فان جوخ
ظلت حالات الهياج الجنوني تعاود الرسام العالمي الأشهر فان جوخ التي كانت تنتابه من حين لآخر حتى قام في إحداها بقطع أذنه وربط رأسه المصاب ثم قدم الأذن المقطوعة في لفافة إلى محبوبته التي طلبت منه أذنه خلال إحدى مداعباتها له وعندما عاد إلى بيته أغمى عليه ولم يفق إلا في المستشفى.
وعندما استرد صحته طاردته أنظار أهل البلدة وصيحات أطفالها.. فانهارت أعصابه ولم يجد أخوه بدا من نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية بالقرب من "أرل" وهو المستشفى الذي مكث فيه عاما، وسمح له بالرسم فيه فظهر في لوحاته بهذه المرحلة شيء من عنف نوبات الصرع التي تعرض لها وعندما نجح أخوه في بيع إحدى لوحاته بمبلغ 400 فرنك، اقترح أن يستخدم هذا المبلغ في الاستشفاء بمصحة خاصة قرب باريس.
ودخل فان جوخ إلى "مصحة سان ريمي" التي يشرف عليها دكتور جاشيت وهو من هواة الفن لينسج آخر الخيوط في قصته الحزينة، لقد عاش يعاني الخوف الدائم من شبح الموت الذي يطارده يتعلق تعلقا لاهثا بالحياة من خلال ديمومة اللوحة وحيويتها، وعلى قدر اندفاعه برغبة دفينة تجاه الموت كانت لديه رغبة أعمق في الهروب ومقاومة الموت من خلال بث الحياة والحرارة والعاطفة في لوحاته الخالدة، إنه ودون وعي منه كان يرسم حياته كلها كلوحة فنية نارية تتعدد فيها الأماكن والوجوه وقصص الحب المريرة ولحظات الإلهام الخاطفة.
وقد أمضى دكتور جاشيت أوقاتًا طويلة في صحبة مريضه جوخ، ولكن نوبات الصرع راحت تتوالى بانتظام عليه وسئم جوخ الحياة.. فخرج إلى حقل مجاور وأطلق على نفسه الرصاص ولكنه لم يمت على الفور حيث نقله "تيو" المستشفى التي مات به بعد يومين وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره بعد أن رسم أكثر من 700 لوحة وحوالي 1000 رسمة، كتب بها اسمه في قائمة الخالدين وأصبحت لا تقدر بملايين الدولارات.. وهو الذي كان يعيش أيامًا بأكملها على رغيف خبز واحد!
وهكذا رحل جوخ في شهر يوليو عام 1890 بعد حياة خاطفة كالومض، عاش خلالها وهو يعاني سلسلة من الكوارث والهزائم النفسية حتى وصل إلى حافة الجنون.
وقد كتب فان جوخ خلال الساعات التي سبقت انتحاره العديد من الرسائل والخواطر إلى أخيه "تيو" والتي تضمنت آراءه في الرسم والنقد والمجتمع وعن نفسه وغيرها العديد من الأمور، وتم تجميع أرائه هذه في ثلاث مجلدات.
وفي ختامه للرسالة الأخيرة التي كتبها فان جوخ إلى أخيه تيو والتي وجدت في جيبه في اليوم الذي مات فيه، بعد يومين من إطلاقه النار على نفسه منتحرا وسط الحقول التي كان يرسمها في كل فصل من فصول السنة قال: "حسنًا.. ففي نهاية الأمر لن يتحدث عنا سوى لوحاتنا ".. وفعلا منذ ذلك الحين تحدثت لوحاته عنه لجميع شعوب العالم!
لقد عاش فان جوخ حياة قصيرة ومأساوية ومات فقيرا مغمورا لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة لكن الهوس بأعماله جاء متأخرا بعد موته.
لقد قضي جوخ الجزء الأكبر من حياته في معاناة وحزن وبؤس فلم يعرف معنى السعادة والرخاء سوى لفترات قليلة تعد من اللحظات النادرة في حياته، وعلى الرغم من هذا تمكن من أن يقدم للتاريخ الفني واحدا من أعظم فنانيه فأثرى العديد من المتاحف بأعماله الرائعة وتم تشييد متحف باسمه في بلده هولندا بالعاصمة أمستردام يضم مجموعة كبيرة من أروع أعماله. ومن المعروف أن جوخ ينتمي إلى المدرسة الانطباعية المتأخرة وتباع لوحاته اليوم بملايين الدولارات وأشهرها دوار الشمس وزهرة الخشخاش والبورتريهات الحزينة التي رسمها لنفسه ولآخرين وتبدو كأنها على حافة الجنون والانهيار النفسي كصاحبها!
مات معدما هزيلا نحيلا مهووسا، بعد أن طارده المرض وقذف به إلى مصحة عقلية، مات فان كوخ ليبدأ العالم تذكره وكتابة اسمه في قائمة الخالدين بأعمالهم..!
مرت عليه سفينة حياته والتي واجهت العديد من الأمواج والتقلبات القاسية حتى وصلت إلى شاطئها الأخير في نهاية مأساوية لقصة حياة قصيرة خلفت وراءها أجمل اللوحات وأكثرها قيمة فنية ومادية.
جوخ هو اسم عظيم في عالم الفن التشكيلي، فهو الفنان الذي استطاع أن يحظى باحترام وتقدير وإعجاب مؤرخي ونقاد وعشاق الفن التشكيلي في كافة أرجاء العالم.. مما جعل أعماله تحتل مكانًا بارزًا ومتميزًا في متاحف العديد من الدول ولعل أشهرها متاحف موسكو ولينجراد.. وغيرهما.
بالإضافة إلى تلك الشعبية العارمة التي يتمتع بها في كافة دول أوربا وأمريكا وكذلك دول العالم الثالث التي لا توجد فيها لغة واحدة لم ينشر بها كتاب أو أكثر عن فان جوخ بغلاف الأفلام السينمائية والروائية والتسجيلية التي تناولت حياة هذا الفنان، وربما هذا الشغف كان السبب الأول في استمرار نشر واستنساخ لوحاته. فمن هو هذا الفنان صاحب تلك الجماهيرية الواسعة؟
وحياة "فان جوخ" المليئة بالأحداث والمآسي التي أثرت بلا شك في فنه وربما كانت سببا قويا في شهرته.
ولد فان جوخ في بلدة "زونديت بهولندا" عام 1853 لأب يعمل قسيسًا بكنيسة البلدة، وهو الأب الذي زرع في أعماق هذا الصغير من خلال الجو الديني الصارم الذي أحاط بالأسرة مثلًا عليا ربما كانت تصطدم كثيرًا جدًا بالواقع طوال حياة "فان جوخ".
جاءت ولادة فان جوخ بعد سنة واحدة من اليوم الذي ولدت فيه أمه "أنا كورنيليا كاربنتوس" طفلًا ميتًا بالولادة، سمي أيضًا بفنسنت. لقد كان هناك توقع كبير بحدوث صدمة نفسية لفنسنت فان جوخ كنتيجة لكونه بديل طفل " لاحقا. وإن له أخًا ميتًا بنفس الاسم وتاريخ الولادة.
وعندما بلغ فان جوخ السادسة عشرة من عمره اصطحبه عمه إلى مدينة لاهاي ليعمل معه في القاعة التي يديرها والمتخصصة ف التي يديرها والمتخصصة في بيع الأعمال الفنية سواء من الآثار القديمة أو من إنتاج الفنانين المعاصرين، وهي القاعة التي كانت تتبع مؤسسة جوبيل الشهيرة والتي يقع مركزها الرئيسي بباريس. ومن خلال هذا العمل تعرف فان جوخ على عالم الفن وتحمس لبعض الأعمال ولبعض الفنانين، ولهذا بذل جهده في إقناع عملائه بشراء أعمال هؤلاء الفنانين وبلغ من نجاحه أن قررت المؤسسة نقله إلى لندن ليدير فرعها هناك.
واستمر هذا النجاح الذي صاحبه اهتمام فان بمظهره وأناقته الشخصية إلى أن أحب إحدى الفتيات وتدعي "أرسيولا" ولكنه عندما طلب منها الزواج هزأت به وصدته في خشونة شديدة مما جعله يصاب بما يشبه الهوس الديني، فبدلا من أن يناقش العملاء عن جماليات اللوحات المعروضة بالقاعة التي يديرها أخذ يحثهم على الدين مما جعل الشركة تنقله إلى باريس حيث تدهورت حالته النفسية وانطوى على نفسه وأصابته الكآبة.
وقبل أن تقرر الشركة فصله كان قد قدم استقالته عازمًا على تكريس حياته للخدمة الدينية بعد أن اتجه إلى لندن ليعمل كمدرس للغة الفرنسية، ولكن جولندن المظلم الكئيب وذكريات جرحه العاطفي جعلت حالته النفسية تزداد سوءًا فعاد إلى هولندا حيث التحق بمعهد لاهوتي في "أمستردام" وعكف على الدراسة الجادة ستة أشهر حتى أصابه الملل وقرر أن يعمل واعظا بين عمال المناجم والفلاحين في إحدى قري بلجيكا حيث عايش المرضى بحمى التيفود وحاول تخفيف آلام الاحتضار عليهم، وسهر مع الفقراء والجرحى، متخطيًا بذلك الحدود المرسومة له كمبعوث ديني إلى نوع من الامتزاج والتوحد الكلي حيث يقضي أيامه ولياليه بين هؤلاء لا يأكل إلا معهم ولا يخصص الوقت الكافي لراحته ونومه.. بل ووزع عليهم ملابسه وأغطيته وأصبح يعاني من البرد والجوع إلى الحد الذي جعل مظهره يتدهور.. مما زاد من تعلق هؤلاء العمال به حتى طردته السلطات الدينية قبل أن يمر عام واحد على تسلمه لهذا العمل، وذلك لعدم اقتناعهم بطريقته في تطبيق التعاليم المسيحية على هذا النحو.
وهو الأمر الذي زاد من أزمته النفسية حيث شعر بالفشل في كل ما أسند إليه من أعمال بجانب فشله في حبه، ولكنه قرر ألا يستسلم.. فما لبث أن كتب لأخيه "تيو" ليقول له: "إنني بالرغم من كل شيء سوف أنهض ثانية.. سوف أتناول من جديد ريشتي التي تخليت عنها في أيام انكساري، وسأعود للرسم والآن يبدو لي كل شيء وقد تغير".
ومنذ ذلك الحين آمن "تيو" بأخيه فان جوخ وسنح له الفرصة ليخرج أعظم الأعمال الفنية.. حيث لم ينقطع تيو طيلة السنوات العشر التالية عن بذل المعونة المالية لأخيه وتشجيعه ومساعدته بكل ما استطاع توفيره من دخله المتواضع.. وببلوغ فان جوخ السابعة والعشرين من عمره التحق بأكاديمية الفنون في مدينة "انفري" حيث بدأ حياته في عالم الألوان.
عكف على رسم الفلاحين الهولنديين وعمال المناجم والبؤساء مسجلا ما نقش في مخيلته من ذكريات في مجموعة من اللوحات الحزينة القاتمة القوية التعبير وهي المرحلة التي يطلق عليها في فنه المرحلة الهولندية التي امتدت ما بين عامي 185، 1855 وفي العام التالي رحل فان جوخ إلى باريس للإقامة مع أخيه في أستوديو بحي "مونمارتر" حيث كان أخوه تيو من تجار الصور المهتمين بتتبع الاتجاهات الحديثة في الفن، فقد كان مديرا لفرع إحدى المؤسسات الفنية.
هذا الفنان العبقري لم يكن يرسم كثيرًا فقط، بل كان يكتب أيضًا بنفس الحرارة والتوهج كما هائلا من الرسائل والخواطر إلى شقيقه "تيو" والتي جمعت في كتاب من ثلاث مجلدات تضمنت آراءه في الرسم وفي النقد والمجتمع والمرأة وعن نفس في أغلب الأحيان.
وسعد فان جوخ كثيرًا بصحبة أخيه بعد ما قاساه من وحشة وحرمان وكذلك سعد بحياته الجديدة في باريس.. فما لبث أن تغيرت ألوانه القاتمة وحلت محلها الألوان الزاهية البراقة التي ربما عكست رؤيته للحياة في تلك الفترة، والتي اتجه فيها إلى دراسة النظريات والأساليب الفنية الجديدة ومناقشتها مع أصحابها بل وتجربتها في لوحاته، كما تعرف خلال هذه الفترة على عدد من الفنانين الشباب ومنهم "تولوزلو تريك وبول جوجان".
كما تأثرت لوحاته بالرسوم اليابانية المطبوعة.. ثم ظهرت تأثيرات تجارب زملائه المعاصرين على فنه، وبعد مضي عام آخر كان قد استوعب كل ما حوله من تجارب ليصبح مهيئًا لمرحلة ناضجة استغرقت بقية حياته..
واستمرت إقامة فان جوخ الأخيرة في باريس لمدة عامين إلى أن قرر فجأة في فبراير عام 1888 السفر إلى بلدة "أرل" بمقاطعة "بروفانس" في جنوب فرنسا حيث الشمس الساطعة طوال النهار والألوان المتوهجة وعكف خلال العامين التاليين على الرسم في سعادة وحماس لدرجة أن لوحاته في تلك الفترة تشع حيوية في ألوانها وشكلها.
ومع أنه كان يرسم بأسلوب لمسات الفرشاة المتعددة الألوان إلا أن لمساته في تلك الفترة كانت أعرض وأقوى.. وقد شرح طريقته في خطاب لأخيه يقول فيه: "إنني بدلًا من محاولة نقل الطبيعة بأمانة استخدمت الألوان بحرية ودون تقيد من أجل التعبير عن نفسي تعبيرًا قويًا".
وفي هذه المرحلة دعا بول جوجان إلى الإقامة معه وهو يحلم بإنشاء رابطة للفنانين وبأن يكون منزله هو نواة تحقيق هذا الحلم.. إلا أن وصول جوجان أعقبته المتاعب، فالمناقشات احتدمت والخلاف في الرأي اتسع والصخب الذي يثيره جوجان أينما حل أدى إلى توتر أعصاب فان جوخ حتى كان الانفجار عندما سخر جوجان من فكرة إنشاء رابطة للفنانين وعندئذ قذف فان جوخ محتويات كأسه في وجه جوجان ثم أغمى عليه، فحمله جوجان من المقهى إلى المنزل وأرقده في الفراش، وفي الصباح ندم فان جوخ وطلب من زميله الصفح، ولكنهما ما لبثا أن عادا إلى الشجار بعد منتصف الليل، وتطور غضب فان جوخ لدرجة جعلته يخرج موس الحلاقة ويشهره في وجه جوجان بل وجرى وراءه في الشوارع محاولًا قتله ولكنه عاد إلى بيته بعد أن أفاق وهو يشعر بحالة تمزق عنيف.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا