11)
كانت تجلس في غرفة العزف تعزف على البيانو نوتة موسيقية لم أميزها في البداية، يقف بجانبها شاب يبدو أكبر منها بعدة سنوات قليلة، يستمع في اهتمام، ثم يصفق ويعطيها إرشادات، فتعزف من جديد بحماس، وهو يستمع أيضاً بحماس كبير، كانا يتحدثان بصوت عال لكنه غير واضح، وفجأة تحول حديثهما إلى همس بعد أن تلفتا وأنصتا خشية أن يسمعهما أحد في الجوار، كانت تهمس في أذنه وتتلفت حولها.
لكنني رأيت شخصا آخر يراقبهما من خلال النافذة الزجاجية لباب الغرفة، لم أستطع أن أرى وجهه، اقتربت هي مرة أخرى من صديقها لتخبره بشيء، فلمحت هذا الغريب الذي يراقبهما، فتحولت عيناها إلى اللون الأحمر! وبدت ملامحها مخيفة إلى حد بعيد! في حين لم يلتفت صديقها الشاب أبداً، فجأة اختفى هذا الرجل المتنصت عليهما، وبدت كأنها لمحتني أنا! ثم وجدت نفسي أقف مكان الرجل المتنصت لا أدري كيف حدث هذا!
نظرت إلي في غضب وكدت أموت خوفا، أردت أن أوضح الأمر فلم أستطع، فبيني وبينها حاجز غريب، أراهن أنها لن تسمعني، ابتعدت فاقتربت هي وفي يدها شيء لم أره من شدة الرعب.. أوشكت أن تخترق الحاجز وتلمس جبهتي، فصرخت مرة أخرى.. ونهضت من نومي يتقطر العرق من جبيني وسط أنفاس لا ألتقطها.. فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.
وجدت نفسي لأول مرة في حياتي أهاتف رجلا وقت الفجر، كان يونس أول شخص أفكر فيه كي أحتمي به.. جاء صوتي باكيا مرتعشا فجاءني صوته قلقا مهتما، حاول تهدئتي دون جدوى وأخيراً تحدثت في تلعثم واضح:
يونس.. أريد أن أراك الآن..
كابوس آخر؟
بكيت على الفور، مرت ساعة ثم هاتفني يونس مؤكداً أنه ينتظرني أمام سينما "فاتن حمامة" بالمنيل، كانت السينما قد خربت الآن لكننا ما زلنا نطلق عليها سينما، فهي أقرب نقطة التقاء لبيتي، كنت قد استعددت واطمأننت أنني لم أزعج أمي.
كانت المسافة بين غرفتي وغرفة أمي تخدمني في هذا الأمر، فمنزلنا واسع المساحة عتيق التصميم، غادرته مع أول شعاع نور يشق السماء، في طقس بارد لا يدعوك إلا لمشاعر متضاربة بين يأس وهروب، مشيت شارعا طويلا وسط نباح كثير من الكلاب الضالة، كنت أنا المارة الوحيدة في الشارع بأسره في هذا التوقيت، رأيت أنوار سيارة يونس من بعيد تطفأ وتضاء في انتظاري، أسرعت الخطى حتى أراه وآنس بوجوده ورائحته التي أحببتها.
فتحت باب السيارة وركبت، فأغلق يونس زر التحكم في الأبواب من الداخل حتى شعرت بالأمان معه لفعله أشياء عادية يفعلها كل من أعرفهم ولا أطمئن بجوارهم! نظر إلي في قلق ومسح دمعة جرت على وجنتي لم أشعر بها، ثم نظر أمامه وأنطلق في الطرقات، مضت لحظات صامتة لم نتحدث فيها، تفكيري في شعوري الحقيقي تجاهه غلب على تفكيري في كل ما يدور حولي وعلى أحلامي عندما رأيته.
لماذا أريده بجانبي لهذا الحد؟ لماذا أريده هو بالذات في أحلك أوقاتي وأشدها صعوبة؟ هل أثق فيه حد المجازفة؟ أم أنني أحتاج إلى السند الذي فقدته بفقد أبي؟ أم أنه هو الرسالة الأهم التي أنتظرها في حياتي؟
"ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟ ألا يسرقنا الوقت، لذلك سوف أفصح عن شعوري بشجاعة بلا خوف، لأنه لا حياة مع ضعف وتردد.. فالحياة تعطينا ما حاربنا من أجله وليس ما طمحنا إليه دون بوح".
أردت أن أعيش الحاضر بكل ما يحمله من آمال وخيبات ومغامرة، فتوقفت عن التفكير، ووثقت لا إراديا بقلبي للمرة الثانية، وقررت أن أصارحه بما أشعر به، لم أبال بردة فعله، لم أبال إذا ما رأيته نسخة من شخص صارحته فخذلني في الماضي، كان قلبي صادقا معي منذ البداية لكنني تجاهلته، لم يكذب على قلبي بشأن الأشخاص ولم يخذلني أبداً لكنني فعلت، أخذت نفسا عميقا جعل يونس ينظر إلي قلقا، نظرت إليه وطلبت أن يتوقف بالسيارة في أي مكان، كانت عينيه مرهقة من أثر مرضه واستيقاظه مبكراً، نظر إلي في جدية وتوقف عند أقبر مكان مناسب بكورنيش النيل، التفت بجسدي نحوه وقلت في نبرة ثابتة.
يونس.. لا تقاطعني حتى أنتهي.
بدت نظراته أكثر جدية وأومأ برأسه بالإيجاب، كنت أنظر إلى الطريق أمامنا، إلى السيارات القليلة المسرعة التي تتجاوزنا، ثم استرسلت في هدوء دون أن أنظر إليه.
سوف أتحدث في عشوائية ولا منطقية تامة لا تمت إلى شخصيتي بشيء، يونس.. أنا أطمئن إلى جوارك ولا أعلم لماذا؟ أكون أنا عندما أكون مع ك.. دون رتوش أو تجميل، في أشد أوقات حياتي ظلمة ظهرت أنت، ولا أرى غيرك حينما أواجه مثيلاتها مرة أخرى، أتذكر وجهك في انتصاراتي الصغيرة.. بل أود لو أن تكون معي حينها، أستطيع أن أقول: إنني لن أخجل إذا ما رأيت كل ضعفي، آلامي، شكوكي وخيبات أحلامي، أنا لا أعلم لماذا أنت، ولم أخطط أن أقول ما أقول منذ ساعة مضت، وهذه هي حلاوة الأوقات معك، إنها تأتي طبيعية خالية من الأشياء الروتينية، أنا حقا لا أعلم لماذا أقول كل هذا الآن في وسط كل هذا الخوف والتساؤلات والكثير من الأشياء اللامنطقية!
توقفت عن الحديث ولم يقاطعني ولم أنظر إليه ولو مرة واحدة، ساد الصمت، ارتجف عقلي وأعاد علي السيناريو القديم المتعفن فلم أتحمله، هل يخذلني يونس؟ لكنني لم أقل إلا الحقيقة، فهل تأتي الحقيقة من باب واحد فقط لتصطدم بحائط؟ أم أنها تدخل إلى الباب المقال المفتوح؟ لم يتخل يونس عن صم ته، فقررت أن أواجه عيناه وأواجه قلبي معه.
نظرت إليه، فوجدت وجه رجل وسيم تبدل إلى وجه طفل يترقرق دمعه أمامي في فرحة دون خجل، كانت فرحتي به وبصدق قلبي تدعوني بشدة أن أحتضنهما معا وبقوة، ابتسمت له وتبدل الصمت إلى لغة أخرى لا يعرفها إلا المحبون، نعم أستطيع الآن أن أفهم معنى الحب، فاض الدمع من عيناه فأسرع في مسحه وابتسم، فابتسمت فضحك فضحكت، أخيراً تحث يونس في فرحة واضحة.
لم أكن لأحلم بنصف كل هذا.. حديثك هذا كان حلما بعيداً، كل ما تمنيته أن تكون بقربي في يوم من الأيام، لا أنكر أنني تجرأت في بداية الأمر واقتحمت خصوصيتك وبيتك، لكن الله كان قد هيأ سببا قويا لذلك، أردت بصدق أن أكون عونا لك، يعلم الله أنني لم أنو استغلال الفرصة، كان لابد أن أذهب لبيك وأراك وأطمئن عليك، وكنت قد فكرت مراراً كيف أجعلك تنتظمين في حضور المحاضرات وكل تلك الأمور المتعلقة بالدراسة حتى أتقرب منك.
سكت عن الكلام ونظر إلى عيني مباشرة، فنظرت إليه كأني أراه أول مرة.. فقال في حنان:
كنت على يقين أن بابك سوف يفتح لي يوما ما، أنا أصدق قلبي يا فريدة.. الصدق يصل بقلب صاحبه للأمان مهما طال الزمن، أردت بشدة أن أكون مصدر أمان لك وها أنت لا تطمئني إلا بجواري، فريدة.. أنا سعيد.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا