لم تحتمل أني قراري بشأن الشقة، ثارت وتشنجت، أبي لم يبد اعتراضاً، وتصرف بمنطقه المعهود:
- المال مالك وأنت حرة فيه.
التفتت إليه أمي شاحنة صوتها بالاعتراض:
- "أنت بتشجعها على الإسراف - ثم التفتت إلي - عطية ما راح يدفع إيجار الشقة".
استفزتني.. ولا أدري كيف في لحظة خرج عن حدود أدبي وصرخت:
- وهل تدفعون أنت وأبي وأخي إيجاراً؟؟
أحنى أبي رأسه وكأني رشقته بسهم. بينما تضاعفت ثورة أمي:
- "هاي آخرتها.. بتساوي بين أهلك والعبد".
أسرعت إلى أبي أحتضنه وخجلي يقطر مني:
- سامحني يا أبي. لا أقصد إهانتكم.. لكن أمي لا تريد أن تقتنع بأن عطية لم يعد عبداً!
رغم الذي طاله من قسوتي إلا أنه ناصرني والتفت إلى أمي:
- لا تنسي أن نايف أعتقه. هو الآن يعمل في وظيفة محترمة، ومن حقه أن يكون له سكن محترم.
هزئت أمي:
- "والله لو صبغتوه من راسه لساسه باللون الأبيض؛ ولو صار مدير عام للمكتب، رح يضل عبد ابن عبيد".
أدرك أبي أن نقاشنا الحاد سيسبب مشكلة كبيرة، ضرب على كف أمي برقة وبصوت واهن:
- خلاص. قلنا هي حرة. إن شاء الله تبني له قصراً، ما دخلك أنت؟
لاحظت أمي اصفرار وجه أبي ووهن صوته، فخشيت أن يفاجئه التعب. كظمت غيظها وهي تحدجني بنظرة قاسية وبصوت معبأٍ بالنفور:
- "اعملي اللي بدك إياه".
كنت أكيدة. أنني مهما حاولت مع أمي فإنني غير قادرة أن أحميها من مغبة الحقد على عطية، لكنني في محاولتي لقشع غضبها دنوت منها، قبلت رأسها وهمست:
- رضاك يا أمي...
خرجت إلى شقتي وقراري: "طبعاً راح أعمل اللي بدي إياه".
* * *
قمت بتجهيز شقة عطية بنفسي، جعلت ألوانها كألوان شقتي، ملأتها بأصص النباتات وأقفاص العصافير. علقت على جدرانها لوحات للبحر والغابات. انتقيت ألوان الستائر َبلون خطوط الأرائك. وضعت له مكتباً في الزاوية المطلة على الساحة. جهزت المطبخ ووضعت طاولة صغيرة في وسطه مع كرسيين لا ثالث لهما. كنت وأنا أرتب الأثاث أضع في حسباني أنه لن يكون وحيداً، وحين اشتريت السرير وجدتني أختاره عريضاً يتسع الشخصين. وقفت أتأمله بعد أن فردت عليه الغطاء الليلكي وخيالي يشطح بي إلى أحلام عطية، فربما هو يستحضرني أيضاً. فأردت أن أهيئ له مكاناً لائقاً يناسبني حجمه وتعجبني ألوانه. كنت كمن أعد بيتاً لي وسريراً لي وليس لعروس وعدت عطية أن أزوجه بها.
لم أترك لعطية فرصة ليرى الشقة قبل أن أتمم تجهيزها. كنت أريد أن أفاجئه بها. دخلت مكتبه، كان غارقاً في تدبيس الأوراق ورصها في الملفات. طرقت على الطاولة:
- اترك العمل الآن، أريدك أن تذهب معي.
قلب يده وحدق في ساعته:
- العاشرة والنصف.. قد يحتاجني فيصل.
أسعدني التزامه.. طمأنته:
- ما عليك لقد استأذنت لك.
خرجنا... كنت، وهو يجاورني في السيارة، أشعر بحيرته وفضوله المكتوم الذي تعبر عنه التفاتاته السريعة نحوي. بينما أتشاغل عنه بتجاوز السيارات البليدة. لكنه لم يطق صبراً. حين توقفت السيارة أمام العمارة:
- ليش رجعنا البيت؟
- لا تسأل، هيا تعال.
لم أستخدم المصعد، قطعت الدرجات وهو يتبعني وإحساسي أن قلبه يخفق فضولاً وتوجساً. فتحت باب الشقة. جلست على أقرب أريكة وأخذت أراقبه وهو يتجول فيها مغموراً بدهشته. اقترب مني وأطلق سؤالاً ما توقعته:
- هل قررت أن تتركي شقتك وتسكني هنا؟
لم أتمالك نفسي، لعلعت بضحكاتي ودعوته:
- اجلس يا عطية.
جلس ولا تزال دهشته تملأ وجهه. ألقيت عليه بمفاجأتي:
- هذه الشقة لك.
هب مفزوعاً، مرتجفاً، فاغراً فمه وقد اتسعت عيناه وتوقدتا. أشفقت عليه وخشيت أن يتوقف نبض قلبه:
- شوف يا عطية. هناك حارس جديد سيتولى شأن العمارة ويسكن غرفتك، وأنت...
قاطعني وذراعاه تمتدان نحوي كمن يتوسلني:
- هل فصلتني من العمل؟ هل قصرت في شيء؟
سحبته من ذراعه وأجلسته عنوة بجانبي:
- اهدأ يا عطية - واستعرت كلمات أبي - أنت الآن تعمل في وظيفة محترمة. ولابد أن يكون لك سكن محترم
- ولكن!...
استدار يمنة ويسرة وذراعاه تشيران:
- هذا كثير علي. كيف سأعيش هنا؟؟
فاجأني حزن كبير، شعرت وكأنني قدمت له جحيماً يحرقه. وليس جنة يرتع فيها. أمسكت بكفه البارد المرتعش، طبطبت عليه بحنان صادق، وهمست:
- لا تستكثر شيئاً على نفسك، من حقك أن ترتاح.
ظل غارقاً في التوهان. دموعه محتقنات في عينيه، وهمهمات شفتيه مثل أنات الأمهات الفاقدات. قمت متثاقلة باتجاه الباب، ركض ورائي أمسك بكلتا يدي وانحنى يقبلهما بامتنان وصوته المترجرج بدمعه:
- سيدتي.. لا أعرف كيف أشكر فضلك.
نزعت مفتاح شقته من ميدالية مفاتيحي. سلمته إياه وخرجت.
* * *
لم يبق ما ينقص عطية غير السيارة، بجرأة طرحت الأمر على فيصل:
- أريد أن يتعلم عطية قيادة السيارة.
لم أكد أكمل جملتي حتى كان عطية يدخل برزمة أوراق فبادره فيصل:
- نادية تريدك أن تتعلم السياقة.
بسذاجة لم أتوقعها:
- من سيعلمني؟ عمتي نادية؟
ضحك أخي هازئاً منه:
- وكم ستدفع لها إن شاء الله؟
صدق السؤال وسريعاً أجاب:
- أعطيها كل معاشي... لأ، أعطيها كل عمري.
انكمش وجه فيصل وكأن عطية صفعه. تماسك وألقى عليه بالأمر:
- غداً تذهب إلى أحد مكاتب التعليم وتتفق على الوقت والأفضل ألا يتعارض مع مواعيد العمل.
بعد أن خرج عطية التفت فيصل إلي ولوم يفوح من نبرة صوته:
- يبدو أن تدليلك الزائد له كما تقول أمي قد جعله يتعدى حدوده.
حاولت أن أبدو هادئة:
- عطية إنسان بسيط لا يعرف قواعد الإيتيكيت.
- يا سلام.... ماذا يعني أن يعطيك عمره؟؟
- هذا دليل محبة ووفاء. لا تنس أنني شغلته وعلمته وسأزوجه و....
قاطعني محتداً:
- خلاص.. خلاص.. لم يبق إلا أن تعطيه أنت عمرك.
وجمت... ونظرة فيصل الغريبة تقتحم شعاب رأسي فخشيت أن تلتقط أسرارها وتكتشف أحلام يقظتي العارية معه. أزحت وجومي سريعاً وقلت:
- حين يتعلم القيادة سيريحك من مشاوير كثيرة.
* * *
الليل الحنون بصمته يكرمني بموائد الأحلام العامرة بلذائذ لقاءاتي بعطية. ومنذ أن مرض أبي، تقلصت أحلامي الممتعة، ولازمتني كوابيس مرعبة تفزعني من نومي وقد اكتسح الجفاف حلقي وكأنني عطشت أسابيع طويلة، فأظل أعب من الماء ولا أرتوي، وأبقى في فراشي يقظانة كحشرة معوقة. أستعيد أحلامي، أحاول البحث عن تفسير لها وفك رموزها، وحين لا أمسك بخيط رفيع يشدني، حيث لا خوف ولا تشاؤم، أتكئ على مقولة أمي "بتحلم بدارك بيصير لجارك". لكن الترسبات الثقيلة تبقى جاثمة على صدري، تدفعني أن أهرع إلى أمي في الصباح أفرغ عندها شحنتي وأنتظر أن تساعدني على غرف الموجع من تلك المخاوف، أقص عليها:
(البارحة رأيت نفسي أتجول وحدي في حديقة مهجورة، أشجارها صفراء ونباتاتها جافة، فجأة رأيت عائشة، فرحت أركض إليها لأحضنها، لكنها ابتعدت وهي ترفع كفها اليمنى أمام عيني فلمحت بإصبعها خاتم خطوبة يبرق بريقاً مدهشاً، أردت أن أمسك به لكنها بسرعة فائقة استلت الخاتم وقذفته بعيداً، طارت عيناي خلف الخاتم فرأيته يسقط في حفرة. وسرعان ما انتشرت غربان سوداء تحمل في مناقيرها حجارة كبيرة وتهيلها على الخاتم) أمي قالت "هادي بشارة بخطبة جديدة، راح تنسيكي كل متاعب الماضي".
وماذا عن هذا الحلم يا أمي؟ (رأيت أحد عصافيري الأقرب إلى قلبي هامداً في أرض القفص). قالت أمي "راح تشوفي بعد أيام إن عصفورة من عصافيرك باضت". أما الحلم التالي الذي أخافني أكثر (فقد رأيت نفسي أقوم من فراشي لأفتح النافذة، وما كدت حتى اندفع طائر أسود كبير، أسقط من منقاره رسالة مطوية وفر هارباً فزعت من نومي قبل أن أفتح الرسالة).. أمي اخترعت تفسيراً مضحكاً، قالت: "هذا الأستاذ عطية، بدو يجيب لك شهادة الدكتوراه".
كنت أصارحها بأنني خائفة. فتحاول أن تطمئنني "وكنت أحاول أن أصدقها لأرتاح.. لكن الصفرة التي تغشى وجهها وارتجاف شفتيها، ينبآن عن خوفها الذي تحاول أن تستره بضحكتها المفتعلة، أما أخي فيصل فحين أحكي له وأعبر عن قلقي، يضحك ساخراً مني: هل يعقل أن نكون عبيداً لأحلامنا؟ هذه مجرد أضغاث طعام، لا تتعشى في الليل. لكن الأضغاث تتوالى ولا يغيب عنها وجه العجوز نايف ولا وجه جواد. هذا يجلدني، وهذا يهددني.. فأشعر وكأنني على حافة وضعٍ متآكل آيل للسقوط.
* * *
صعدت إيمان إلى شقتي لتصحبني بحسب اتفاقنا إلى محل الحلويات والفطائر. اليوم عيد ميلاد أمي وقررنا أن نفاجئها بحفلة صغيرة. كانت تستعجلني وأنا من حمى فرحي أرتبك. فلا أجد محفظة نقودي فأفتش عنها في الحقيبة التي نقلت منها أغراضي، أجدها وأبدأ ألهث خلف نظارتي الشمسية، تبحث معي في الأدراج وهي تتأفف "إلبسي غيرها وخلصيني"، فأصر على ذات الإطار الأحمر الذي يناسب لون بلوزتي، حين وجدتها شدتني من ذراعي نحو الباب وهي تتذمر "هيا بسرعة قبل أن تقرري البحث عن شيء آخر". وأنا أغلق باب الشقة بالمفتاح قلت لها "أريد كعكتين واحدة بالشيكولاته التي تحبها أمي وأخرى بالفانيلا التي يحبها أبي". كان المفتاح يرتج بيدي فسارعت تأخذه مني وتقفل الباب وهي تقول "حين نصل إلى المحل تختارين ما تشائين. أف".
ما كدنا ننحدر درجات قليلة حتى هزتنا صرخة أمي الداوية كقنبلة. ودبيك أقدام أولاد أخي يهرع إلينا. وجوههم المصفرة تقابلنا ذاهلة دامعة "جدي.. جدي". كالسيل المندفع وصلنا لنصطدم بصخرة شجت قلوبنا. كان أبي ملقى على أرض الصالة بلا حراك. وأمي تشد شعرها تنتف منه الخصلات وتنحب بالصراخ "يا شحارك يا زينب.. يا مصيبتك السودة.. راح الغالي راح عمري".
سكان العمارة تهاطلوا. وعطية يصرخ بالهاتف يطلب الإسعاف ويطلب أخي وهو يولول "آآه يا عمي آآه يا عمي". وأنا أنوح على جسد أبي الهامد وحزني مثل صخرة جبلية تربض على روحي.
حين وصل الطبيب لم يقم بأية محاولة؛ فما أن وضع السماعة على صدره حتى أعلن بأسف أنه مات.
أغمض نهار الفرح عينيه، أفلش العتمة، رحل أبي. ترك البيت مثل جسد بلا نبض ولا رعشات، ترك أمي تهوي في أودية الحزن وأنهار الدموع، وتركني لمساحات الغد الغامضة.
يأتي نهار ويغيب نهار، وأضواء النهارات كلها تخبو خلف غلالات الشبابيك المسدلة. أمي جاثمة في الصمت، غارقة في كهولة مفاجئة. أحس بالتياعاتها الضروس تطحن بداخلها حتى غدت أشبه بعذق ذاوٍ منسدل إلى الأرض لا تحركه نسمة ولا تضخ إليه الحياة قطرة ماء. غابت ضحكتها المعرشة على وجهها، غاب زهو الأعناب على وجنتيها، عافت أثوابها الزاهية وتآلفت مع كآبة السواد، تركت شعرها مرشوشاً بالشيب بعدما كانت تحرص على صبغه ما إن تطل جذوره حتى لا يراه أبي، هجرت مطبخها الذي تعشقه وتتفنن في موائده، أدمنت القهوة والسيجارة التي كانت تكرهها وتمنعني عنها، عرش الأرق على لياليها وجافاها النوم إلا أوقات قليلة تغفو فأسمع غطيطها وكأنها سقطت في أعقار النوم، فأفرح أنها تجد فرصة لترتاح من عذابات الصحو والتفكير والبكاء. لكنها سرعان ما تفزع وتصرخ "شفته بمنامي. أبوك كان بيناديني بدو إني أروح لعنده".
ظلت أمي تفكر بالموت وتتمناه، صار حلمها الوحيد الذي تتصوره سيجمعها بأبي لتواصل حياتها الأخرى معه.
الأيام والليالي تكر وتفر بأساها. وأنا أتقاسم الصمت والصبر معها.. نلتهم السجائر ونحتسي المزيد من القهوة التي تصر أن تغليها بغلايتها القديمة. كانت أحياناً تواصل هذياناً أبكم لا أكاد ألتقط معانيه، لكنها تلك الليلة ونحن بالفراش أطلقت لسانها وكأنها تحدث نفسها "طلب فنجان شاي، رحت أعمله، كنت ماسكة الغلاية، سمعته يناديني مرتين زينب.. يا زينب، رديت عليه طيب أنا جايه، لكنه صرخ، خفت، اهتزت الغلاية بإيدي وانكب الشاي. ركضت لعنده لقيته واقف إيد على صدره وإيده التانية ممدودة مثل كأنه عم يطلب النجدة وقبل ما أوصل عنده كان وقع على الأرض متل ما شفتوا". أجهشت وهي تردد "يا ويلي عليك يا محسن. يمكن لو كنت استعجلت ولبيتك ما كنت مت". طوقتها بذراعي وأخذت أمسح دموعها وأرجوها:
- يا ماما لا تحملي نفسك ذنباً. هذا قدر الله.
أعطيتها حبة الدواء المهدئ وأخذت أداعب شعرها حتى تسرب النعاس إلى جفنيها فالتويت على نفسي أفكر بالذي قالته وأسأل نفسي: "هل حقاً تأخرت أمي عليه أم هو زيت عمره الذي نفد"؟
مضى شهر ونصف الشهر والبيت لا يفرغ من المعزيات والمواسيات. كانت أمي بحضورهن تخرج عن صمتها لكنها لا تتجول في دروب الأحاديث التي تسمعها بقدر ما تتحدث عن حياتها، وأوقاتها الدافئة مع أبي، وبعض ذكرياتهما الحلوة في حلب التي يسافران إليها كل صيف. ثم يفاجئها النشيج وتغص بدموعها وكأنه مات للتو.
* * *
ظلت أيامي مجزأة ما بين الحزن في شقة أمي؛ والشوق إلى شقتي التي هجرتها إلا في بعض الساعات حين أصعد لأتفقد عصافيري، وأفتح الشبابيك ليتجدد هواء الغرف. كان شوقي لسريري يدغدغني ما بين ليلة وأخرى، فأحن إلى أحلام يقظتي مع عطية الذي صرت لا أراه إلا قليلاً. تلك الليلة شعرت بحنين دافق أن أتعانق بأثداء الليل في غرفتي، ألتمس بعض الصفاء لروحي التي أكربها الحزن، وبعض المتعة لجسدي الذي صام. انتظرت حتى تسرب النعاس إلى عيني أمي وغاصت في شخيرها الهادئ. فتحت الباب بهدوء وخرجت. ارتقيت الدرجات بخفة وشوق وكأنني على موعد مع حبيب.
حين دخلتها فاح عطر روائحها المخزون. مزيج من دفء أرضٍ محناةٍ بحيضها وجص تندى بماء مملح، وأنفاس شمس نسيت غروبها ورحلت، وبحر تمادى بجزره فترك الصخور تفقس عطن سراطينها الميتة. كل هذا المزيج لم يستطع أن يغيب رائحة أحلامي الممتزجة برائحة عطية. فمستني كالنسمة ودفعتني إلى سريري لأبحث عنه. حين اندسست في فراشي. اكتشفت كم هو ضيق، وقارنته بسرير عطية العريض. تذكرت لحظتها نصيحة أمي "هاتي سريرك مجوز بكره بتتزوجي". أندم الآن وأشعر أنني أحصر جسدي وجسد عطية في مساحة لا تليق برياضة الحب التي نمارسها. تمنيت لو كنت في سريره أتمرغ عليه لا يسترني سوى غطائه الليلكي. لكنني هنا وحدي. أمضغ جوعي وأتلمظ خمائر صبري. والصمت يفلش عقاربه الجائعة فأسمع اصابها في عقرب الساعة المعلقة على الحائط وصراخها يتضاعف "تك.. تك.. تك" فأحسها مثل ملقط الشعر ينتف أعصابي. قمت إليها، نزعتها وألقيتها في قعر الخزانة وعدت إلى الفراش، أغمضت عيني وبدأ خطو الليل يسوقني من حزن ليالي الفاجعة إلى ربوات الأحلام وعطية يسبح في ألقها الهادئ. حين أقبل أفسحت له أكوان روحي بحماسٍ وشوق. بدأت دقات قلبي الكسلى تستفيق مثل دفوف مسها جمر متوهج، وعزفت خمائل جسدي الصامت فبدا ناعماً كملمس شجرة يانعة. يستعد لمارده الآتي من قمقمه ليكون ملك يديه. ها هو عطية يدنو إلي... صدره العريض أمامي مثل جنة تجذبني إلى ينابيعها وجوف غيمها، هو الصدر ذاته الذي تأملته في ذلك الحلم حين داهمني العجوز وناداه ليجلدني "صدر بحشائش قليلة يربض عليه نهدان ممتلئان تتوجهما حلمتان كبيرتان بحجم حبة العنب الأسود". اندفعت إليه ألتصق بالجنة الفاردة شراعها وذراعاه كمجدافين حنونين يحيطانني ويرصان رأسي فأسمع دبيك قلبه مثل هرولة الموج في يوم عاصف. كنت مثل عصفورة يطير ريشها ويتعلق بفروع شجرته الرطبة. شهقت ولهاً، بكيت فرحاً وشفتاه برقة تلعقان دموعي ولهاثي كصفير ناي مثقل بنغماته. ظل صاكاً علي حتى أوصلني إلى السرير فانسدلنا كشلالين أزيحت عن مصبهما الحجارة. استسلمت له بارتخاء لذيذ. كان شعري الطويل يموج على ذراعه، وشفتاه تطيقان على شفتي، وجسدي يدفأ بجسده وأنا ألج بارتعاشاتي دهليز المتعة ثم انسل منه كورقة نعناع معصورة يفوح بللها.
* * *
أي سر جعلني أحب عطية؟ هل هو اندفاع قلبي الذي تعذبت حتى ترممت أشلاؤه بعد تجربتي الخائبة مع جواد؟ هل هي أقدارنا التي يرسمها الله لنا فنمضي إليها مسيرين؟ أم هي فورة الجسد بعد الصبر والحرمان؟... أنا الآن ملء وعيي واكتمال نضوجي، لكنني الأرملة التي تصبح في مجتمعنا "سكندهاند" لا تتوقع عريساً إلا أرمل أو مطلقاً أو متزوجاً راغباً في زواج ثان للمتعة. كلهم يأتون مثقلين بماضٍ يربطهم بأبناء لا تخلو قلوبهم من كراهية لزوجة الأب. لذلك لم أكن أهفو إلى الزواج أو التفكير بما يطلقون عليه "عش الزوجية"، ويصورونه بأنه العش السعيد، بينما هو هش يبنى على كف عفريت.
أمي التي أنهت عدتها ونهضت من رماد حزنها، صارت تخرج وتزور البيوت التي انقطعت عنها، وبدأت تجلب معها طلبات الخاطبات وتحاصرني برغبتها:
- "لازم تتزوجي.. بدي أفرح فيكِ".
كنت أرفض، تارة باللين.. تارة بالغضب.. ومرات بالرفض الحاسم الذي يشعل فتائل ثورتها. كان فيصل يؤازرها وإيمان التي تشفق عليها تتوسلني:
- على الأقل وافقي على مقابلة الخاطب وتعرفي عليه.
- يا إيمان أنا أصلاً أرفض فكرة الزواج بهذه الطريقة.
- وأي طريقة تريدين؟
- الحب... أريد أن أحب وأتزوج بالذي أحبه.
تفرست إيمان في وجهي بنظرات حنونة وكأنها تود لو تسألني "هل تعيشين حالة حب؟". فكدت في لحظة عارية عن الوعي أن أنزع دروعي الواقية وأعترف لها "نعم أحب عطية"، لكني سرعان ما تنبهت وأدركت أتني باعترافي سأبذر الريح في فمها وأنها - من هولها - لن تتأخر عن نفخها إلى أمي وفيصل، عندها سأكون وحدي في مهب رياحهم الساعرة، وجبروت قلوبهم التي لن ترحمني، ولن ترحم عطية الذي خطوت إلى بحره بملء إرادتي. حافية تلسعني حرارة الرمل وتمزقني نتوءات الحجارة. لكنني وأنا في غمرة اندفاعي أحس بشيء كالمسمار يثقب غلاف عقلي ويربكني. فأدرك أنها غريزة من الغرائز المرتبطة بالحب "آفة الخوف" التي تتسلل مثل دودة جائعة لتقتات من أعصاب المحبين. كانت الدودة في زحفها تشدني إلى تجربتي مع جواد، فتأتي صورته وكأنها تنذر بمصيبة جديدة. لكنني رغم زحف الدودة أتشبث بمشاعري تشبث الغريق بقشة، وأترك لقلبي أن يثب جامحاً رغم يقيني أنه سيواجه التعثر والخيبة. وقد تضيع السنوات كما ضاعت وأنا متعلقة بجواد حتى استطعت أن أنساه.
لم أكتف بلقاء عطية في العمل، ولا في شقتي لأي سبب أخترعه، ولا في أحلام يقظتي التي أتقلب فيها على فراش ينفخ الصمت عليه ويلهبه. صرت أجر وأدعوه إلى الغداء أو العشاء في المطاعم الصغيرة البعيدة. وفي مشاوير أخرى أغلبها إلى البحر الذي يثير أحاسيسي الناعمة، نفترش سجادة صغيرة ونجلس عليها معانقين مرايا الماء الأزرق أو نتمشى حفاة على الرمل المبلل. استغرق عطية ذات يوم في سهوة أثارت فضولي فسألته:
- هل تحت البحر يا عطية؟
قال دون أن يلتفت نحوي:
- كثيراً... خاصة أنك تحبينه.
أسعدني رده، كان كالعطر يرش على قلبي، ويؤكد لي أنه يحمل في قلبه مشاعر لا تقل عن مشاعري نحوه. واصلت اسئلتي:
- هل تتقن السباحة؟
استدار نحوي، ابتسم ابتسامة هازئة وحزينة:
- عمي نايف لم يترك لي فرصة لأتعلم أي شيء.
قلت وأنا أشير له إلى البحر:
- بسيطة... تعلم الآن.
ضحك:
- أخاف.
اندهشت:
- معقولة؟ أنت تخاف؟ لماذا؟
- حين أنظر إلى البحر أتذكر أحلامي، دائماً أحلم أنني أغرق ولا تمتد إلي يد لتنقذني.
- حتى يدي؟
۔ حتى يدك.
قالها بأسى وبنكهة من يلوم وأكمل:
- لو كنتِ أنت من تغرقين لفعلت المستحيل لأنقذك، ربما عندها أتقن السباحة.
لسعني إحساس بالقصور والندم (مسكين يا عطية، أنت من هجمت ذات حلم وانتشلتني من القبر، طرت بي وأسقطت عني أقمطتي وكفني.. وأنا أتخلى عنك في أحلامك. لا تهم الأحلام يا عطية فلن أتخلى عنك في الواقع ولو سوروا المدينة كلها من حولي بالأسلاك الشائكة وبالكلاب البوليسية وبالنار. سأدافع عنك.. سأدافع عن قلبي).
تماديت في جرأتي بالاقتراب من عطية. صرت أسقط الستائر الحديدية عن حبالها وأترك الهواء يطير بي باتجاه رفيق أحلامي. ذات ليلة شط بقلبي الشوق إليه بعد أن عصيت علي أحلام يقظني. تسللت إلى شقته، طرقت الباب، حين رآني رفرف بالفرحة وانطلق من عينيه سؤال حائر عن سبب مجيئي. لم أفكر بحياكة حجة ملائمة. كنت مثل المسحورة تلبي نداء ساحرها وتنتظر منه السؤال. فتلتمع عندها الإجابة كالبرق الخاطف. تخابثت وشعوري أنه التقط خبثي وفهمه:
- جئت لأرى إن كنت تهتم بنظافة شقتك.
أفسح لي لأدخل. دعاني إلى الجلوس. أسرع إلى المطبخ وعاد بكوب العصير. قمت أتجول في الأركان مبدية إعجابي بنظافتها وترتيبها. وبدأ قلبي يخفق سريعاً وأنا أقترب من غرفة نومه. كدت أتراجع لولا أنه سبقني وفتح الباب. ما إن دخلت حتى فاحت على تلك الرائحة التي أشمها في أحلامي معه. هل تراه يسرق أحلامي أم أنا التي أسربها إليه؟ وقفت أتأمل السرير العريض، أتشهى أن أتمرغ عليه ليصير الحلم حقيقة. كادت أوهامي تنسيني وجوده لولا أنه تنحنح فتنبهت وألويت أفر إلى الصالة تاركة أحلامي وحدها تتمرغ على السرير.
جلسنا على الأريكة. مرت ومضة صمت شفيفة قطعتها بسؤالي المفاجئ:
- ألا تشعر بالوحدة يا عطية؟
هر رأسه عدة مرات قبل أن يجيب:
- أشعر... ولكن ماذا أفعل؟
- خلاص.. سأبحث لك عن العروس التي وعدتك بها.
انتفض:
- لا.. لا أريد أن أتزوج.
نط قلبي من فرحته، وألهبه الفضول لأعرف الذي قد يشفي توقعي:
- لماذا.. ألم تكن ترغب في ذلك؟
استدار برأسه ليداري عينيه:
- لأنني اشترطت أن تكون مثلك ولا أظنني سأجد.
حين لم أنبس؛ استدار إلي ثانية وحدق في بنظرات غريبة وهو يكاد يلتهم وجهي كله. أردت أن أصطاد سراً غامضاً. هل هي نظرات حب أم مجرد إعجاب بامرأة جميلة تتنازل وتهبه لحظات أنس حين تدعوه أو تجلس معه! لكنه سرق الفرصة مني، هب واقفاً، سأل وهو يأمل أن أستجيب:
- هل أعد عشاء خفيفاً؟
أدركت أنه يريد الهرب. ساعدته ليخلع رداء حرجه، وافقت. ورافقته إلى المطبخ، أخذت أراقبه وهو يعد الأطباق ويزينها بأوراق البقدونس وبالطماطم التي قصها على شكل وردة. أثار اهتمامي:
- أين تعلمت كل هذا؟
أسعده إعجابي فتباهى:
- من التلفزيون. أحرص على مشاهدة برامج الطبخ.
جلسنا... تلك هي الطاولة التي أعددتها لشخصين مرصوصة بالمشهيات، وبكوبين من الشاي بالنعناع. كانت الطاولة واحدة من أحلامي، وكنت أتمنى لو تجمعني معه صدفة على وجبة شهية كهذه. هل تراه حلم أيضاً وهو لذلك لا يريد أن تحتلها امرأة غيري؟ التهمت الطعام بتلذذ عجيب، وكلما كدت أنتهي كان يضيف المزيد حتى منعته:
- خلاص.. صابر مثل أمي تريد حشوي كالأوزة.
عدنا إلى الصالة. جلسنا على الأريكة ذاتها. ظل صامتاً. تركته لحظات وإحساسي أنه يتوه بأفكارٍ متلاطمة.. ثم بترت الصمت:
- بماذا تفكر يا عطية؟
اندفع وكأن الكلمة كانت كالحصوة تسد حلقه فأراد قذفها:
- بك...
فاجأتني جرأته. لكني فرحت وقبضت على أجنحة قلبي خشية أن يفضحني حفيف فرحها. التجم لساني ومن طرف عيني لمحته بعض على شفته السفلى وكأنه يعاني من ندم. بدا متوتراً وغارقاً في رهبة من كسر جداراً محرماً وأفشى ما وراءه. أشفقت عليه، مددت كفي، حضنت كفه اليمنى فتفشى عرقها إلى كفي الباردة، كنت أسمع نبض قلبه المتسارع، وأنفاسه التي تتلاحق وكأنه يخوض سباق مسافات طويلة. كنت مسحورة.. وفضولي الشفيف يريد أن يصل بي إلى الحقيقة منه، همست وعيناي مسدلتان:
- بأي شكل تفكر بي؟
- سي.. د.. تي... أن.. أنا.. أن...
رفعت عيني إلى وجهه، تأملته.. هو وجهه منذ أن عرفته بلونه، بتقاطيعه، لكن شيئاً جديداً كان يموج عليه مثل غيمة بلورية تسمح لضوء خافت أن يبرز. هو الحب يتلألأ على سماء الوجه الداكن. التصقت به وماتزال كفي تحضن كفه التي ازداد ارتعاشها، وجدتني بشغف أحثه:
- قل يا عطية.. لا تخف.
رفع ذراعه الأيسر، مطه على ظهر الأريكة خلفي. أحسست بأطراف أصابعه تلامس شعري بحذر ليبدو وكأنه غير قاصد. وكفه المحروسة بكفي تنسل لتسيطر على ذراعي. وذقنه يسقط على رأسي بحنان. توهجت كلي ولم أعد أطيق أن يكتم مشاعره ورغبته! أما رغبتي.. فقد كانت تؤججها رائحته التي تنثر بخار رغيف مخبوز للتو تملأني نشوة وتوقظ سواكن أحلامي.
باندفاع أسقط رأسي على خلية صدره المائجة بآلاف الأسراب من النحل. وهمست له بأمري الرقيق:
- ضمني يا عطية.
كأنه كان بانتظار لحظة كهذه. مثل تلميذ عاقبه أستاذه وسجنه في الفصل أعواماً وما إن قرع له الجرس حتى انطلق باحثاً عن دفء حريته. شدني إليه بعنف الولهان. أخذ يقبل شعري وكفي الحارسة كفه. تلاطمت النار في جسدي وكأنني في أحد أحلامي معه. نسبت من يكون ومن أكون. ألقيت أردية الفوارق كلها. دسست شفتي في عنقه أرتشف عرقه. أعطيته الحق أن يتحرر من خوفه وتردده، رفع وجهي إليه وحرارة وجهه تذيب الجليد وتكويني والمسافة بيننا تضيق... وتضيق.. حتى لم يعد يفصل بين شفتينا سوى بللهما.
* * *
هل جننت؟
أم تراني غيبت عقلي كما أغيبه في أحلام يقظتي فكسرت كل الحواجز، وجعلت خطوة عطية التي كانت تعرف حدود بوصلتها، تقطع به المسافات وتلقي به في خضم بحري؟ ها هو قد اخترق الأمواج الشاهقة حتى وطئت قدماه الجزيرة المحرمة.. وأنا التي ساعدته وألقيت إليه بسترة النجاة.
انكمشت على الأريكة وعشرات العواصف تحاصرني بالرمل.. بالنار.. بالثلج.. بالشوك.. بالصراخ الهادر يخترق كل خلاياي وأنسجتي الرقيقة. ثم يمور صمت أخرس لا أسمع خلال ثقوبه غير لهاث عطية مثل صفير ريح سجينة. كنت بدوري
أبتلع لهاثي وأرصد وجهه الراجف وهو يعض على شفتيه بقوة كمن يعاقبهما على الجرم الذي اقترفناه. بينما خطوط دموعه تنساب لامعة على وجنتيه. أدركت الذي يعانيه عطية، شعور بالقهر والخوف يلامسان روحه بأسياخ من نار. فأنا سيدته، ولية نعمته، النجمة البعيدة في السماء السابعة. يجدني أنحدر إليه أقض مكون ظلمته وأهبه ما لا يجرؤ حتى أن يحلم به. لفحني ذلك التأنيب الصارخ الذي يزعق داخله ويهز عروش أمانه. فهو لا يزال في نظر نفسه ذلك العيد الذي تقوم بداخله الإحساس بالرق منذ أن وعى وأمه وأبوه عبدان لنايف، تقوس يصعب عليه أن يسوي انحناءاته وكأنه صنع من فولاذ.
شعرت بفداحة الظلم والعذاب اللذين سببتهما له حين أفشيت له مشاعري، ودفعته للإفصاح عن مشاعره بتلك الصورة التي قد يخشى أن أعاقبه عليها حين أصحو من رعشتها وضبابها. كان علي أن أهدئ روعه وأعيد إليه قواه المنهوبة وأمانة المسلوب. همست باسمه:
- عطية...
لم يجب، طرح رأسه بين ذراعيه وترك لنشيجه الحرية ليهز صمت المكان. بينما عقلي حائر وغير قادر أن يبتكر طريقة مثلى تخلصه مما ورطته فيه. لكن قلبي، الذي كنت متأكدة من عاطفته، ألح علي ألا أتركه في مهب الألم. كان لابد أن أفصح له أنني غير ناقمة ولا غاضبة، وأنني أعرف مشاعره ومن حقه أن يعبر عنها. دنوت منه فكاد عصف جسده أن يبعثرني لولا أن تمسكت بذراعه وشحنت صوتي بالقوة:
- اهدأ يا عطية واسمعني.
حرر رأسه من بين ذراعيه وحاول بصوت مرتجف أن يجمع بعض كلمات:
- سي... سيدتي أنا لا...
صرخت بغيظي:
- أنا الآن لست سيدتك... هل تفهم؟ لم تعد بيننا حواجز.
دفن وجهه في صدري ونشج بفرح معجون بالمرارة، بينما أصابعي تنغمس في غابة شعره الأجعد وتشم من بصيلاته رائحة حلم جديد.
* * *
فاح الحب كالأثير إلى مسام الجدران الصلدة، لم يكن بحاجة أن أرش بعض مذاقه على لسان إيمان ليصل إلى حواس الشم عند أخي وأمي. بدأوا بنغزات كإبر الأنسولين الخفيفة، ثم بتلميحات لا تفصح عن معانيها مباشرة لكنها تدس في طياتها الإشارات اللاذعة. هل كانا يتقيان شري أم كانا يتأنيان حتى يمسكا بشيء ملموس يواجهانني به؟
جاءت اللحظة ذات صدفة.
كان الأسانسير معطلاً. ما كدت تلك الليلة أتسلل من شقة عطية التي اعتدت التلذذ بأنفاس عشياتها، حتى اصطادني أخي الصاعد الدرجات. تسمرت خطوات كل منا في مكانها. بدا كالأسد الضروس وبدوت كالفأرة المحشورة في المصيدة. تحركت وغالبت لتبدو خطوتي واثقة لكنه أجهضها وأمسك بذراعي يشد عليها وأظافره كالأنياب تغوص في لحمي. كان يقفز بي الدرجات إلى شقتي ويبج بقشة أسئلته الراشحة دهشته رغم لهاثنا من الصعود:
- ماذا كنت تفعلين عنده في مثل هذه الساعة؟
أسعفتني فطنتي:
- سلمته أوراق معاملة لينجزها في الغد.
- في آخر الليل؟ ألا تنتظر أوراقك إلى الغد؟
- غداً لن أذهب إلى المكتب.
كان من الصعب أن أتملص من الموقف ومن أبخرة غضبه. ما إن فتحت باب الشقة حتى حذفني على أول أريكة وصرخ:
- حالاً أريد أن أعرف الحقيقة.
- أية حقيقة؟
عض على خدي بكفه المتحفز:
- ماذا بينك وبين عطية؟
حررت كتلة خدي من قبضة كفه:
- لا شيء.
عوى كالذئب:
- كذابة.. هل تحسبينني وأمك مغفلين؟ تجاوزاتك أصبحت لا تطاق.
أحسستني أنتفخ حد التورم. صرت كالبالون السميك، طاقتي على احتمال انتفاخي ضعيفة، وعنق البالون يخنقني بعقدته فقررت أن "أنط الجربة" وأفرغ مخزونها:
- أنا وعطية نحب بعضنا وسنتزوج.
نزلت عليه الصاعقة نزول سيف باتر، شجت قمة رأسه فتطاير الشرر، وتقاذفت الحمم. هجم علي كوحش جائع لا يميز من أين يبدأ التهام فريسته. أخضع وجهي، صدري، وأطرافي المرتعدة لخبط لكماته. كان ألم الصفعات كفيلاً بأن يخرس هدير التحدي بداخلي لكنني ورغم احتكاره الأقوى للموقف، قررت أن لا أضعف وأدافع عن موقفي:
- ليس من حقك أن تضربني ولا أن تحجر على قلبي.
زعق كالمجنون:
- وجع يوجع قلبك.. ألم يجد غير عطية؟
قاومت زعيقه بزعقة أقوى:
- أنا حرة.
شد شعري، رفع وجهي المغدور، كور بصقة في حلقه وقذفها بحجم رصاصة، وبقرف من تسقط عيناه على سيول حشرة مفقوءة؛ نبس بكلمة واحدة قبل أن يوليني ظهره ويخرج:
- يا فاسقة.
فاحت رائحة حريق هائل. وبدأ الدخان يفلش تكوماته السوداء من حولي. كنت كمن أعوم في دائرة يحاصرني محيطها الضيق وحوافها التي نتأت كالزجاج المستن. شعرت بأنني إن بقيت فيها اختنقت وإن حاولت الخروج منها تجرحت، وكانت الأسئلة داخل رأسي مثل مبارد النار تثقب فيه من كل جانب ويتطاير ترابها وحصاها ليضاعف هول الدخان. كنت كالعمياء أقف على أرض أجهل خارطتها. فلا أدرك أين تكون الهوة السحيقة لأتحاشاها؛ وأين تكون بقعة الأمان لألوذ إليها. لم تكن حتى ثمة أنفاس نزع أخير لشمعة يتيمة تضيء لي الطريق.
* * *
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا