار نحوي، سمعت نحييه الخافت وهو يستعطفني:
- ارحميني أنت.. أنا لأجلك سأتركك.
متلعثمة بين الآه والآه توسلت:
- لا تذبح قلبي.. لا تحرقني.. لا.. لا.. لا...
أفل نفسي من بين يديه، كانت رئات الريح تنفث سلها وزعافها وتدفعني نحو الحقائب المتراكمة. أخذت أبقر بطونها، أستخرج محتوياتها وأبعثرها في كل اتجاه وأنا أصرخ، أعول، أرتمي على صدره مرة، وتحت قدميه مرة أخرى، مثل فراشة هشة تحاصرها النار وتبحث عن الخلاص. وكان كالإله الحائر يحاول أن يلملم فتاتي ويعيد إلى أجنحتي ألوانها الغاربة، ولروحي نبضها. حمل جسدي المتهالك وركض بي إلى غرفة نومه، مددني على السرير وغاب. شعرتني أنام على وسائد من عشب الجنة. آآآه كم تمنيت أن أتمرغ على هذا السرير الذي اخترته بنفسي وفرشت عليه الغطاء الليلكي.
عاد وهو يحمل قارورة الماء. سقاني رشفة ماء ومسح برشفة أخرى وجهي المعفر بذل دموعي. جلس بقربي على الأرض، اتكى راسه على ذراعي الممدود وكفه ترعى سهول وجهي المقفرة من خضرتها. تركني أتنشق حثالة أساي؛ ثم اقترب بشفتيه يبلل جفاف شفتي ويرسم عليهما خرائط حزنه وعشقه، لا ينبس بكلمة أو بوعد، حتى ولو كان بهشاشة رغوة الصابون، بأنه سيتراجع عن قراره.
طوانا صمت جاف كامتداد الصحراء اللائحة. تيبست في ثناياه حنجرتانا وطفحت أرواحنا بانتكاساتها. كنت في سعيري أنتظر منه كلمة واحدة "سأبقى".. لكنه حين سيطر على دقة صوته قال:
- تصعدين الآن إلى شقتك والصباح رباح.
هل يؤملني لأستكين ثم يغافلني ويفر قبل أن يأتي "رباح الصباح"؟
أردت أن أجد له أملاً:
- غداً سأجعل أمي وأخي يرضخان لقراري، لن أقبل باندحارك يا عطية.
لم ينطق وكأن لسانه فقد مذاق الكلام. تحاملت على نفسي، مشيت إلى الباب، كنت في طريقي أدوس كل أشيائه المبعثرة وأود لو ينفتح لها قبر ويبتلعها، قبل أن أفتح الباب غرست شفتي في فلقتي شفتيه، أحسست ريقه مراً رغم رائحة الدارسين التي تنبعث من ثغره. همست في أذنه:
- سأتركك لتفكر.
حين فتحت الباب شعرت به ضيقاً لا يكاد يتسع لطرف من إصبع، لكنني انسللت منه مثل دودة تنسل من شقوق أبواب قديمة.
* * *
رائحة عطية معي. متسربة بكل نقطة في دمي. ورائحته في شقتي راقدة على كل بلاطة وأريكة. متعلقة بكل الأضواء، واللوحات، وأغصان النباتات، وأقفاص العصافير. أموج في الرائحة وتموج بي. تصاحبني حتى سريري الذي رسمت وجهه على وسائده. كنت أحاول أن أضم ولو ريشة من رياش الأمل إلى قلبي لتهفت عليه كمروحة وتزيح قطرات يأسه.
انطرحت على الفراش ورعود جسدي تثير برودة لا تستطيع ضآلة الحافي أن تخرسها. أتكرمش على نفسي أبحث عن شعلة تائهة من جليد جسدي لعلها تدفئني فأدخل جنة النوم، لكن آلة رأسي وحفيف أفكارها الثائرة يطفئان رأس أي شعلة تجرؤ وتدنو مني.
كان من بين أتربة الخيالات المتراصة سؤال واحد يلوط بعقلي: "هل يجحد عطية حبي ويتركني؟". لدغني السؤال المجنون فقررت ألا أفارقه هذه الليلة، فلا طاقة لي على احتمال أن يفعل، وسأنقم على هذا الليل لو تستر على خطوته وساعده على الهرب. رفعت سماعة الهاتف. جاءني صوته كالصدى المستسلم لسياط الفراغات الشاسعة. قلت له بلهجة تقصدتها أن تكون آمرة:
- اصعد الآن. وإلا سأقتل نفسي.
كالبرق جاء. لم أترك له فرصة ليجلس، حاصرته بذراعي ودخلت به غرفة نومي، وعلى سريري الذي شهد أحلام يقظتي هويت به. تمددنا متلاصقين يسري دفء واحدنا إلى الآخر. وكلانا يأمل أن تنفتح طاقة ليلة القدر لتقطف أمنيتنا ألا نتفارق.
هو الآن في سريري وبين يدي، ليس خيالاً بل حقيقة من لحم ودم ونبض. أمارس معه ما اعتدته في أحلام يقظتي من مباهج العشق، كانت أصابعه كالمحراث المصنوع من لجين تعض بتربة جسدي، كفاه تدعكان صدري، وأسنانه تلوك الحلمتين فأحسهما تكبران وتتورمان. أصرخ بتأوهات الألم واللذة. وبكل إثارتي أراوده أن يقترب من البوابة التي اغتصبها في قصر العجوز؛ لعله يغرس نبتة منه في رحمي لتكون "الأمر الواقع" الذي نواجه به أهلي المتجلدين، فقد تنفذ شوكة من الدفء إلى قلوبهم ويرضخون، لكنه ظل يبتعد كالمرة السابقة، والسر يحيرني: هل يلاحقه شبح العجوز فيخشى سوطه! أم يريد أن يبقيني طاهرة كطهارة حبه؟
أرخينا جسدينا لنرتاح. رأسي مدفون في حشائش صدره، وأصابعه بنعومة تحنو على شعري فتجلب النعاس إلى جفوني. لا أدري كم من الوقت غفوت قبل أن يوقظني بقبلات سرت على وجنتي سريان جدول. وقف يرتدي ثيابه فجزعت:
- إلى أين؟
- أتركك لتنامي.
بإصرار قلت:
- لن أتركك تذهب. ستبيت الليلة عندي.
جلس على طرف السرير تأبط صوته كل حنانه:
- اسمعي يا نادية.. يمكن أن أعاند أهلك وأبقى، وأحارب الدنيا، لكنني....
تلعثم صوته وخرجت الكلمات تلسعني كالجمرة:
- لا أستطيع أن أتزوجك.
بجزع واستغراب وصوت يتقهقر بدمعه:
- هل أصدق ما تقوله يا عطية؟ ترفضني رغم كل هذا الحب؟
- أرجوك لا تسيئي الظن بحبي. إنني أتمنى. وهذا شرف كبير لي ولكن لدي سيبي.
- من حقي أن أعرف السبب.
هز رأسه هزات مضطربة:
- صعب... صعب.
قالها متأففاً ليثنيني عن إصراري، لكنني أعطيته وعداً كاذباً ليعترف:
- أعدك.. لو أقنعني سبيك أوافقك على الرحيل.
أطرق برأسه وجسده ينتفض وكأنه أصيب بمرض الرعاش:
- تلك الليلة في القصر ستبقى حائلاً.
صرخت فيه:
- لكنني نسيتها يا عطية وغفرتها لك.
جعر بصوت كمن يصفع نفسه ويبصق عليها:
- أنت نسيت. لكنني لم أستطع أن أنسى أو أغفر لنفسي. تلاحظين كلما اقتربت منك...
حاولت أن أبرر له:
- ربما بالزواج تزول هذه الحالة.
- أرجوك لا تعذبيني، سأرحل. وإلا أنا الذي سأقتل نفسي.
وقف تاركاً لساني يلوج بصمته. عيناي تموجان بالدمع المحموم؛ وأطرافي تتراخى وكأنها حقنت بمصلٍ مخدر.
تأملته في امتداده وشموخه. كان مثل شجرة سنديان عريقة تخبئ آلاف العصافير والجداول في قلبها. لتحرسني وتسقيني أنا المتربعة في القلب كله. كيف يمكنني أن أفارقه. رجل مثل عطية لا يمكنني التفريط به. حدقت بعينية الدامعتين، كانت فيهما آلاف الكلمات التي تكبح جماحها. لكني أحسها تتناثر علي كالقبلات والمطر.
انحنى نحوي مثقلاً بحزنه. غطى جسدي باللحاف البارد برقة وكأنه يخشى أن يخدشني به ثم انهال علي بقبلات ينذر رحيقها بأنها القبلات الأخيرة. وحين أقفى ليخرج كنت أسمع زحف قدميه على الأرض؛ وكأنهما تزحفان إلى قبر، ورائحته التي أعشقها تغادره وتنهمر علي سيلاً دافئاً يخترق ضلوعي ويتوزع فيها كالأثير. نهضت، لحقت به. ضممته أحاول أن أبقيه، لكنه مشى بي إلى باب الشقة، وما كاد يحرك أكرة الباب حتى هاجت أصوات عصافيري النائمة. كانت تغاريدها صراخاً، شجناً ونحيباً. كانت مثل قلبي تستصرخه ألا يطفئ شمسنا وينيص ضوء قلبينا. تمسكت بتلابيبه وصوتي يقطر بضعفه:
- أرجوك يا حبيبي لا تتركني، ابق لي حتى وإن لم نتزوج. لا أطيق فراقك يا عطية.
نشجت.. فالتقم شفتي ودموعه تغرق وجهي، وهمسه العذب يصب في أذني:
- آآه يا حبيبتي... ليتني أقدر.
تخلص من ذراعي بصعوبة، وفر منحدراً الدرجات تاركاً قلبي يلعق أساه، وروحي الذائبة المهشمة تهرول وراءه وتهمس:
- آآآآه يا عطية... كم أغبطك رغم ما أعانيه، فأنت الآن السيد الحر الذي يتخذ قراره ببسالة الفرسان، بينما أنا - العبدة - الضعيفة أكمن في أسري، وأنتظر من يمنحني شهادة عتقي.
* * *
[كتبت في عامي 2004 - 2005 ما بين الكويت وصنعاء]
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا