أذكار الموت للكاتب حسن الجندي الإلهام

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2024-05-05

الإلهام 

 

الغرفة متسعة والظلام يغطيها إلا من ضوء أحمر يأتي من مصباح صغير متدل من السقف، يسقط نوره على وجوه الجالسين فلا يظهر إلا تفاصيل قليلة، أربعة رجال وامرأتان يحيطون بمنضدة دائرية ويمسك كل منهم بيد الآخر وهم مغمضو الأعين يهمسون بصوت واحد بعبارة تتكرر: "أهلا بك أيتها الروح النقية.. أهلا بك أيتها الروح النقية".

الغرفة كانت داخل فيلا بالدقي وهي مقر لجمعية النيل الروحية والتي تهتم بكل ما يتعلق بالخوارق والتحضير والعلاج الروحي، وهذه هي غرفة الاتصال بالأرواح أو kma iùlqwn àliha (Sظance رىىم"ة ، واليوم جلسة عادية تم التخطيط لها منذ أيام لاستدعاء إحدى الأرواح بشكل عشوائي والتعرف عليها، وبنفس الوقت ترك الروح لتختار وسيطها من بين الجالسين لأن هناك رجلين وامرأة بدأوا في حضور تلك الجلسات منذ وقت قريب وتريد الجمعية الروحية تحديد هل هناك وسيط مجهز من بينهم.

الغرفة عازلة للصوت؛ لذلك للصمت صوت مقيت يرهب الجالسين، حالة من الرهبة تختلط بالخوف تسري بين الجالسين إلا مدير الجلسة والذي كان رجلا في الستين من عمره ممتلئ الجسد يرتدي بدلة ثمينة ويردد بقوة وإيمان العبارة التي يرددها البقية من بعده، لم يستمر الحال على هذا المنوال كثيراً حتى قال بلهجة آمرة "توقفوا"، ثم ردد: "أعطنا علامة على حضورك".. لم يحدث شيء، كرر ما قاله أكثر من مرة حتى اهتزت المنضدة قليلا وأتى صوت من مكان ما من حولهم كأنه صوت رجل عجوز يتمطى مستيقظا من نوه، فجأة ترك أحد الرجال يد البقية وكان شابا في بداية العشرينيات، وسيما بملامح باردة، تحرك الشاب في مقعده كأنه يعاني من ألم ما.

فتح مدير الجلسة عينيه وأمر البقية بذلك ففتحوها، إلا الشاب الذي سكن جسده وتدلى رأسه قليلا على صدره كأنه في حالة نحاس بسيطة، إلا أن جسده ينتفض قليلا كل بضع لحظات، جاء صوت رجل عجوز من حول الشاب يقول:

السلام عليكم عباد الله.

برغم أن صوت العجوز تردد حول الشاب إلا أن فمه لم يتحرك وكأن المتحدث يقف وراءه في الظلام، ارتاح مدير الجلسة في مقعده وقال:

وعليكم السلام أيتها الروح الطيبة، أرى أنك اخترت (صابر) كوسيك من بيننا، هل لديه ملكة الروحانية؟

صابر ولد طيب من نسل طيب، وأنا الروح المرشدة التي ترافقه من لحظة ميلاده.

همست امرأة من الحاضرين بسبحان الله وهي تحاول السيطرة على انفعالاتها وصوت الرجل العجوز يأتي من حول صابر الشاب يقول:

صابر كان في ضلال الخمور والهوى، وعليه أن يتوقف لأتمكن من الحضور عليه.

أهناك سبب للحضور؟

قالها مدير الجلسة باسترخاء فأجاب الصوت العجوز:

سأساعده بإذن الله في شفاء المرضى.

هل لك خبرة في العلاج أيتها الروح الطاهرة؟

انتفض جسد صابر وسحب نفسا من أنفه بقوة ثم عاد لحالته شبه النائمة، وأتى الصوت يقول بعد فترة:

أنا روح هلال الجزايري طبيب الباطنة، انتقلت لعالم الروح عام 1922م، ولا تتصورون ما تعلمته هنا في هذا العالم عن الطب والشفاء. كل الحاضرين في الجلسة تهامسوا بالتكبيرات والحمد لله فرحين.. إلا رجلا في الثلاثين من عمره يرتدي نظارة طبية بإطار ذهبي، حليق الوجه، طويل شعر الرأس، أبيض الوجه، وسيم. معظم الحاضرين لم يعرفوا عنه معلومات سوى أنه معيد بكلية العلوم في جامعة القاهرة ويدعى عزيز رضوان، وهذه هي المرة الثانية له يحضر معهم جلسة تحضير أرواح.

لم تتوقف عين عزيز من وراء النظارة الطبية عن الحركة تتفرس وجوه الجالسين وتراقب حركاتهم وسكناتهم، ثم ينظر للمصباح المعلق ويعود للنظر في وجوه وأجساد الحاضرين، وفي النهاية تفحص بعينيه كل خلية في وجه وجسد صابر.

باركت روحك جلستنا يا دكتور هلال.

البركة وإن حلت عليكم..

ضاعت بقية العبارة التي قالها الصوت العجوز وسط صوت أضخم، صوت مخيف أتى من موقع بعيد عن صابر، التفت مدير الجلسة وبعض الحاضرين لمصدر الصوت الغريب المماثل لصراخ حيوان منخفض، فوجدوا عزيز جالسا في مقعده يميل رأسه لليمين واليسار كبندول الساعة وعينه نصف مغلقة، رفع رأسه لأعلى كأنه ينظر للسقف وأتى صوت مخيف من حوله يقول غاضبا:

خداع.. خداع.. خداع، تصدقون دجل صابر وتلاعبه بكم وتهينون عالم الروح والبرزخ.

العجيب إن شفاه عزيز هي الأخرى لم تتحرك وإن ظهرت ملامح الألم على وجهه، تماسك مدير الجلسة في حين خاف البقية وهو يسأل بهدوء مصطنع:

هل أنت الروح المرشدة لأستاذ عزيز؟

لا.. أنا أراقب جلستكم هذه بالمصادفة واسمي سأعلنه بعد قليل.

ولماذا تلبست هذا الجسد بالذات؟

سؤال ممتاز، لكن توقيته خاطئ، يجب أن تسأل نفسك قبل أن تسألني، ما هي احتمالية أن ينضم لكم صابر هذا وهو يدعي أن له قدرة في الوساطة، ألم يبحث أحدكم عنه ويعرف أنه قد خرج من السجن منذ شهور بعد إدانته بجريمة نصب واحتيال، واتهم في ثلاث جرائم أخرى واستطاع الإفلات بلا عقاب، واليوم يمهد لكم أنه سيعالج الناس في المستقبل روحانيا.

ملامح الألم زادت على وجه عزيز وقطرات عرق نبتت على جبينه، وبينما يجلس صابر على مقعده في نفس حالته بلا حركة ولا صوت كان الجالسون يتناوبون النظر بينهما، حتى قال مدير الجلسة منفعلا لأول مرة:

ولماذا نصدق روح هائمة ترفض أن تخبرنا باسمها ونكذب روحا طاهرة احترمت الجلسة وعاملتنا بتواضع؟

وهل لو أخبرتكم عن اسمي ستصدقون ما قلت؟

نحتاج مع اسمك علامة على نيتك الطيبة.

جاء الصوت المخيف من حول عزيز يقول:

حسنا.. اسمي عزيز.

اسمك على اسم الأستاذ عزيز الوسيط؟

لا.. اسمي عزيز لأني أنا عزيز.

فجأة ابتسم عزيز وفتح عينيه وهو ينظر للجالسين والصوت يتردد من حوله يقول:

والدليل على نصب صابر عليكم هو أني أفعل نفس الشيء، أتحدث دون أن تتحرك شفتاي.

وأشار بإصبعه فمه وتغير الصوت المرعب إلى صوته الطبيعي وهو يقول بفم ثابت:

أنا أستخدم معكم حيلة التكلم الباطني، لساني يتحرك داخل فمي ويخرج معظم الأصوات التي تسمعونها، مثلما يفعل صابر معكم، لقد بحثت وراءه، وكان من السهل معرفة معظم التفاصيل حياته في أيام قليلة، ولم أعتقد أن خداعكم كان سهلا بهذه الطريقة.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا