الشيء
أحمد يستعد للذهاب مع أصدقائه في رحلة بحرية..
الزوجة تطلب منه التأجيل بسبب كابوس شاهدته الليلة الفائتة..
الزوج لا يعيرها انتباهاً..
الزوجة بغضب:
في كل مرة تعود من رحلة بحرية يكون مزاجك سيئاً، فلماذا إذا تذهب يا أحمد؟!
أحمد: أريد الذهاب فقط بغض النظر عما قلتيه!
الزوجة: منذ أن عرفتك وأنت متعلق بالبحر بالرغم من أنه مصدر هم وحزن فلماذا تذهب؟!
أحمد: أنا من يريد الذهاب للبحر ولذلك سأذهب!
خرج أحمد بعد هذا الحوار من منزله وركب السيارة التي كانت تنتظره بالخارج وفيها أصحابه الثلاثة أمجد وثامر وفيصل وبعد إغلاقه باب السيارة مباشرة، قال أحدهم مازحاً:
هل أخذت الإذن بالخروج؟
ضحك بقية من في السيارة..
أحمد: لا أحتاج الإذن من أحد كي أذهب لأي مكان!
فيصل وهو يضحك:
لا تغضب فنحن نمازحك.. لنتحرك الآن.
أحمد: انتظروا لقد نسيت شيئاً في الداخل..
ثامر: نسيت ماذا؟! سوف نتأخر!
أحمد: انتظروا فقط وسأعود حالاً..
نزل أحمد من السيارة مسرعاً ودخل منزله وبعد دقائق عاد وركب السيارة وقال:
هيا يمكننا الذهاب الآن..
تحركت السيارة منطلقة نحو المرسى، حيث كان قارب الصيد الذي يملكه أحمد بانتظارهم..
خلال الطريق سأل فيصل أحمد:
ما الأمر المهم الذي نسيته وعدت من أجله؟
أحمد وهو يبتسم وينظر من النافذة:
شيء مهم لم أستطع الرحيل بدونه..
وصلت المجموعة المرسى وركبوا القارب وحملوا أمتعتهم وأدوات الصيد وشقوا البحر، كان الوقت في بداية العصر وكان هدفهم الوصول إلى منطقة في عرض البحر يكون فيها الصيد وفيراً في الليل وحتى مطلع الفجر كان أحمد يذهب إليه دائماً وحده ومن وقت لآخر يصطحب معه أصدقاءه.
فيصل وهو ينظر للأفق: الشمس غربت..
أحمد: لا تقلقوا ساعتين وسنصل للمكان المنشود..
بعد ساعتين ونصف وبعد غروب الشمس تماماً وانسدال جلباب الليل على الأفق، وصلت المجموعة لوجهتها وأوقفوا القارب تحت قمر غائب وبحر هادئ بلا أمواج، وبدأ كل منهم يجهز عدته لرمي صناراتهم في الماء عدا أحمد الذي كان يراقبهم.
بعدما رمى الجميع صنارتهم اتخذ كل واحدٍ منهم جانباً من القارب وهو ممسك بصنارته بانتظار تلك الهزة التي يسعد وينتشي بها كل صياد وخلال انتظارهم بدأ ثامر بالصفير بشكل خافت فنهره أحمد وقال:
لا تفعل ذلك ونحن في عرض البحر!
ثامر وهو يضحك: ولماذا؟
أحمد بغضب: لا تفعل ذلك وحسب!
أمجد وهو يبتسم:
لأنه يعتقد أن ذلك يبعد السمك.
ثامر وهو يضحك بقوة:
ما هذه الخرافات؟!
أحمد: أيا كان توقف فقط!
ثامر: سأتوقف فقط لأنك أحمق ومتهور، وقد يتطور الأمر إلى مشكلة نحن في غنى عنها..
فيصل: هل يمكننا أن نصطاد بهدوء؟
صمت الجميع ولم يتحدث أحد..
فيصل: جيد يمكننا الاستمتاع بالرحلة الآن..
أمجد وهو مبتسم:
هل الوقت مناسب لنسألك عن الشيء الذي عدت للمنزل من أجله اليوم يا أحمد؟
أحمد وهو يضحك بخفه:
لماذا أنتم مهتمون بهذا الأمر؟
ثامر وهو يبتسم:
لأننا نعرف أنك عدت لطلب السماح منها أيها الجبان!
أحمد: حبي لها ليس جبناً أو خوفاً لكنني لم أكن أستطيع الاستمتاع بوقتي وهي حزينة أو غاضبة مني..
فيصل: إنها محظوظة بك.
أحمد: بل أنا محظوظ بها..
عاد الصفير مرة أخرى فصرخ أحمد وقال:
هل تبحث عن المشاكل يا ثامر؟!
ثامر مستغرباً: ما بك؟ أنا لم أصفر!
أمجد: من فعل إذا؟
فيصل: الصوت كان قادماً من عرض البحر.
ثامر: هل يمكن أن تصمتوا جميعاً كي لا يهرب السمك من إزعاجكم؟!
صمت الجميع ولم يتحدثوا لدقائق وبعدها قال ثامر موجهاً كلامه ل فيصل:
ماذا تقصد أن الصفير كان قادماً من عرض البحر؟
فيصل وهو يشير بيده ليمين القارب:
لقد سمعت الصوت من هذا الاتجاه..
ثامر وهو يحدق بالاتجاه الذي أشار إليه فيصل:
لا أرى شيئاً..
فيصل بسخرية:
لقد سمعت صوتاً ولم أقل إني رأيت شيئاً..
أمجد: لنغير الموضوع..
أحمد: اقتراح جيد.
ثامر وهو يبتسم ويتفحص صنارته:
لما لا تخبرنا عن سبب خوفك من الصفير؟
أحمد بغضب:
أنت بالفعل تبحث عن المشاكل!
أمجد بهدوء:
فعلاً يا أحمد لمَ تخاف من الصفير في البحر؟
أحمد باستغراب: حتى أنت يا أمجد!
ثامر: ما بك؟ كلنا رجال هنا ولا نخاف.
أحمد:..
فيصل: ألن تخبرنا؟
أحمد: إذا كنتم مصرين اسمعوا إذا..
حكى أحمد قصته عندما كان صغيراً، وكان وقتها يخرج للصيد مع أبيه بشكل مستمر، وهذا هو سبب حبه وتعلقه بالبحر، وكيف كانت أجمل ذكرياته التي جمعته مع أبيه هي من خلال رحلات الصيد تلك.
ثامر: وما علاقة ذلك بكرهك للصفير في البحر؟
أكمل أحمد حديثه قائلاً:
كنا أنا وأبي في أحد الليالي الشتوية نصطاد، وكان البرد قارساً والظلام حالكاً والبحر هائجاً لكننا كنا مستمتعين بتلك الأجواء وكنا نتمازح ونتضاحك لإضاعة الوقت حتى تهتز صناراتنا، اهتزت صنارة أبي بقوة فشدها في محاولة لإخراج ما كان عالقاً بها، لازلت أذكر كلماته وهو يقول "يبدو أنها سمكة كبيرة" وخلال شده وإرخائه سقط أبي من القارب في الماء البارد، وبدأ بالابتعاد بسبب الأمواج الهائجة ذلك اليوم.
أمجد: وماذا حدث بعد ذلك؟
أحمد: سمعت الصفير..
فيصل: أي صفير؟
أحمد: صفير أشبه بصفير إنسان بالرغم من أن أصوات تلاطم الأمواج من حولي كانت عاليةً إلا أن ذلك الصوت كان واضحاً جداً.
ثامر: وماذا حدث بعد ذلك؟
أحمد: استمر أبي بالسباحة نحوي وأنا أمد يدي له كي أساعده في الصعود على متن القارب وكلما اقترب مني صوت ذلك الصفير معه وكأن من كان يصفر يسبح بجانبه.
فيصل:..
أحمد: وصل أبي لحافة القارب فأمسكت بيده وبدأت أعاونه على الصعود، لكنني أحسست بالرعب الشديد، لأنني كنت اسمع ذلك الصفير بوضوح شديد لدرجة أني ظننت أن صاحبه سيصعد القارب مع أبي، وبسبب الظلام الحالك تلك الليلة لم أستطع إمعان النظر وتحديد مصادر الصوت.
أمجد: وماذا حدث بعد أن صعد أبوك إلى القارب؟
أحمد: أبي لم يصعد.. لقد جره شيء بقوة للماء ولم يطفُ بعدها..
فيصل:..
أمجد:..
ثامر: لم تحكِ لي هذه الحكاية من قبل وأنا أعرفك منذ سنوات..
أحمد: وهل هذا شيء يقال؟
فيصل: لماذا تعود للبحر إذا؟
أحمد: ماذا تقصد؟
أمجد: من يمر بمثل ما مررت به في الغالب سيكره البحر..
أحمد: أنا كرهت البحر فعلاً بعد تلك الحادثة.. أنا حتى لا أجيد السباحة..
ثامر باستغراب: كيف تكرهه وأنت تقضي معظم أوقاتك فيه؟
وأنت من يصر دائماً على القيام بهذه الرحلات البحرية!
أحمد وهو يحدق بالبحر:
فقدت الاهتمام بالصيد منذ اليوم الذي فقدت أبي بسبب ذلك الشيء..
فيصل: أي شيء؟
أحمد: الشيء الذي سمعت صفيره مع أبي والذي سمعت أنت صفيره قبل قليل والذي كنت وما زلت أحاول رؤيته مرة أخرى.
ثامر: ما هذه الهرطقات التي تهرطق بها؟!
أمجد: هل تحاول إخافتنا؟
فيصل:..
أحمد: ألم تسألوا أنفسكم يوماً لما لا أغير مكان الصيد الذي نذهب إليه؟
ثامر: بلى، وأنت من قال إنه أفضل مكان يمكن أن نصطاد فيه ولا فائدة من البحث عن غيره وصدقناك لأنك أكثر خبرة منا..
أمجد: هذا المكان هو نفس المكان الذي فقدت فيه أباك أليس كذلك؟
أحمد يهز رأسه بالموافقة..
فيصل: ما الذي تريد قوله؟ إننا أتينا لاصطياد وحش بحري بصنانير صغيرة؟
أحمد: لا.. هذه ستكون أخر مرة أعود فيها لهذا المكان لقد وعدت زوجتي بذلك، أمضيت سنين طويلة لا أسمع فيها غير صفيره في هذا البقعة، ومهما حاولت لم أستطع رؤيته أبداً لذا ستكون هذه رحلتي الأخيرة.
ثامر باستهزاء:
يظننا أغبياء.. لا تلقوا له بالاً، فهو يحاول إخافتنا فقط.
أحمد: صفر يا ثامر..
ثامر: ماذا؟
أحمد: صفر.. صفر أي لحن تريد.
ثامر بتوتر:..
أحمد: ما بك؟ هل فقدت الرغبة في ذلك أم أنك خائف؟
ثامر بغضب: لست خائفاً من شيء!!
بدأ ثامر بالتصفير بلحن أغنية يحبها وأدار وجهه للبحر وهو يتفحص صنارته..
أمجد: ما الحكاية يا أحمد؟
أحمد وعينه على ثامر: انتظر قليلاً..
بعد أقل من دقيقة سمع ثامر والبقية صفيراً مشابهاً للحن الذي صفر به ثامر مما دفعه للتوقف.
ثامر: ما هذا؟
أحمد مبتسماً بسخرية: الوهم الذي تحدثت عنه..
فيصل وهو مرعوب: لا تعبث بنا يا أحمد ما هذا الصوت؟!
أمجد وهو يمعن النظر في البحر:
الصفير مطابق لصفير ثامر وكأنه يحاكي ألحانه..
ثامر باستهزاء: إنه مجرد صدى لصوتي..
أحمد: هل أنت أحمق لهذه الدرجة؟ أم أنك عنيد لدرجة أنك لا تريد الاعتراف بالحقيقة؟
ثامر وهو يصرخ بقوة:
عن أي حقيقة تتحدث؟! أن هناك وحش في الماء وأن هذا الوحش المجهول التهم أباك؟! لقد كنت طفلاً صغيراً، ورأيت أباك يغرق أمامك وهذا الأمر سبب خللاً نفسياً في عقلك فلا تحاول إقحام هلوساتك علينا!!
أحمد وهو يقف ويضع يده على صدر ثامر: اهدأ يا ثامر ما بك؟
ثامر وهو يدفع يد أحمد من على صدره: لا تلمسني!!
اختل توازن أحمد وزلت قدمه وسقط في الماء..
صرخ فيصل بقوة ومد يده مباشرة من حافة القارب يلوح بها في الظلام ويقول:
أعطني يدك.. أعطني يدك!
ثامر وعلى وجهه نظرة قلق:..
أمجد يرمي بطوق نجاة بسرعة في ظلام البحر الدامس:
حاول الإمساك بهذه!!
صوت أحمد من بعيد:
أين أنتم لا أستطيع السباحة؟!
قفز فيصل في الماء مباشرة بعد سماعة نداء أحمد لكن أمجد وثامر تسمروا في أماكنهم..
استمر فيصل بالبحث عن أحمد وهو يصرخ:
تحدث معي كي أحدد مكانك!!
لم يتحدث أحمد ولم يجد فيصل له أثر..
عاد فيصل ومد يده للعودة على متن القارب لكن ثامر كان مستمراً ومرعوباً فتقدم أمجد وعاونه على الصعود. سكت الجميع ولم يتحدثوا في الأمر بعد صعود فيصل حتى تحدث وقال بتوتر:
ثامر بقلق وعبوس: عن ماذا تتحدث؟
فيصل وهو يرتجف من البرد: الشيء..
ثامر بصوت مرتفع ونبرة غاضبة:
لا يوجد "شيء" في الماء، الرجل لم يكن يستطيع السباحة وغرق بسبب خوفه وغبائه!! لقد خذل نفسه كما خذل أباه!!
أمجد بهدوء: كفى يا ثامر..
ثامر مستمراً في الحديث متجاهلاً كلام أمجد:
لقد تسبب جنونه في خسارته لحياته!! كان معتوها وكان يجب أن يتعالج في مصحة نفسية!!
أمجد بصوت مرتفع: كفى!!
صمت ثامر وبدأ يتنفس بسرعة وعمق..
فيصل وهو يحتضن نفسه ويحدق بأرضية القارب: لقد رأيته..
ثامر وهو لازال يتنفس بعمق: رأيت من؟!
فيصل: الشيء..
أدار أمجد نظره ل فيصل ببطء..
استأنف فيصل كلامه وقال:
عندما قفزت وراء أحمد كنت أسمع صوتاً مثل الخبط في الماء، فتوجهت سباحة نحو مصدر الصوت حتى وصلت إليه، وجدت جسماً كجسم الإنسان يتقلب في الماء، فتوقعت أنه صاحبنا يغرق ويبحث عن النفس فأمسكت به بقوة وأخرجت رأسه من الماء.. لم يكن صاحبنا ولم يكن يغرق..
ثامر وهو يجلس على طرف القارب بتوتر:
ماذا كان إذا؟
فيصل وهو يرفع رأسه ويوجه نظره ل ثامر:
كان شيئاً.. شيئاً غريباً.. وكان في فمه قطعة من صاحبنا.. لقد قاطعته خلال افتراسه له..
ثامر: هراء!! كيف يمكنك الرؤية في هذا الظلام الحالك..
فيصل: لم أحتج إلى النور.. عيناه كانت مشعة كالنجوم وصوته كان مخيفاً جداً كان كصوت طفل صغير..
ثامر:..
فيصل وهو يبتسم ويحتضن نفسه من الخوف والبرد:
أعرف أنكم لن تصدقوني.. فما أقوله جنون.. لنعد من حيث أتينا..
البعض لا يحصل على النوم حتى يسرقه من غيرهِ..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا