(10)
استمرت تجمعات الطلبة في فناء الكلية في التزايد كل صباح، لاستكمال الحديث المثير اللامنقطع عن الأحداث شبه اليومية أثناء تناول فطورهم، كل القصص تدور في فلك الطابق الثالث وما يحمله من شياطين وأشباح، كثرت الحكايات والخزعبلات، خيالهم تمادى أكثر مما ينبغي، شققت التجمعات فنادتني حنين بلهفة لأجلس معها، كانت تتوسط دائرة من التجمعات التي لا أعرف أكثرها، كان الحديث على أشده، عزمت على الرفض بإشارة بسيطة لكنها أشارت بإصرار أن أحضر، مع رؤية الجميع منتبهين للغاية غلبني الفضول وذهبت، جلست بجانبها فهمست في أذني.
"استمعي جيداً لما يقوله هذا الطالب السابق، تخر في الكلية منذ عدة سنوات، لكنه يعمل بإحدى الدول العربية وجاء في إجازة سنوية، يقول: إنه مر بتجارب كثيرة في المكان نظراً لرسوبه المتكرر.
بدل لي أكبر عمراً ليكون طالبا منذ سنوات قليلة! قاطعتها وهمست في أذنها:
هل ذكر لماذا كان يرسب كثيراً؟!
همست مرة أخرى في أذني:
ذكر أنه لم يكن بحاجة للدراسة إلا لاقتناء الشهادة وإرضاء أبيه، ثم أراد فك اللغز بشدة ولم يكن الحظ حليفه، فلما سمع بما يجري الآن أراد نقل خبراته لعلنا نهتدي إلى ما عجز عنه، فريدة.. ألم تسألي عن ماضي المكان؟ وكأن الله استجاب لما في نفسك وأعطاك إياه!
نظرت إليها وشعرت أنها علامة من علامات الله التي لا أتجاهلها أبداً، نظرت غليه وبدأت أتفحصه جيداً، أنا أمرر كل من أراهم أول مرة على قلبي، لم يخذلني مرة واحدة فيما أخبرني عن الأشخاص الجدد، فإما أن أفتح باب حياتي أو أغلقه، كل ما على أن أصدقه فقط، مهما بدا الأمر عكس ما نبهني إليه، كان شخصاً يبدو عليه شيء من الرزانة، بدا تخمين سنة لي محيراً بعض الشيء، فمن الواضح أنه يهتم بممارسة الرياضة ومظهره العام، يتحدث بلباقة وثقة، مظهره وطريقته في الحديث تقول: إنه يجب إظهار نفسه بشكل مبالغ فيه، ربما يعاني من حب الأنا كثيراً، بدأ بالحديث قائلا:
بالطبع لا يسمح لنا بالتدخين في غرف العزف كما تعلمون جميعا، فكيف يقيد الحريق نتيجة إلقاء سيجارة مشتعلة؟! الحريق كان غير مبرر بالمرة لأن الغرف كانت خالية، ويعلم هذا جيداً "العم سيد" لكنه أنكر وقال في تحقيق الشرطة "ألم أكن متأكداً من وجود أحد بغرفة العزف!".
هذا الرجل يعلم دبيب النمل وأماكن بيوته تحت أسوار الكلية، فكيف لم يكن يعرف؟ الشيء الغريب في الحريق أن الخشب هو أكثر الأشياء اشتعالا، مع ذلك كانت الخسائر في الأرضية والجدران المغطاة بالخشب محدودة! كما أننا جميعا نعلم أن مادة العاج الطبيعي المصنعة منها أصابع البيانو لا يمكن أن تحترق أو يتغير حتى لونها، ومع ذلك كانت الأكثر تضرراً!! والأشد غرابة أن الضرر ارتسم في أماكن وضع الأصابع على البيانو استعداداً للعزف! كل ذلك وأكثر لم نجد له إجابات شافية تربح عقولنا.
انتشرت الهمهمات بين الدائرة، شعرت بصدقه، شعرت بكل علامة تعجب سردها، قطعت الهمهمات متسائلة..
وأين مكان هذا البيانو الآن؟
نظر إلي ثم إلى باقي دائرة الطلاب سريعا وقال:
لا أستطيع أن أجزم بمكانه؛ لأن سنة حريق الغرفة كانت سنة تخرجي، مرت سنوات عدة، لكنه ربما في "مخزن الهالك"..
سألت في تلقائية بلهاء:
ومن المسئول عن هذا المخزن؟
ابتسم ونظر إلى الجميع، فأجابتني حنين:
الدكتور صالح يا فريدة هو المسئول عنه بالطابق الثالث..
ثم نظرت إلى الرجل وقالت:
فريدة لا تأتي إلى الكلية إلا أيام الامتحانات فقط، لذلك لا تعرف الكثير عن المكان.
أومأ بالفهم وتابع حديثه الذي لم أنتبه إليه، همست في أذن حنين "أريد أن أرى هذا البيانو"، تراجعت حنين إلى الوراء قليلا لتنظر في عيني متسائلة.. "لماذا("، ثم همست في أذني دون أن أجيب "لن تستطيعي فعل ذلك إلا بمساعدة الدكتور صالح لأنه في عهدته.. لكن يجب أن أنبهك أنه طلب غريب!".
ثم علا صوت الطالب السابق مرة أخرى وهو يقول..
اعتقدوا أنني أهذي حينها.. لكنني رأيتها بعيني وهي تخرج من الغرفة من وسط الحريق.. ألقت بشيء محروق في يديها.. واتجهت إلى الدرج لتهبط منه وسط ذهولي.. تتبعتها فتوقفت مكانها ثم أصبحت أمامي في لحظة واحدة وقد كان بيننا مسافة أكثر من مترين على الأقل.. وضعت إصبعها في منتصف جبهتي، فشعرت بألم شديد.
تذكرت الحلم أو الكابوس.. صاح أحد الطلبة في لهفة متسائلا قبل أن أفعل أنا:
وماذا بعد؟
أكمل هو وقد تصبب عرقا وهو ينظر إلى المبنى ويستعيد ذكرياته الغريبة.
لا شيء.. فقدت الوعي تماما وعندما أفقت وجدوا آثار حريق على جبهتي!!
حينها فغرت جميع الأفواه محدقين إلى بعضهم البعض، وساد الصمت المكان.. لكنني سألته..
هل كان ترتدي رداء أبيض اللون؟
التفت أعناق وأعين الجمع كله إلي في تساؤل.. في حين أجابني الرجل على الفور فالتفتوا إليه:
لا أتذكر لونه، لكنني أتذكر آثار الحروق عليها وعلى ملابسها.. الأفظع من كل هذا كان نظرتها الشيطانية كأنها أرادت أن تؤذيني.. لكن لماذا تسألين هذا السؤال بالتحديد؟ هل رأيتها مثلي؟
عادت جميع العيون إلي تنتظر إجابتي بلهفة.. فقلت:
بالطبع لم يحدث.. أنا أرتجل الحديث فقط ربما تتذكر تفاصيل أخرى.
لا أعلم لماذا لم أسرد الكابوس اللعين، ربما تتذكر تفاصيل أخرى.
لا أعلم لماذا لم أسرد الكابوس اللعين، ربما كان عنده إجابة لا أعلمها، ظلت الجمع تتابعني إلى أن خرجت من الدائرة لأتحدث إلى يونس عبر الهاتف، رن هاتفه كثيراً ثم جاء صوته مبحوحا، يبدو أنني أيقظته من النوم، لكنه لم يكن كذلك، إنما هو مصاب ببرد الشتاء اللعين الذي منعني في خجل أن أكمل محادثتنا القصيرة خشية أن أرهقه.
أغلقت الهاتف ومكثت وحيدة في إحدى البرجولات بالفناء، أفكر في كل ما حدث ويحدث وما سوف يحدث، إلى أن قاطني نفس صوت المتحدث منذ قليل بصحبة حنين، كان الطالب السابق يقف على بعد أمتار مني، نظرت إليه، فقدمتنا حنين إلى بعض:
كريم.. فريدة..
مد يده للمصافحة وقال:
أعطيت رقمي الخاص لحنين، سأكون في مساعدتكما إذا أردتما في أي وقت، أو إن كنت أملك معلومة إضافية أو استفساراً مهما لكما، تواصلا معي إذا ما واجهتكما مشكلة ما.. أو ربما مع أحدهم!
قالها وهوي نظر إلى المبنى ثم أعطاني ورقة صغيرة ولم ينتظر إجابتي وانطلق، هل ساوره الشك تجاهي؟ هل كان ما أصابه كابوس مثلي أم حقيقة؟ هل كان ما رأيته كابوس أم حقيقة؟
الآن أصبحت مشوشة لا أدرك الحقيقة من الأحلام!
أين أنت يا يونس.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا