صمت الفراشات 8 للكاتبة ليلى العثمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-09-18

انتهى الأسبوع.. موعد الطبيب يقرع طبوله، أشرعت خزانة ملابسي، وقفت طويلاً لأختار أجمل الثياب التي ستتناسب وفرحة الإفراج عن صوتي. كان فرح أمي وهي تودعني بدعواتها كبيراً، وكنت أتمنى ألا يخيب الطبيب أملها وأن أعود إليها بصوت البلبل. 

لا أدري كيف قطعت المسافة إلى العيادة حتى وجدتني أجلس على كرسي الفحص غير مسيطرة على توتري، لحظ الطبيب ذلك: 

- أظنك على أحر من الجمر. 

هززت رأسي بالإيجاب، استسلمت لزحف الأنبوب الرفيع، لم أشعر بذلك الغثيان، كنت صبورة حتى سحبه وهلل صوته: 

- ألف مبروك. أطلقي صوتك الآن بهدوء. 

رفرفت الدموع في عيني، لم أجد جملة حنونة أفتتح بها باب صمتي غير: "الحمد لله رب العالمين". خرج الصوت رفيعاً متذبذباً بالبحات. فاقشعر وجهي. لاحظ الطبيب هلعي فابتسم مؤكداً: 

- سيكون أحسن بعد التمارين. 

- هل سأحتاج لدواء؟

- حبوب المص فقط - ثم أشار بإصبعه منبهاً - وأن تواصلي مقاطعة التدخين. 

وعدته بصدق، وخرجت من العيادة منزلقة بفرحي مثل عصفورة تحلق في السماء المتسعة بلا حدود. انطلقت أحرث الطريق حائدة عن الشوارع المزدحمة وتلك المسكونة بذكريات قديمة. شعرت أن الحياة حلوة، وجوه الناس أحلى، الغيوم الشفافة ترقص، تتشكل: هذه مثل غزال شارد، وتلك وردة تفتح ثغرها باتساعه، وهذه مهرة ترمح ويتلاعب ذيلها في الهواء، وتلك قطة على وشك الولادة. إشارات المرور كلها خضراء وكأنها تتعمد أن أواصل ركضي، وتؤكد أن الحياة حديقة بلا حدود تتسع لكل الأحلام وتهديني علباً من الحلوى. 

صعدت إلى شقة أمي يعصف بي فرحي، اصطدت بعض قلق على وجوههم المنتظرة، بادرتهم بصوتي الجنيني الذي لم يكتمل بعد: 

- إفراج.. وإجازة شهر للراحة. 

زغردت أمي. إيمان هنأتني بالسلامة بفرح. أما فيصل الذي أقلقته نبرة صوتي، دنا مني وهامسني بعيداً عن سمع أمي: 

- هل سيظل صوتك... 

قاطعته بالهمس ذاته:

- أكد الطبيب أنه سوف يتحسن بعد التمارين.

تحركت لأخرج فشدتني أمي من ذراعي:

- "وين رايحة؟ بدنا نتغدى". 

أشرعت لها ابتسامتي:

- ماما... أنا غير جائعة أريد فقط أن أرتاح. 

انطلقت إلى شقتي. ارتميت على أريكتي مقابل البحر. كان صافياً ضاحكاً فارتحلت فيه تارة سمكة فضية ترتدي فستان عرسها، وتارة مثل قارب ذهبي يعبر المسافات البنفسجية. 

شعرت بهدوء نفسي مريح. وأذرع المكان تتمطى من حولي، يتسع ويتسع حتى صار حديقة مترامية. صوت عصافيري ينطلق بغناء عجيب. شخوص اللوحات، أشجارها وغزلانها تصدر ألحان الكمانات والدفوف. حتى الصمت الوديع صار رجلاً متحركاً ملوناً ناطقاً يرهج بأجراسه، بأقراطه، بأساوره، مد ذراعين حنونين، اقتلعني من أريكتي، شدني إلى صدره العريض، خاصرني وبدأ يراقصني رقصة الفالس السريعة. كل شيء من حولي يبادلني الرقص. الشبابيك المفتوحة، الجدران النائمة، التماثيل الصغيرة، السجاد، الأباجورات المضيئة وشراشف الطاولات القطنية والحريرية. كنت أتماوج بين الذراعين. أرتفع، أهبط، ألتصق بالصدر وأبتعد. صرت فراشة طليقة حالمة بامتطاء سعادة الأيام القادمة. 

* * *

 

الزمن ملغوم بالفجائع. لكنها ليست دائماً سارة كموت العجوز، حين تكون ثنايا الفرح مفرودة كلها كالبساط، تأتي رياح الحزن لتكرمشها دون أن تطويها، فرحي بصوتي لم ينسني مأساة عائشة لكنني تباطأت في الاتصال، قلت أنتظر اسبوعاً آخر حتى يتحسن صوتي بعد التمارين. الآن وبهذا الكم من الفرح، أهرع إلى الهاتف أدير الرقم فيأتيني صوت أمها نائحاً يهدر بالفاجعة: 

- عائشة انتحرت.. ألقت بنفسها من السطح. 

سقطت سماعة الهاتف من يدي، ارتطمت بالأرض كما ارتطم قلبي بالخبر. حامت أصوات غربان وحشية تضرب بفراغ الغرف فتهتز أركانها. اللوحات تنقلع وتنقذف في كل اتجاه تتبعها مساميرها الحادة. حجارة الجدران تتهاوى مثيرة أتربة سوداء قبل أن تحظ على الأرض وتتراكم، قلبي المشجوج هو الآخر يتناثر نتفاً ثقيلة ويرش الدم في كل مكان، صوتي الذي دللته وخشيت عليه يفر مني بصرخات مدوية. حاصرني الخوف ووجه عائشة ينقسم وجوهاً كثيرة تواجهني: وجه يصرخ، وجه يحترق، وجه مختنق بالدم الأزرق، وجه مبقور تندلق منه العينان واللسان، ووجه حزين محتقن يقذف إلي بحمم العتاب "لقد تأخرت علي". ما كنت قادرة على احتمال اللحظة العنيفة، ركضت مجتازة الركامات والوجوه منحدرة إلى أمي بذهولي، بصراخي، بدموعي الدامية. لأجدني مضطرة للبوح لها بسر عائشة الذي قلب حالي وكرمش فرحي. 

لم أجرؤ تلك الليلة على النوم وحيدة في شقتي، توسدت حنان أمي ودعاء أبي الذي بصبر ظل يهدئني ويمتص نقمتي على نفسي. كان يصر أن يبرئ ضميري، وكنت بإحساسي المجهد العن هذا الضمير وأقسو عليه "لقد تأخرت فعلاً على عائشة فاختارت الحل المجنون لوجعها ومصيبتها". 

في تلك الليلة استثبقت رغبتي أن ألتهم عشرات السجائر، كنت أعلم أن لا شيء منها في البيت، أصررت على أمي أن تبعث بعطية ليشتريها، لكنها ثارت وأرعدت متخلية عن حنانها الذي آوتني به إلى صدرها. تآزر أبي معها بصرامته التي كف عنها معي منذ أن مات العجوز، استسلمت ورغبتي الشبقة لم تهدأ، ظللت الليلة بطولها لا أقوى على إغماض عيني. كنت كلما أطبقت جفني يجيئني وجه عائشة المعاتب ويحط كالجمرة داخل عيني. ويدوي صوتها المقهور بفضاء الغرفة هاطلاً نزيفه معه. 

ظلت أحلامي بعائشة تؤرقني ليالي طويلة. لكن حلماً غريباً استطاع أن يكسر رتابة أحلامي، ويثير زوبعة في داخلي أشبه بمواكب الجنازات وهي تولول على الموتى، في تلك الليلة رأيت عطية في حلمي (دق الباب، فتحت له ونعاسي لا يزال يرعف في عيني بادرته والباب في نصف انفتاحه بصوتي الكسلان: خير؟ لم يرد. دفع الباب بلطف وانسل داخلاً. أطبق الباب بهدوء وكأنه يخشى أن يؤلمه، تراجع وقد بدأت أستخرج نفسي من حثالة النعاس. صوتي أكثر نشاطاً: خير يا عطية؟ لم يرد، اقترب أكثر وفاجأني باحتوائي بين ذراعيه الطويلين المعضلين. وجدتني مثل أرنبة يقبض عليها ثعلب جائع. فلا تبدي حركة خشية أن يبتلعها في لقمة واحدة. استسلمت خوفاً أو رغبة لا أدري. لكني شعرت بحاجتي إلى واحة سوداء لا شمس فيها ولا قمر. التصقت بالصدر العريض أغطس في واديه ما بين تلتيء انتفاخ الثديين. ذراعه يداعب ظهري العاري والذراع الآخر يلتف حول عنقي مثل جذع رطب. كفه تندس في شعري المتناثر تعابثه. شعرت بنداوة أصابعه وبدفءٍ راعشٍ يتسرب إلى جسدي كله. دفء كنت قد نسيت الإحساس به منذ أن تركت جواد وتصورت أن لا دفء يشبهه سيفاجئني ذات لحظة. جرؤت كفه بعد هذا إلى ذقني، رفعه إليه فتقابلت عيوننا. لمحت حمرة مستعرة داخل حدقتيه وأنا أسمع لهاثه الحابي يشق ستار المسافة بين وجهي ووجهه. أخافتني شفتاه الغليظتان البارزتان لكنني في لحظة وجدت شفتي، حتى آخرهما، تندفنان في وسادتين لينتين، كان جسدي برجفاته ينصهر بارتجافات جسده الأكثر عصفاً. حملني بين ذراعيه بخفة واندفع بي إلى غرفة نومي التي لم يلامس شراشفها بشر غيري. مددني على السرير. كنت وردة مفتوحة الأوراق وكأنها بانتظار النسيم والندى. صار يداعب الأوراق بلهفة وكأنه يريد أن يعرف سر كل ورقة. وأنا أتمرغ في غيبوبتي وأدفق آهاتي قبل أن يدفق إلي مياه الجدول وأطلق شهقتي العالية). 

فزعت من نومي. وجدتني وحيدة في فراشي، لكن رائحة عطية كانت تفوح من جسدي وتتناثر في الغرفة، وأنا ألهث كمن قطعت آلاف الأميال دون توقف. هرعت إلى النافذة، أزحت الستارة، كانت أضواء الشارع تغطس في قلب البحر، والغيم الأسود يؤرق صحو السماء وينذر بعاصفة المطر. جلست أتفكر بالحلم فاقتحمتني تلك الحادثة الغائرة في كهف ذاكرتي. كنت طفلة في السادسة من عمري ولم أتخلص بعد من الريالة التي تنقط من فمي. وأمي تعلق الصدريات القطنية على صدري وتغيرها كلما ابتلت. كانت تضيق بريالتي وتخشى أن تكبر معي. ولم يفد أي علاج حتى قالت لها إحدى النساء المسنات أن لا شيء سيفيد إلا أن يقبلني عبد في شفتي بعد صلاة يوم الجمعة. أذكر كيف قعدت بي أمي عند باب المسجد، كان الجو حاراً وكنت أتأفف وهي تزجرني بهدوء وعيناها تتابعان خروج المصلين، وما كادت ترى عبداً حتى أسرعت إليه ترجوه أن يعمل معروفاً ويقبلني. أذكر كيف حين اقترب مني أخذت بالصراخ محاولة التفلت من ذراعي أمي، لكنها والعبد الذي يطمع بالأجر من الله أفلحا في تطويقي والإمساك برأسي. وعندها انهال على شفتي يمتصهما ويشفط كل الريالة منهما. وما إن انتهي حتى استفرغت كل جوفي. وظللت بعدها لائعة لا أستطيع ابتلاع أي طعام. وبعد أسابيع انقطعت ريالتي.. أخذت أستعيد تلك اللحظة وأقارنها بالحلم، وبعطية يصهر شفتي فلا ألوع ولا أقرف بل ألتذ وأذوب وأحلق بفضاءات المتعة. 

عدت إلى فراشي لأواصل نومي، لكن الحلم الذي أيقظني سرق النوم.. فظللت أستعيده. أنتشي وأتلمظ عرق عطية الوهاج فتفاجئني تلك الليلة النحيسة. حين ناداه العجوز ليقتحم جسدي... آآه، شتان ما بين فعل تلك الليلة وهذا الحلم! هناك كان يؤدي واجباً للسيد دون أن يتحسس الوردة أو يحس بها. والليلة هو عاشق يهيئ الوردة ليسمع شهقتها. هناك على فراش العجوز تركني دودة مهروسة قرفانة. وهنا على فراشي تركني جمرة مشتعلة متفتحة المسامات ينتشر بخور جسدها المنتعش، وتفلس عيناها في احتضان نومهما. في الصباح نزلت عند أمي مرهقة جائعة كأنني لم أنم ولم أكل منذ عام. لكنني، رغم ذلك كنت أشعر بأن جسدي وروحي يفوحان أكسجيناً جديداً، ويفرزان عطراً له عبق التمر المستوي فوق العذوق. لاحظت أمي شراهتي واندفاعي إلى الأكل، حتى الزبدة التي أتحاشاها كنت أكثر منها على قطعة التوست "المحمشة" الساخنة وأغطيها بمربى البرتقال الذي أحبه. لم تكتم دهشتها: 

- "شو مالك اليوم متل الفجعانة"؟ 

كانت تتحرك في المطبخ تجفف الصحون وتعيد ترتيبها في أماكنها. شعرت بحاجة أن أرفع عني ثقل ذلك الحلم الرعون: 

- ماما... اجلسي سأقص عليك حلم البارحة. 

ألقت بفوطتها وبالصحن الذي لم يجف بعد؛ واستقرت بجانبي وفضولها: 

- "خير إن شاء الله بشو حلمت"؟ 

- بعطية 

التسعت أمي من ذكره: 

- "يييه علينا وعلى عطية. لاحقك لأحلامك. شو جاي يسوي؟" 

ألقيت عليها بطرف "القنبلة": 

- باسني... 

صرخت أمي: 

- "يقصف عمره قصف. بعد مش ناقص إلا هالعبد يبوسك!"

ضحكت كأن ألوف الأصابع تدغدغني وأنا أذكرها:

- يا ماما.... هذا حلم.. حلم. 

توترت أمي، انقبض وجهها:

- "ولو.. ما كان لازم يتجرأ ويقرب منك". 

ثم استدارت نحوي. مدت أناملها إلى وجهي تمسح عليه وكأنها تنفض عنه بقايا ذباب وصوتها حانقاً: 

- "وين باسك؟ على خدك ولا...".

قاطعتها وأنا أضع إصبعي المدبق بالمربى على شفتي:

- "باسني هون". 

وقفت كمن لسعتها عقرب:

- "بلى يبليه إن شاء الله... وليش خليتيه يقرب عليكي؟"

عدت أهدر بضحكاتي: 

- يا ماما... أرجوك هذا حلم، ولا تنسي أن عبداً قبله لمس شفتي. 

- "نايف ما كان عبد". 

- لا أقصد نايف. هل نسيت الذي سمحت له أن يشفط شفتي وأنا طفلة؟ 

- "هداك كان علاج علشان يمنع ريالتك، هلق منشو بتشكي حتى يجي هالمضروب ويبوسك؟"  

كي أخفف عنها كذبت:

- رأيت نفسي طفلة وأنت تأمرينه أن يقبلني.

نفخت أمي وقامت إلى صحونها تكمل تجفيفها. 

لم أترك لذاكرتي أن تكون أمينة وتنقل لأمي تفاصيل الحلم. إن كانت مجرد قبلة وترت أعصابها وضيقت مزاجها، فكيف لو عرفت أنه... وأنني... 

جاءني صوتها لائماً:

- "من كتر ما دلعتيه ورفعت الكلفة معه صار يتجرأ علي". 

لم تحتمل أمي أن يقبلني عطية رغم أنه مجرد حلم. ماذا لو كنت اعترفت لها بتفاصيله؟ ربما تفاجئها سكتة قلبية أو جنون يفرض علينا أن نطرد عطية. 

ساد صمت ثقيل بيننا كنت في تعاريجه الممتدة أتلمس صمتها معكراً بالغضب والحقد على عطية، بينما صمتي ينزعني إلى حلمي ويبللني بالعرق وأنا أتصور أنه ولج ليل عطية في اللحظة نفسها، وأنا كنا شريكين يتعرف أحدهما على جسد الآخر، وتندس الشهقات في أروقة روحيهما. 

* * *

 

منذ ذلك الحلم استيقظت كل سواكني وانفلقت بذور سعاري. 

صارت كل خوامد الظمأ تنغل في منابتها. وتهسهس رؤوس الشرارات، فتستفيق رغباتي المكبوتة، متمنية مطراً يطفئ توقد النار واحتباسها في سواقي الجسد الذي أهملته، فانطفأت فيه تلك البروق الصغيرة التي اشتعلت يوم كنت أحب جواد، وها هو الحلم يحرك شهيتي لأن أتفقده وأطمئن عليه. 

وقفت عارية أمام المرآة أتأمله وأندهش: آآآآآهٍ لهذا الجسد المصاغ من لجينٍ ونور. جلده لم يترهل، ولونه الأبيض لم يفقد نعومته ولمعانه، نابض كقلب، شهي كفاكهة الصيف. شعرت بالشفقة على نفسي كيف لامرأة مثلي في ريعانها أن تحرم من يد ترشها بالعطر وتفتح وريقاتها المنطوية؟ تأملت شفتي الصابرتين اللتين لم يمسهما حتى جواد الذي أحببته، ولم يتذوقهما غير ذلك العجوز الذي لا يستحقهما، والذي لم يفلح أن يسيسهما لتستسلما لهجوم شفتيه الرخوتين. تأملت صدري الناهض الذي كانت قطفته الأولى بكفيه اليابستين اللتين لم تحركا فيه ساكناً. انحدرت نحو نصفي الأسفل المنساب نحو بوابة الدخول التي تسلل إليها ثعبان عطية الحارق ثم ثعبان العجوز الأشبه بخيارة ذابلة. أيقنت بفرح أن لي جسداً لا يزال بضاً يحتاج ويهتاج وله الحق أن يبحث عن وسيلة ترشه بالملح والندى. فصارت الليالي مرابض لأحلام اليقظة التي تجذبني إلى كمينها المضيء فأغوص فيها بلا حذر مع عطية، أراني مأسورة بين ذراعيه أتملى في سماء وجهه الفاحم وأرى القمر في عينيه، أشم رائحة تنث من جسده وكأنه خرج للتو من عصائر حديقة منوعة الثمار، عطر أناناس، برتقال، عنب وموز. أغوص في فخاخ الرائحة وأذوب فيها. ومن شفتيه أتذوق طعم تفاح أخضر، لا أقرف ولا أتمنع. وحين يعتليني أحسه مثل عمود النور المطفأ ينحدر نحو شمسي ليمتص منها الضياء. لا أحس بثقل جسده، أشعر به كتطواف ورقة ناعمة على سطح بحيرة وديعة. أسمع وشوشاتها، يؤنسني حريقها وتشجيني عواصفها. كنت أجرؤ وأكشف له كل خرائط جسدي، حتى التضاريس الصغيرة. وأستسلم لهرولة شلالاته تبللني حتى لحظة انقداح الرجفة التي ترضع ملحها الشراشف وتندفن في وسائدها نايات الشهقات. لم أكن أحتقر نفسي، ولا أشعر بأنني خاطئة أفعل الحرام، فالأمر لا يتعدى كونه حلم يقظة يتركني عطية بعده مثل ورقة النعناع الذابلة. أجدني وحيدة في فراشي، يرشح من جدران الغرفة شيء كطنين الذباب المخنوق. يأسرني لدقائق ثم يرحل فتبقى عاهات صمته مفروشة في كل الأنحاء والنار لا تزال تصليني، فأتمنى لو أجد كومة رملٍ بجانبي أذروها على جسدي وأهبط بلهيبه إلى القاع حيث ينطفئ. أبكي حزناً على نفسي وألتوي مثل جذع فارغ بينما أحلامي الراحلة تغور في سراب ممتد. 

بقدر ما كنت ألت بتلك الأحلام المتخيلة؛ وبقدر ما أحققه لهذا الجسد المعطل من متع ملونة، كنت أتعذب، أتحسر. فأنا الأرملة الشابة الجميلة التي يتمناها الكثيرون ويطرقون أبوابها أجدني أغوص في نفق عطية بكل أشعتي، أختاره عشيقاً سرياً أرتمي في أحضانه بكل رضاي ورغباتي، كانت تفاجئني لحظات أثوب فيها إلى رشدي وألقي بالسؤال صريحاً على نفسي: هل أحب عطية فعلاً أم هي فورة الجسد التي أوقدها حلم تلك الليلة؟ تتشابك أفكاري ملء رأسي ثم تندفع مثل فراشات مجنونات ترتطم بجدران الغرفة، تتهشم وترتد إلى رأسي، حيث الحيرة والارتباك والعجز عن إيجاد إجابات شافية. صرت على حال لم أكنها من قبل، متوحدة في شقتي وأرق الليالي ينفرش صفرة وذبولاً على وجهي أنظر في المرآة فأحس الزمن قد نحت عليه عشرات الأخاديد الصغيرة. أمي التي لا تفوتها فائتة لاحظت تغيري، وربما سمعت أجراس قلبي تنوح. بدأت إيماءاتها تلوح وأنا أتجاهلها، حتى فاض بها فكشفت عن قلقها ذات صباح ونحن نتناول الفطور مع أبي. التفتت إليه ويدها تشير نحوي:

- "ابنتك حالها مش عاجبني يمكن عندها مشكلة". 

دقق أبي في وجهي وصوته الحنون يسيل إلي:

- هل ما تقوله أمك صحيح؟ 

افتعلت ابتسامة:

- أنت تعرف أمي.. من قلقها علي تتصور أشياء و...

قاطعتني ثائرة: 

- "أنا ما بتصور، أنا شايفة بقلبي قبل عيني. وين ضحكتك؟ وين حكياتك الحلوين؟ حابسة نفسك وصايرة مصفرة وبهتانة وسرحانة كأنك حاملة هموم الدنيا على كتافك. شو السيرة؟". 

هدأها أبي: 

- طولي بالك عليها خلينا نسمعها.

كان لابد أن أخترع سبباً: 

- يا بابا... تعرف ظروف العملية، وبقائي في البيت يسبب لي الضيق والملل.

اقترح أبي: 

- إن كنت تشعرين بتحسن اختصري إجازتك وعودي إلى عملك. 

فرحت أن عذري انطلى عليه:

- كنت أفكر بهذا، خاصة أنني اشتقت لطالباتي وزميلاتي.

هدأت أمي وارتاح وجهها:

- "اعملي حفلة لزميلاتك. فرفشي واطلعي من هالكآبة".

أسعدني طلبها، كنت حقاً بحاجة لأي تغيير ينزح بي عن أحلامي التي حصرتني في خيوطها مثل عنكبوتة جائعة. 

* * *

 

لم يكن الأمر سهلاً أبداً رغم سعادتي بالعودة إلى عملي. فما إن وطئ باب المدرسة حتى تراءى لي طيف عائشة فانتابتني رجفة كان عصفها أكثر حين دخلت الفصل وهبت الطالبات يصفقن لدخولي وتنهمر علي تحياته وتهانيه بالسلامة. كانت عيناي تبحثان عن وجه عائشة والغصة تأسر صوتي المتشافي فلا أنطق. رأيت مقعدها في مكانه فارغاً إلا من تلاوين صمته وحزنه. لم أحتمل. دمعت عيناي. جلست مخفضة رأسي بين كفي حابسة دموعي. ساد صمت ذهول أفقت منه على قرقعة الكراسي، كانت طالبتان تحملان مقعد عائشة وطاولتها خارج الفصل. وبقية الطالبات يقمن بترتيب المقاعد بشكل يتوه فراغهما الحزين. 

لازمتني حالة الحزن أكثر من أسبوع حتى اعتدت على غياب عائشة، واستعدت نشاطي وهمتي في دفع الطالبات لبذل المزيد من الجهد، فلم يتبقى على امتحان آخر العام سوى شهرين. وكما كنت أحثهن كنت أفعل هذا مع عطية، متحاشية وأنا أراجع دروسه معه أن تلامس كفي كفه، أو تعانق نظرتي نظرته. كان مجرد وجوده في شقتي يثير عطر تلك الرائحة التي أشمها في أحلامي. وكنت بفضول أسترق النظر إلى جسده المستور بثيابه. 

"هل تراه صافياً كما أراه في أحلامي أم به ندوبات خلفها سوط العجوز! أو به بقايا من حبوب جذرٍ أصابه ذات يوم. كنت أتمنى لو ينسى مرة ويترك أزرة قميصه مفتوحة لألمح ولو جزءاً من التلتين وحبتي العنب. كانت أفكاري الخبيثة تزعجني وتشحنني بالغيظ عليه. فأنتهز فرصة أي خطأ في القراءة أو الإملاء لأثور عليه وأؤنبه وكأنني أنتقم لنفسي من سلطته علي في أحلام الليل وأحلام اليقظة. وحين يخرج بطوله الفارع متأبطاً حقيبة دروسه، تاركاً رائحته التي تفوح في الفراغ المتسع فأحسه يحفرني بمخالبه في العتمة، والصمت الأخرس يتلاعب بتلك الرائحة ويدسها في كل مسامي فتنتعش في جسدي الرغبة الجامحة، تهرع بي إلى فراشي أبحث عن جسده وألتوي به دون خجل. 

* * *

 

ذلك النهار كنت في شقة أمي نتبارى أنا وهي، في لعبة البرجيس. تلاحقت دقات الجرس على الباب، قمت وفتحت، فإذا بعطية يحمل شهادته الابتدائية وفراشات الفرح تتقافز من وجهه وعصافير صوته تصدح: 

- نجحت وعلاماتي كلها عالية.

- برافو عطية. سأقيم لك حفلة. 

انتعشت أساريره مثل طفل أهدوه لعبة جديدة. وكانت الفرحة في قلبي مثل غزلان ترمح في البراري وتشهق. التفت إلى أمي التي كانت ترمق فرحنا وهي قاطبة: 

- شفت يا أمي.. قلت لك إن عطية ذكي وشاطر.

باستهزاء ردت:

- "يعني شو جايبلك شهادة دكتوراه؟ كلها ابتدائية". 

رد عطية بصوتي شعرت به يقصد أن يتحدى استهزاء أمي:

- إن شاء الله أجيبها. مادامت سيدتي نادية راضية على.

صكت أمي على أسنانها: 

- "وليبيه عليك. ما ناقصك إلا تصير دكتور".

عتبت عليها: 

- ماما. بدل أن تشجعيه وتهنئيه؟؟

- "تقبري أمك... ما بعرف ليش شاغلة روحك فيه؟".

دنوت منها، طوقتها بذراعي، قبلت رأسها وداعبتها: 

- ستحتفلين به معنا، ونذوق طبخاتك الحلوة، ورق عنب وفطائر وتبولة و... 

قاطعتني:

- "ما بدك كمان أرقص له وأدق عالدربكة"؟ 

ضحك عطية وقال يداعب أمي: 

- أنت دقي وأنا أرقص. 

استاءت أمي وحدجته بنظرة قاتمة:

- بلى يسترك ستر. إمشي من خلقتي".

لأختصر الطريق على ثورة أمي؛ أمسكت بيد عطية واتجهت به نحو الباب وأنا أمد صوتي إليها: 

- لا تشيلي البرجيس سأعود لأكمل اللعبة. 

صعدت مع عطية إلى شقتي. ما إن ولجنا حتى عزفت العصافير بتغاريدها وكأنها تزف التهاني إليه. أشرت إلى الكرسي: 

- اجلس يا عطية. 

دخلت إلى غرفتي. وعلت أحمل العلبة التي لففتها بورق لامع. وقف وابتسامته تملأ وجهه. سلمته العلبة: 

- خذ يا عطية. كنت واثقة من نجاحك فجهزت لك الهدية.

أمسك بها يتفحصها: 

- ما هذه؟ 

- ساعة. 

انهمر علي بطوله وجسده الفتي. فتح ذراعيه احتوى كتفي بحرارة وقبل خذي ثم ابتعد وهو يهمس: 

- آسف سيدتي.. فرحتي غلبتني. 

أدرت ظهري إليه، خشيت أن يلحظ ارتعاشي، وتورد وجهي الذي أحسست به يتقد. تلهيت بمعابثة مفرش الطاولة وتسوية الزهرية عليه؛ وصوتي غارق في لوم مصطنع: 

- لا تفعل هذا مرة ثانية. 

أحسسته يجر قدمين ثقيلتين وقلباً محزوناً وهو يغادر ويغلق الباب برفق. تقرفصت على الأريكة وذراعي تحضنان كتفي اللتين لامسهما، وخذي الذي لثمه. أغمضت عيني ففاح صمت حنون كصوت كمانٍ عتيق يحضن روحي، ويرقص مزهراً من تلون وجنتي دافئاً من دفئي، شعرت ببروق تحاوطني بإشعاعات ملونة وتسري بي إلى أحلام يقظتي، فأدخلها نشوانة مؤملة نفسي بلحظة اشتعال تنهض بأعناق جسدي المنحنية حتى تصل بنشوتها إلى لحظة الانطفاء. أغمضت عيني واستحضرته لأحلام يقظتي.

* * *

 

كان الفجر ينزلق من فتحة الستارة، أنقذني النور من حلم مزعج. شعرت برخاوة في جسدي. ذراعاي خاملان وكأن ما جرى في الحلم قد شلهما. تحسست عنقي وصدري كانا يسبحان في عرقٍ حار، ورائحة تراب متخمر تفوح من حولي. انتشلت جسدي المثقل وفي الحمام أجريت عليه شلال الماء الدافئ وخرجت أفوح بشذى الصابون. اتجهت إلى حيث أقفاص عصافيري الصامتة، كانت في تنويعات هجوعها الآمن لا تدرك سر يقظتي المبكرة.. آهٍ.. لو كانت معي في الحلم؛ لقفزت الآن غير مصدقة أنني مازلت على قيد الحياة بعد أن عشت ذلك الحلم. 

هل كان الموت بحقيقته التي أخاف منها؟ (ظلام دامس وصمت مريع غاب فيه جسدي بلا حراك لكن صدى أصوات متداخلة كانت تفتقه. أيدٍ رفعت جسدي العاري وأسجته فوق لوحٍ خشبي. وبدأ سريان ماء بارد عليه. رفعوني ثانية ومددوني على قماش ناعم. صوت أمي نائح وكفها تباشر حشو فراغاتي بالقطن المرشوش بالكافور. ثم تبدأ بتكفيني وتشد الأقمطة الرفيعة حول جسدي حتى عقدة الرأس. حملتني الأيدي مسافة طويلة بين نواحٍ وصراخ. أسقطوني في حفرة ضيقة رطبة وبدأوا يهيلون التراب علي. وقبل أن يغمر وجهي، كانت صرخة عطية كالرعد تهز المكان. انتشلني من الحفرة، حملني بين ذراعيه القويين وطار بي وكفني يتهاوى عمتي متطايراً في الأفق. وإذا بثورة ضوء تفاجئ عيني. حين حدقت بها كانت تلك التي تندس من فتحة الستارة فأقوم من موتي إلى الحياة). 

اشتعلت زقزقة عصافيري بعد أن فضت الأشعة بكارة المكان. لا أدري كم أمضيت من الوقت وأنا نائمة أو سارحة أستعيد الحلم المرعب، وشعري لا يزال يقطر ماءه وجسدي محفوف بالبرنس.. ورغبة عارمة تدفعني أن أرتدي ملابسي وأخرج قاصدة البحر متشهية أن أرتمي في حضنه، وأغتسل بملحه، أطرد بقايا الكافور والتراب، وكأن الصابون لم يؤد مهمته. 

حين عدت متوهجة بملحي وفرحي لأنني مازلت حية، استقبلني عطية بوجه مبهوت وعينين يتطاير منهما الفزع: 

- أبوك تعب. أخذته أمك إلى المستشفى وتقول الحقي بها هناك. 

أية ضربة قاضية قذفت بكرتي من ساحة الفرح إلى مرمى الحزن؟ ما به أبي؟ ما الذي فاجأه؟ هل أسرى الهواء إليه بفرحتي فلم يحتملها؟ أم هو شيء آخر داهم جسده بصمت حتى استفحل به؟ كنت وأنا أقود سيارتي بسرعة جنونية أستعيد صوراً لم أكن أتأملها في حينها. وأجدني الآن أنبش أدق عروقها: تلك الليلة التي كنت فيها أنا وأمي نشاهد فيلماً بالتلفزيون، فجأة، قفزت إلى الحمام، غابت قليلاً ثم عادت تهرول إلى المطبخ، هرولت وراءها، رأيتها تعد كوب الميرمية، استفسرتها فقالت بصوت مرتجف "أبوك استفرغ كل عشائه". "هل نأخذه إلى الطبيب؟" قلت لأستشف مدى خوف أمي عليه. قالت "لا أظن الأمر بهذه الخطورة. ربما تعرض لبرد". تركتها واندفعت إلى غرفة أبي، كان على سريره واهناً متعرقاً. "أبي... حبيبي بماذا تحس؟" امتدت كفه بكسل إلى وجنتي يربت عليها "لا تخافي مجرد دوخة ولعيان. أظنه برد؟". في اليوم التالي أصرت عليه أمي أن يذهب إلى المستشفى لإجراء الفحوص، رفض، كان قد صحا باكراً وبدا نشيطاً، قال لها "ألا ترينني كالحصان أمامك". لم تكن المرة الأولى، تلتها مرات عانى فيها أبي من صداعات، ودوخات، وآلام في الصدر تتعاقب عليه ثم تزول فيستعيد نشاطه، ويواصل العمل في مكتبة العقاري الذي يدير من خلاله شؤون ثروتي الكبيرة. 

آآآه يا أبي. يبدو أنني أتعبته بذلك العبء الثقيل، كم مرة حاول أن يشركني في تحمل أعباء المكتب "هذا مالك ويجب أن تلمي بكل شيء عنه". لكنني لم أهتم "يكفيني التدريس وتصحيح الدفاتر". قبل شهور كان يتجادل وأخي ويصر عليه أن يستقيل من عمله ليشاركه مسؤولية العمل. قلت له "هل ضقت يا أبي بمسؤوليتي؟"، قال "أبداً ولكني لا أضمن عمري! لو حدث لي شيء، لا أحد منكم يعرف شيئاً عن سير الأعمال". أمي توترت "بعيد الشر عن قلبك"، لكن أبي واصل إصراره فالتفت أخي نحوي مازحاً "كم تعطيني مقابل أتعابي؟"، أبي انزعج "هل تساوم أختك؟" أنا وأمي تحزبنا لأخي "هل تريده أن يترك وظيفته إلى وظيفة لا تكون مجزية؟" أمي قالت "لابد أن يكون راتباً مجزياً، هذا حقه". كان راتب أخي لا يتجاوز الخمسمائة دينار، فطلبت من أبي أن يعطيه ألفي دينار. لم يعترض أبي، قال كلمته التي يرددها دائماً "مالك وأنت حرة به". أبي لم يستثنِ عطية، صار يأخذه إلى المكتب. حين اعترضت أمي قال "يا بنت الحلال، عطية صار يفك الخط على الأقل يريحني من جمع إيجارات العمارات، المستأجرون يتعبون القلب". 

الآن، ويمثل سرعة قيادتي، تنهمر علي تلك الصور فأقلب الأمور برأسي المزدحم بالخوف، وتساؤلات حارقة تقبض قلبي: هل أدرك أبي سر تعبه فأراد أن يوزع المهمات على أخي وعطية؟ هل تعلم أمي بحالة أبي؟.. لا أصدق أن شيئاً كهذا يفوتها وهي التي لو شهق أبي أو شرق أصفرت وصاحت "يا ريتني أنا ولا أنت". أمي التي تحوف أبي برموش عينيها، وتخاف عليه من لمس النسمة ودفء الشمس، كانت أقرب إلى جسده وقلبه منه، مثل دمه تسري في عروقه، تلتقط أدق ارتجافات شرايينه، وتشم كل نقطة عرق تتصبب منه لتعرف إن كانت بسبب الحر، أو بسبب المرض. لابد أن أمي تعمدت أن تقصيني فترة مرضي وعلاجي إشفاقاً علي من ألم يضاعف سوء حالتي. 

كدت أهرس قطة، أصطدم بسيارة شحن، تجاوزت إشارتي مرور حمراوين، كنت أقود سيارتي والخوف يقودني والسؤال الحار يلفحني: "أي شؤم يحمله لي هذا النهار؟". 

* * *

 

هل تراه حزناً عابراً يخطئ دروبه إلى بيتنا؛ أم تراه جاء ليقيم فيه؟ قضى أبي عشرة أيام تحت الملاحظة قبل أن يسمح له الطبيب بالعودة إلى البيت، رغم فرحنا بذلك فإن أفق البيت توشح بضبابات القلق، أمي في حالة خوف دائم، أحس برجفات خوفها من صوتها الذي افتقد رنينه الجذاب، من حركتها التي نقلت، من ذهولها الذي احتل عينيها يسافر بها إلى حيث لا أدري. كانت بقيامها وقعودها تبتهل أن يحفظه الله خيمة حنونة تظللنا فأحس وكأنها تقف في مهب انتظارٍ مجهول. تخشى أن يهوي بها إلى جب وحدة دائمة. 

ساعدني حلول الإجازة الصيفية أن أبقى بجانبها. أراعيها في تحمل أساها ومسؤوليات البيت التي فقدت شهيتها تجاهها، كرست كل وقتها لأبي تراعيه، تحنو عليه، تلاطفه وتحرص على مواعيد دوائه. لكنها أيضاً حاصرته بخوفها، اشتهى أن يخرج من البيت، طلب مني أن آخذه مشواراً إلى البحر، لكن أمي ارتعبت نشجت: "لا. لن يخرج. أخشى أن تصيبه لفحة برد"، توسلت إليها "يا أمي لا يمكن أن تضيفي عليه وتشعريه بمرضه"، قالت "أخاف عليه"، فأكدت لها "كلنا نخاف عليه ووافقناك أن لا يذهب إلى العمل لكن المشاوير الصغيرة ستمنحه الإحساس بأن الحياة لم تتوقف بعد". 

خفف أبي من ذهابه إلى المكتب، كان يثق بكفاءة أخي الذي ينقل له أخبار العمل، ويأتي إليه بالأوراق التي تحتاج توقيعه أو مراجعته، كما أن عطية يقوم بواجباته الموكولة إليه باجتهاد كبير. 

كان مثلنا قلقاً على أبي. ذات ليلة طرق باب شقتي متأخراً. استغربت حضوره وتصورت أنه ربما يدرك شيئاً عن أحلامي. وحين لم أستحضره تلك الفترة جاء ليذكرني بنفسه؛ أو قد تكون شياطينه أرسلته ليجعل من الحلم حقيقة. تحذرت.. وبصوت حازم بادرته: 

- خير يا عطية؟ 

لم ينتظر أن أدعوه - وما كنت سأفعل - دخل واقتعد أول أريكة ووجهه مثقل بالحزن. ظل صامتاً فحثثته: 

- ما بك يا عطية في هذه الساعة؟

تأتأ قليلاً ثم بصعوبة نطق:

- لا أريد أن أكمل تعليمي ولا أريد أن أتزوج.

فوجئت. تصورته "يتلأمن" علي ليذكرني بوعدي له: 

- اتفقنا أن تتزوج بعد الشهادة الابتدائية، وبشرط أن تكمل تعليمك. 

ثم تنبهت وبغضب حقيقي نفرت بسؤالي:

- هل هذا وقت علمك وزواجك؟ ألا ترى حالنا مع أبي؟

طأطأ ودمعت عيناه: 

- لهذا جئت لأقول لك. لا أريد أن أترك عمي سأساعده في العمل. 

أخذ يجهش. أدهشني. أين أمي تسمع هذا الكلام! لتصدق أن ظني لم يخب بوفائه؟ حمدت الله أنني لم آخذه بجريرة العجوز، لكنني رغم فرحي تظاهرت بالغضب: 

- هل تتصور أن أبي أصبح عاجزاً إلى هذا الحد؟ 

شهق شهقة مضطربة، وواصل نواحه.. فأمضيت وقتاً وأنا أهدئه وأطيب خاطره قبل أن يخرج. 

قلقت تلك الليلة وألحت علي الأسئلة: هل يكون إحساس عطية بمسؤوليته تجاه أبي أفضل من إحساسي؟ لماذا لا أتحمل جزءاً من المسؤولية؟ لماذا أظل على كراهيتي لثروة العجوز رغم أنني أستفيد منها على حساب الجهد الذي يبذله أبي حتى تعب قلبه وضاقت شرايينه؟ 

في اليوم التالي، ونحن على مائدة الغداء، أعلنت قراري لأبي:

- سأستقيل من التدريس وأعمل معك في المكتب.

تهللت كل الوجوه، خصوصاً وجه أمي التي مازحت أبي:

- "كم بدك تعطيها راتب؟". 

أبي بجوابه المعتاد:

- المال مالها هي التي تعطي، وهي التي تأخذ. 

لم أستطع، رغم قلقي على أبي وإحساسي بحزن أمي، أن أقصي عطية عن دائرة تفكيري، خاصة أنه أصبح أكثر قرباً مني. 

ما إن بدأت أداوم في مكتب أبي حتى صرت عن كثب أرى اجتهاده، وأمانته في العمل، وسلوكه المهذب في استقبال أصدقاء أبي من التجار أو السماسرة الذين تربطهم بأبي علاقة في البيع والشراء. حتى أخي فيصل صار يعتمد عليه بمهام صعبة، كإدخال الشيكات أو سحبها ومرافقة السماسرة للتأكد من العقارات المعروضة علينا لشرائها. فرحت بثقة فيصل ومحبته لعطية وكان فرحي يتضاعف حين يتحدث عنه أمام أمي وأبي الذي كان يوافق على كلام أخي، بينما أمي تقطب وتلوي شفتيها امتعاضاً، أو تتلفظ بكلمات الاستياء مما أجبر أبي لأن يعاتبها: 

- إلى متى ستظلين ناقمة عليه؟ 

احتقن وجهها وقذفت بإصرارها: 

- "إلى يوم الدين". 

اعتجن وجه أبي بالغضب:

- ولؤ؟؟ ألهذه الدرجة؟ ليس بعلمي أن قلبك أسود.

تدخلت سالخة خجلي أمام أبي:

- أمي لن تنسى فعلة عطية القديمة معي. 

خفض أبي بصره متحاشياً إحراجي واستدار لأمي، حضن كفها وقال:

- عطية لم يغتصب ابنتك. كان العبد المأمور!

حين لم ترد، واصل بصوت عذب: 

- ثم إن هذا ماضٍ وانتهى، عطية الآن صار منا وفينا. والرجل لا يقصر. 

حدقت أمي بوجهي كمن تسبر غوري وتستشف براءة عطية من جانبي، ابتسمت لها وهززت رأسي: 

- أرجوك يا أمي.. خففي عنه، كلنا نحبه ونريدك أن تسامحيه وتحبيه. 

زفرت وكأنها على وشك البكاء:

- "مش بإيدي. كل ما شفته بتنط الحادثة قدامي. لا يمكن أحبه".

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

قالها أبي وقد بدا أنه فقد الأمل في التأثير عليها. 

شعرت بأن أمي تشتعل فلم أنبس، لم أشأ أن أنفخ على النار كي لا يمتد لهبها ويحرق أغصان الحب التي تظلل عطية. هذا الحب شجعني أن أصارح فيصل ونحن في المكتب. 

- ما رأيك أن نجلب حارساً للعمارة ونريح عطية؟

لمعت الدهشة من عينيه ونبع غضب خفيف من صوته:

- هل اشتكى لك! أم هي زيادة مصاريف والسلام؟ 

أزعجني رده. كنت طوال الشهور التي انضممت فيها إلى المكتب لا أتدخل ولا أعترض أو أقترح. وأوافق فيصل على كل قرار يتخذه. لكني، وحين شعرت بأنه سيقف حائلاً دون تلبية رغبتي، تحركت داخلي نزعة التحدي لأذكره بأن المال مالي وبأنني صاحبة الشأن الأولى، وقراراتي يجب أن تنقذ شاء ذلك أم أبى، شحنت كل إصراري بصوتي. وألقيت عليه أمري حاسمة معه أي نقاش حول الموضوع:  

- سيتفرغ عطية للعمل هنا وسأعد له مكتباً. 

فطن أخي أنني واعية لسلطتي وإن كنت لم أمارسها. ولعل هذا ما عزز سلطته فتصورني ضعيفة وساذجة، فكان لابد أن أثبت مكانتي وأؤكد له أنني لن أسمح أن يهمشها أو يتجاوزها، وأنني وإن كنت أسأله رأيه، فهذا لا يعني أنه صاحب قرار يفرض علي الالتزام به. عض على غضبه وتقلصت حدة صوته: 

- الأمر أمرك. 

تمددت القوة في داخلي. وعبأت كل الفراغ الذي اتسع بابتعادي عن متابعة شؤون ثروتي والذي كان يمكن أن يستمر لولا مرض أبي. كانت فرصتي أن أفاجئ فيصل بقراري الآخر الذي أمضيت أسابيع أخطط له: 

- فرغت شقة في الدور الأول من العمارة.. لن نؤجرها ستكون سكناً لعطية. 

ابتسم مرغماً: 

- أنت كريمة وعطية يستاهل. 

رغم استسلامه لأمري، لم يخف عني ذلك الانزعاج والاستهجان الذي طفح من عينيه، لكني لم أكترث به، كل ما كان يهمني ويشغلني هو ترتيب أوضاع عطية في المكتب وفي البيت. كنت أريد أن أحقق له الراحة وأشعره بكيانه الإنساني، وبأنه لم يعد ذلك العبد الذي سخره العجوز لخدمته واستباحه لفتح باب شهواته. ولم يعد ذلك الأجير عندنا بل أصبح فرداً من العائلة. كان الأمر يلح علي منذ أن صار عطية قريباً مني في العمل، في البيت، في أحلام نومي ويقظتي. لم أعد أرضى له وظيفة حارس ولا أطيق أن أراه بدشداشة العمل يكنس ويتعفر بالأتربة، وينقل أكياس قمامة الشقق إلى الحاوية. وما عدت أحتمل الأوامر التي تنهال عليه من أهلي ومن السكان. كنت أريد لهذا الذي صار، دون أن يدري، قريباً من قلبي وسيد ليالي المقفرة، أن يرتقي بهندامه وعمله وسكنه وعلمه. كنت أريده في كامل لياقته وحريته وفحولته وهو يرافق أحلامي. 

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا