7)
رأيت الوهج الأحمر من الأسفل يزداد أكثر وأكثر عند دخولي بهو المبنى، لم أستبن ماهيته بشكل قطعي، هل يستبدلون الإضاءة بلون أحمر؟! لكني لا أرى عمالا في الأدوار كما يحدث أثناء القيام بأعمال الصيانة! واللون الأحمر غير منطقي بالتأكيد لغرف العزف!
دققت النظر قليلا فخيل إلي أنه دخان أحمر أو برتقالي اللون، ترددت في الصعود للطالب الثالث وكنت أوشك أن أفعل قبل رؤية كل هذا، لكنني بعد مفاوضات مع نفسي قررت أن أصعد لأعرف ما يحدث، صعدت الدرج بحذر وكلما انتهيت من طابق وجدته مهجوراً، كان صوت بداخلي يجذبني مرة أخرى إلى الأسفل، لكن فضولي والسعي وراء الغموض يحرك قدماي لتصعدان إلى آخر طابق بالكلية رغما عني.
على مشارف "الطابق الثالث" أحسست بسخونة تملأ أجواءه، كأنها رياح غاضبة محذرة تلهب كل من يفكر بالاقتراب، لكنني رغم ذلك اقتربت، كان باب الغرفة التي أتدرب بها مغلقا ويرتج بشدة من الداخل! وكأن ضغطا داخل الغرفة يحاول أن يخلعه من مكانه.
كان دخان كثيف يملأ الغرفة يخرج من تحت عقب بابها، حتى بدت موشكة على الانفجار،× نظرت عبر النافذة الزجاجية بالخارج، فوجدت كل ذلك لا وجود له، ثم رأيت خيالات لأناس لا أعرفهم وتكوينات ضبابية خفيفة جداً بالكاد ألمحها.
تبينت أكثر فوجدت فتاة في مثل عمري تقريبا لا تتضح ملامحها، ترتدي رداء أبيض أنيقا وكأنها عروس، تحمل وروداً بيضاء وتبحث عن شيء ما.. ثم تلاشت وتلاشي كل شيء!
اقتربت أكثر من النافذة لأرى بوضوح، ويا لهول ما رأيت، فجأة بدأت الغرفة تحترق! احتراق بدأ صغيراً ثم تحول لاحترق شامل فجأة في لحظة واحدة وكأنه انفجار ما.. سمعت أصوات استغاثة لم أتبينها.. هممت أن أهرول وأصرخ فآتي بأحد أفراد الأمن لإنقاذ من بالداخل، لكنني لم أبلغ الدرج قط، يد ما امتدت وأمسكت بقدمي أو شيء لا أعرفه، شعرت أنها تود لو أن أدخل فأحترق معهم! صرخت كما لم أفعل من قبل.. صرخت وصرخت حتى استيقظ ت.
في البداية لم أكن أستطيع أن أتنفس بشكل طبيعي، تناولت جرعة من الماء وحمدت الله أنه كان كابوسا وأن صوت صراخي لم يزعج أمي، كانت الستائر المخملية بغرفتي منسدلة، فحجبت ضوء أشعة الشروق التي كانت قد بدأت تتكشف.
قمت من مكاني على عجلة لأفتح الستائر ونافذة الغرفة لأرى من بعيد منظر نهر النيل الذي يربح نفسي بهدوئه الدائم وغموضه الأبدي، أتتسم ما بقي من هواء الفجر المنعش لعله ينسيني ما رأيته في هذا الكابوس القاتم، ثم سمعت ما بقى من أصوات، من مسجد بعيد، روح الفجر الذي ولى منذ دقائق.
اطمئن قلبي كثيراً، دائما ما يذكرني الفجر بيونس، هل أرى يونس بداية جديدة؟ أم ربما لتعلقه بصلاة الفجر؟ ربما لحديثه الدائم عنها.. عن صعوبة الاستجابة لها، وعن فضلها وإخلاص المؤمن في المحافظة على صلاتها، لكن يا ترى هل كان ما رأيته رؤيا أم كابوسا؟ هل احترق من بالداخل بالفعل؟ وأين ذهبت الفتاة؟
لا أعلم لماذا تذكرت أبي.. فقد ارتبط أبي والموت معا في ذهني، لكن كل هذا ليس بجديد! الناس تموت كل يوم، تموت بصورة عديدة لا اختيار لهم فيها، لقد سيطر الموت على عقلي بكآبته منذ رحيل أبي، وتساءلت إذا كانت الحياة تقدم لنا الكثير من الألم والأمل معا.. فماذا يقدم لنا الموت؟
صليت الصبح والضحى وارتديت ملابسي واكتفيت بكوب كبير من القهوة لأعود مرة أخرى لواقع بلا حرائق أو خيالات، قررت أن أتنفس الهواء مرة أخرى في صحبة كورنيش النيل على غير عادتي، في هذا الصباح الباكر تكون شوارع القاهرة شبه خالية من السيارات والمارة، كم أحب هذه الأوقات، وكأنني أتمشى في حقبة الخمسينات، ما قبلها أو بعدها، أنا الوحيدة بين أقراني التي تعشق الماضي البعيد وترى نفسها في تفاصيله.
كم كان خياليا جميلا إلى أن تتبعتني فتاة صغيرة متمرسة تبيع الزهور، ألحت في أن أبتاع وردة بيضاء ذابلة تحتضر، أعطيتها ما أرادت من نقود لتنصرف لكنها أصرت أن آخذها، وبعد أن فعلت نظرت لي وتبسمت ابتسامة مخيفة ثم تولت عني وهرولت بعيداً، نظرت إليها متعجبة ثم أكملت السير وأنا أحاول أن أستنشق بقايا وردة، حينها قفز إلى ذهني الكابوس أو الرؤيا مرة أخرى.
لكن لماذا أسميها رؤيا؟
هل سوف يحدث حريق بالكلية فعلا؟! هل تكون من رأيتها تحمل الورود بداخل الغرفة هي أنا؟! ولماذا أسير وحدي باكراً ثم أبتاع وردة بيضاء بداخل الغرفة هي أنا؟! ولماذا أسير وحدي باكراً ثم أبتاع وردة بيضا تموت بالتحديد! هل بت أخاف من الموت إلى هذه الدرجة؟ هدأت نفسي فلم تتحقق أحلامي ولو مرة واحدة، لا أيرد أن يسيطر على ذهني شيء ويشتته، أريد أن أتذكر أبي وأهديه نجاحي، ثم فكرت كثيراً كم هو مزعج الموت بجميع صوره وأشكاله.
لم أنتبه أنني قد اقتربت من الكلية بشكل كبير، حتى إنني لم أستقل الحافلة ولا التاكسي، فأكملت الطريق سيراً حتى وصلت، كان "العم سيد" حارس الأمن ما زال يرتدي زيه في الغرفة المخصصة له على أغلب الظن، كنت أول من يصل الكلية، دخلت بتلقائية إلى المبنى دون تفكير، بطريقة لا إرادية نظرت للأعلى وتحديداً إلى الطابق الثالث، أريد فقط أن أكمل التدريب على (النوم الأسود) تلك النوتة الموسيقية العجيبة التي سوف أعزفها بحفلة التخرج بعد أشهر قليلة، ترى هل ستشتعل الغرفة الآن؟ هل تتحقق الرؤيا أو الكابوس؟ وهل لهذا علاقة ما بالنوتة العجيبة مجهولة المؤلف؟ هل حقا تتحقق الكوابيس فتصبح حقائق؟ وقفت مكاني للحظات ثم صعدت في هدوء محاولة طرد كل هذه الهواجس من رأسي.
كنت إضاءة ربانية تشع من خلال النوافذ الزجاجية الملونة المنتشرة في بهو المكان لتنقل روحانيات مختلفة، الهدوء يخيم عليه ولعله يضيف شيئاً من الغموض كنت أحسبه سكينة في الماضي القريب، لكني أرى وجه المرأة ذات العيون الواسعة في اللوحة الزيتية تنظر إلي في وداعه، ربما تبتسم أيضاً! جميع التماثيل تبدو كأنها أناس متجمدون!
بدأت في الصعود ببطء، كأنني أرى المكان أول مرة، استخدمت هاتفي المحمول في إنارة إضافية أثناء صعودي على الرغم من عدم احتياجي لها، تنبهت أنني كلما صعدت ومررت بطابق من الطوابق نظرت إليه متوجسة، تماما كما كنت أفعل منذ ساعات قليلة في الحلم! مرة أخرى أحاول أن أبقى فريدة الواقعية التي لا تؤمن بأي من الأشياء غير المنطقية، اللامنطق في حياة الإنسان يحدث نوعا من البلبلة والانجراف وراء المجهول، فقط لإثبات وجود المنطق، وأنا لا أريد كل هذا العبث، فقط أريد أن أحيا في سلام وببساطة.
أخيراً وصلت الطابق الثالث، مرت الدقائق كأنها ساعات على روحي، ذهبت إلى صندوق الكهرباء الرئيسي بالطابق وأضأت كل ما به، تفحصت عيناي ممر الطرقة والغرف وحتى المرحاض المغلق، كل الغرف مغلقة وخالية، دخلت غرفة العزف أول مرة تمنيت أن يكون موضع البيانو في مقابلة باب الغرفة لأرى من بالخارج، أول مرة لا أتوق لرؤية السماء من خلال النافذة المربعة الصغيرة فوق البيانو أثناء العزف، لم أكن أعلم أنني أخاف إلى هذا الحد! ربما لأنني لا أؤمن إلا بالعلم والمنطق، ولا أجد تفسيراً منطقيا لما حدث معي إلى الآن، كما أن إجابة يونس عندما سألته لم ترحني أيضاً.
وضعت حقيبتي جانبا وأخرجت النوتة ووضعتها على حامل النوت الموسيقية، أغمضت عيني للحظات حتى أستعيد قليلا من سلامي الداخلي، فتحت عيناي فوجدت السماء صافية تنتظر نغمات عزفي، ابتسمت وبدأت في العزف، ظللت أعزف النوتة الموسيقية، استمتعت كثيراً بعزفها وقد نسيت كل ما حدث وأنا أنظر إلى السماء مرة ثانية، أحدثها وتحدثني بما تسره الأنفس، ها هي الطيور تحلق مرة أخرى، انتهيت من العزف وقد وصلت لنشوة لم أدركها منذ فترة، فأعدت العزف مرة ثانية مع استمتاع أكبر، لم أدركها منذ فترة، فأعدت العزف مرة ثانية مع استمتاع أكبر، استمتعت كثيراً، انتهيت فأعدت العزف مرة ثانية مع استمتاع أكبر، استمتعت كثيراً، انتهيت ونظرت حولي متفقدة المكان، فوجدته كسابق عهده، به كثير من الجمال رغم قدمه.
أثناء العزف للمرة الثالثة سمعت صوت خرير ماء قريب، صوت بدأ خافتا لكنه واضحا بشدة وأخذ يزداد بشكل منتظم، تجاهلته ببساطة، فربما أحد العاملين يروي أشجار حديقة الكلية بالأسفل ويصلني الصوت لهدوء المكان، استمر عزفي واستمر صوت الماء أيضاً، بات صوت الماء قريبا من إذني..
فتوقفت أصابعي عن العزف.. كان صوت الماء أقوى بدون عزف، بشكل تلقائي نظرت إلى أرض الغرفة، فوجدت الخشب مبللا بماء يستمر في التدفق والارتفاع، رفعت فوجدت الخشب مبللا بماء يستمر في التدفق والارتفاع، رفعت حقيبتي من الأرض بسرعة ووضعتها فوق البيانو، ثم وجدت إضاءة الطابق كله مظلمة إلا غرفتي، من أغلق الإضاءة ولم أشعر به مرة ثانية؟!
رأيت ممر الطرقة أيضاً يغمره الماء، تتبعت مصدره فوجدته آتيا من المرحاض، ووجدت بابه مفتوحا! ألم يكن مغلقا حين أتيت؟ استخدمت هاتفي في الإنارة وذهبت إليه في توجس لأتفقد صنبور المياه، لكن قبيل دخولي إليه سمعت صوت امرأة تهمس..
فريدااااا
كان صوتا لم أعهده من قبل، أجبتها تلقائياً دون وعي:
من؟ من ينادي؟
لم تجبني! اقتربت أكثر وصوت المياه ينبعث بقوة والمياه تفيض حتى امتلأ المكان.. خفت أن تفسد الأرض الخشبية، أعدت سؤالي بصوت أعلى..
من بالداخل؟
لم تجبني! ثم سمعت أنينا كأنها تتألم! للمرة الأولى يغلب عقلي فضولي، شعرت أنه من الحكمة ألا اقترب أكثر ولا أعرف لماذا، تراجعت في هدوء وهبطت الدرج في سرعة وهرولت إلى "العد سيد" أطلب عونه وأنا ألهث.. كان يجلس مسترخيا يحتسي كوبا من الشاي حين رآني مذعورة أناديه:
العم سيد.. المياه.. المياه بالأعلى.. يبدو أن..
نظر إلي الرجل في ذهول وقاطعني..
أستاذة فريدة.. متى وصلت؟ وأين هذه المياه؟!
أكملت وأنا ألتقط أنفاسي:
يبدو أن ماسورة المياه انفجرت في مرحاض الطابق الثالث، ويبدو أنك لم تلحظ وجودي أو تلحظ وجود الفتاة الأخرى أيضاً:
قال متعجبا:
بالفعل لم ألحظ وجودك.. هل يوجد طلاب آخرون؟
نعم هناك واحدة بالأعلى.. لقد سمعتها تبكي بالمرحاض.. فلتسرع لا يوجد وقت.. لابد من إغلاق محابس المياه.. ستفسد الأرض الخشبية إذا تركناها كثيراً.
وضع الرجل كوب الشاي جانبا وأتى معي على عجلة، صعدنا الطابق الأول والثاني وكنت في المقدمة كي أيه ما حدث، وعندما وصلنا إلى الطابق الثالث، تسمرت في مكاني وفغر فاهي عن آخره، ونظرت إليه في ذهول!
الأرضية الخشبية بالطابق الثالث جافة تماما!
كما أن جميع الأنوار مضاءة! أخذ الرجل يتفحص الأرض يمينا ويساراً وينظر إلي، تجهمت ملامحي وأنا أتفقد كل هذا، نظرت إلي باب المرحاض فوجدته مغلقا! ذهب الرجل دون أن ينبس بكلمة إلى المرحاض ودخله ثم خرج لينظر إلي ويقول متسائلا:
أين كل الماء المتدفق والمرحاض العائم؟ ومن هي التي تبكي؟ لا يوجد سوانا في الطابق كله! كل شيء على ما يبدو في أحسن حال، أكنت تتدربين هنا؟
ثم دخل غرفة العزف ودخلت وراءه أجر قدماي، فرأيت حقيبتي ما زالت على الأرض أحسست أنني أريد كوبا من الماء، فقد جف حلقي تماما، أو ربما أريد سكبها على رأسي لأستفيق، نظرت إليه وأنالا أستطيع النطق، وضعت النوتة الموسيقية في حقيبتي وخرجت من الغرفة دون أن أجيب أسئلته التي لا أملك لها جوابا، هبطت الدرج في سرعة.
بينما لمحته يحاول أن يلحق بي ليفهم ما حدث، كانت الكلية قد بدأت تمتلئ بالطلبة في ذلك الوقت، كانت حنين تصعد الدرج وأنا هابطة، رأيتها تبتسم وتلقي التحية لكنني لم أجبها، كما أنني رأيت الدكتور صالح يصعد الدرج أيضاً وينظر إلي وإلى العد سيد في فضول، فلم أعره انتباهي، ولم أكن لأفعل أي شيء إلا أن أخرج من هذا المكان سريعا لألتقط أنفاسي.
(8)
قضيت كثيراً من الوقت بصحبة نفسي في إحدى الكافتيريات المنتشرة على ضفاف نهر النيل بمنطقة المنيل، هذا المكان الذي نشأت فيه وتسكن فيه روحي، لم يعد قلبي يطمئن لقرب أحد، لأنه لابد مفارق بطريقة ما، أصبحت لا أجد الألفة والانسجام إلا في القرب من الله، الذي لن يفارقني ولن يخذلني ولن يضيعني.
ظللت أفكر ساعات لم أشعر بمرورها، أطلب كثيراً من المشروبات ولا أرتشف منها إلا الرشفة الأولى فقط! ماذا حل بعقلي؟ هل توهمت كل ما حدث؟ وهل أصدق إلا ما أرى؟ لكنين رأيت الأرض مبللة ورأيتها أيضاً جافة! فماذا أصدق؟
سألتني حنين ذات مرة ماذا أريد من الحياة؟ إلى الآن لم أجد الإجابة الحقيقية بداخلي، لأن عقلي موجه نحو الموت وليس الحياة، حينئذ تنبهت أن الموت ليسن قيض الحياة وإنما هو وجه الحياة الحقيقي بعد التخلي عن زيف الدنيا.
سألت نفسي "ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟ أن نختار رفقاء رحلتنا بعناية كي لا يكون المزيد من الوقت الضائع والكثير من الندم؟
كنت قد أغلقت هاتفي لتفادى التحدث إلى أي إنسان، نظرت إليه في تردد ثم فتحته فكان سيلا من المكالمات والرسائل، كان يونس أكثرهم اتصالا، جزء مني حثني على الاتصال به، ففعلت.. جاء رده سريعا:
فريدة.. أين أنت؟ وماذا حدث اليوم؟
فكرت أن العد سيد لابد أنه نشر بين الطلبة والأساتذة كل ما حدث.. رددت في يأس:
لا شيء.
جاء رده أسرع..
أين أنت؟ أريد أن أراك:
حينها فقط كنت أريد الحديث عما جرى، ربما كان يونس الرفيق الأمثل الآن، مر أقل من نصف ساعة، فوجدته أمامي! تجمدت لحظات عندما رأيته ينظر إلي في شوق، أو ربما يهيئ لي قلبي سخافات أريد تصديقها، كانت المرة الأولى التي أراه فيها بدون حنين، اقترب وتبتسم قلبي رغما عني وسألته:
كيف جئت بهذه السرعة في الزحام؟
أشار إلى النادل وطلب قهوته، ولم أكن قد أكملت قهوتي بعد ثم استرسل:
المكان ليس ببعيد عن الكلية.
سمعت الكلمة الأخيرة منه، فعاد امتقاع وجهي مرة أخرى ولم أعلق، أشحت بوجهي تجاه النيل، فقال يونس:
ألا تودين أن تلقي ببعض مما تعانيه على عاتقي يا فريدة؟ التفت إليه في غضب وقلت مسرعة.
أنا لا أعاني شيئاً.. فقط بعض الكوابيس.
تبسم في هدوء، وقال:
أعلم تماما أنك بخير، لكن جميعنا يعاني في الحياة وهذا ليس بالشيء المعيب، إنها طبيعة الحياة التي تلقي إلينا بمتابعها لا لكي نتألم فحسب بل لنتعلم أيضاً، والحمد لله الذي جعل الصديق سندا وقت الحاجة والضيق.
نظرت إليه وقد هدأ غضبي ولم أعلق، فأكمل بصوت رخيم وهو ملتفت بجسده تجاهي:
علمت من الدكتور صالح اليوم ما نقله العم سيد له، ثم تحدثت إلى حنين لأفهم منها فوجدتها مثلي تماما لا تفهم شيئاً، رأتك تغادرين مسرعة إلى الخارج دون أن تلتفتي إلى أحد، قالت: إن المنظر العام بدا غير مطمئن، فقد كنت شاحبة الوجه والعم سيد يحاول أن يلحق بك! إنها قلقة عليك وأنا أيضاً.
دون قصد التفت إليه مرة أخرى، هذه المرة لأتحقق من عينيه بعدما قفز إلى ذهني حديث حنين عنه، هربت عيناه مني في سرعة بعد أن استشف سؤال عيناي، اعتدل في جلسته وأخذ يصفف شعره كمن يحاول تشتيت انتباهي، لا أعلم لماذا فرح شيء بداخلي حتى مع احتمال وجود معني مزدوج لحديثه، تشجعت لأقصى عليه ما حدث بالتفصيل، رأيته مهتما ولا يسفه من شيء ولم يقاطعني.
كنت كمن يتحدث إلى نفسه دون خجل، الآن عرفت لماذا أحب صحبته مهما كان قصر مدتها، ففي صاحبته أكون كما أحب أن أكو، لا أخاف ردة فعله أو حديث نفسه لنفسه ورأيه عني، أنا أعلم أنه يفهمني ويرى ما بداخلي مباشرة لذلك أتحدث فقط ولا أبالي، بعد أن انتهيت، كان يونس قد استغرق في التفكير، لم نتحدث دقائق، ثم التفت إلي في جدية وقال:
فريدة.. أنا أصدقك وأدعمك، وأعلم أن هناك شيئاً غريبا بل غير منطقي أيضاً في هذا المكان، وبالتحديد في الطابق الثالث، يبدو أن كل ما حسبناه أساطير عن المبنى حقيقي، اسمعي.. أنا أعلم أنك لا تؤمنين إلا بكل ما هو واقعي ومنطقي، كنت مثلك ثم اكتشفت أن الأمور لا تقاس بهذه الطريقة، نحن نؤمن بوجود الله والملائكة والشياطين والأنبياء والمعجزات، لكننا لم نرهم، بل نرى الدلالة على وجودهم.
أجبته فوراً:
بلا أدنى شك.
ابتسم ورأيت جمال روحه فابتسمت، شعرت أن لأول مرة يربطنا خيط مضي، شيء روحي نقي، ربما لنكون أصدقاء أوفياء أو ربما أكثر من هذا، قال حينها:
سوف نكتشف معا ما يحدث يا فريدة، فقد دعيني أكون جوارك دائما، لا أريد أن يحدث مكروه لك.
حاولت أن أخفي شعاع فرحة وليدة في عيني لكني أجبته في سرعة..
اتفقنا..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا