صمت الفراشات 7 للكاتبة ليلى العثمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-09-15

في المساء جاء فيصل وإيمان، صدحت شقتي بتغاريد الصغار، تعلقت الصغيرة بعنقي شدت عليه وببراءة سألت: 

- هل سيشق الطبيب رقبتك؟ أخاف أن تموتي.

هشتها أمي من حضني وصرخت: 

- "لا تفاولي على عمتك.. إن شاء الله يومين وبترجع للبيت". 

أصرت أمي أن تنام عندي. ورغم إحساسي بمدة خوفها فإنني رفضت بلباقة. فقد انتابني شعور مخيف بأن نومها بجانبي يعني أنها تودعني لآخر مرة. ممتعضة تقبلت لباقتي وأمطرتني بالقبل والأدعية قبل أن تخرج. 

بقيت وحدي والسكون، أطفأت كل الأضواء عدا الأباجورة الخضراء. وقد أشاع الصمت الحزين ضوءه الخاص. صمت معقود بألوان فضية يسبح في الغرفة وأنا مثل قارب أعزل يبحر لأول مرة. تتقاذفني الموجات ويعلوني الزبد. أغمض عيني، أحسني تهاويت إلى القاع، استقررت على رمله الناعم. هدأ الموج وسمح لي الصمت، أن أتأمل سنواتي الماضيات، أستعيد حياتي مع العجوز فلا أصطاد ظل ابتسامة. تذكرت صمتي المتواصل، الشيء الوحيد الذي اعتبرته سلاحاً يعبر عن قرفي واحتقاري لحياة القصر حتى انبثق فجري بموته، وما إن تلألأت الحياة من حولي وأطلقت ضحكاتي المكبوتة حتى جاءت تجربتي مع جواد. فاتسع الأفق ثم ضاق حتى لحظة البرء من التجربة. ماذا ينتظرني في الغد؟؟ 

بدأ الصمت بضيق.. يضيق ثم ينشطر فجأة ويبعث ما يشبه ذيولاً لنيازك متفجرة فاندفع من رمل القاع إلى مكاني في الصالة، أفتح عيني، ألمح عصافيري متكومة في الأقفاص صامتة وكأنها قررت بدء رحلة الصمت قبلي، اقتربت منها، ناغيت ثم غنيت تذكرت صوتي الذي كان جميلاً، وذلك اليوم الذي فاجأني فيه العجوز وأنا أغني فلم يستطع أن يكبت إعجابه، وحين لمح الغرور على وجهي ندم، وشفط إعجابه قائلاً: "لكن أين هو من صوت أم كلثوم". 

لم أترك عصافيري إلا بعد أن زغرد صوتها ورفرفت أجنحتها. انسحبت إلى فراشي، تمددت، أغلقت النور، وتركت الصمت السميك يعربد حتى يثقل ويتساقط. 

* * *

 

زفتني عائلتي إلى المستشفى. أمي، أبي، فيصل وإيمان. وقف عطية يتوسل أن يرافقنا فرفضت أمي. دنوت منه أمسكت بكفه أربت عليها: لا تخف سأكون بخير. ركض إلي يقبل رأسي وقد امتلأت عيناه بالدموع. وحين انحنى يقبل كفي فاحت من جسده رائحة نسيم كذلك الذي يبشر بأول موسم الشتاء. 

دخلت غرفتي في المستشفى، الجدران بيضاء، والسرير الأبيض أمامي، فاجأني ذلك الحلم بالعجوز فتصورت السرير نعشاً والأغطية كفناً. وكأن أمي استقرأت ما يدور بداخلي. أسرعت تفتح الحقيبة وتخرج منها شراشفي الزهرية، وقبل أن أبدي استغرابي كانت تقول وهي تبدل الشرشف:

- "أنا متلك ما بحب الشراشف البيضة، غافلتك ودحشت هدول بالشنطة". 

ساعدتني في الصعود والاستلقاء، دخلت الممرضة وقدمت لي الثوب الأبيض وطاقية الشعر الورقية البيضاء، ضحكت أمي وقالت: 

- "عاد هاي ما فيني أغيرها، استحمليها." وزفرت: أف أنا عارفة ليش ما بيعملوها غير لون". 

خرج أهلي من الغرفة وبقيت أمي لتساعدني في خلع ملابسي كنت أحسها متماسكة حتى اللحظة التي ارتديت فيها الأبيض. فانهارت صلابتها وانفجرت بالبكاء وهي تضغطني إلى صدرها فأشم مزيجاً من عطور فواكه طازجة. دخلت ممرضة أخرى تحمل جهاز الضغط وميزان الحرارة، حين زجته تحت لساني شعرت أنها بداية الصمت، أنهت مهمتها بسرعة فائقة وخرجت في اللحظة التي دخلت فيها أخرى تتقدمها عربة جهاز تخطيط القلب. نشرت "الجل" الدبق على مساحة من صدري، ذراعي وقدمي. ألصقت عليها مستديرات الأسلاك وبدأ الجهاز يعمل وأنا مستسلمة بهدوء أرقب وجه أمي القلق بانتظار النتيجة، طمأنتها الممرضة وهي تفك عني أسلاكها، ثم بدأت تعد إبرتها. قضت بضع دقائق وهي تبحث عن وريد مناسب، ثبتتها باللاصق لاستخدامات المخدر و"السلاينز"؛ بعد ذلك جهزت إبرة أخرى حقنتها في العضل بخفة وخرجت. 

أحسست بجفاف في حلقي، تمطى خدر لذيذ إلى جسدي أشبه بغيبوبة ما قبل النوم، ذبل جفناي واستبد بي النعاس حتى كدت أنام لولا الجلبة التي بدأت بدخول فريق من الممرضين بسرير آخر لنقلي. حملوني بخفة إليه، كان ضيقاً لكنه اتسع لجسدي النحيل. الآن سيمضون بي إلى غرفة العمليات، إلى المجهول، إلى حيث لا أدري هل أعود منه أم أنتهي هناك. 

أجهشت أمي. تمسكت بالسرير وهو يمضي، تسرع بخطواتها ليظل وجهها يقابلني حتى وصلوا بي إلى المكان الذي لن يسمحوا لها بدخوله، انكبت علي تقبلني وتمطرني بدموعها والدعوات، بينما كان الخوف يصهل في داخلي. 

ركنني الممرضون في الممر الضيق، جاء طبيب البنج، سحب ذراعي ليغرز إبرته فأوقفته بصوتي الواهن: 

- أين الطبيب؟ 

ابتسم: 

- في غرفة العمليات، تأخذين الحقنة وتدخلين. 

عاندت بشدة: 

- لن أدخل قبل أن أراه. 

حاول فأصررت. غاب وعاد يرافقه الطبيب مرتدياً قفازيه الشفافين وكمامته التي أخفت نصف وجهه فبدت عيناه الجميلتان أكثر اتساعاً، وصلني صوته بحنان: 

- خائفة؟ 

أومأت بالإيجاب. فقال:

- لا تخافي. دقائق وتكونين في غرفتك بين أهلك.

لكن رفات الخوف انبعثت مع توسلي:

- أرجوك يا دكتور لا أريد أن أموت. 

- اذكري الله وتفاءلي. 

أمر أن تدخل الإبرة في ذراعي فأسرعت أتلو آية الكرسي وأتشهد. 

حين فتحت عيني بصعوبة لمحت وجه الطبيب منشرحاً. صوته على غير عادته يبدو عالياً كمن يريد أن يؤكد لي أنه اهتم بي وحافظ على حياتي: 

- حمداً لله على سلامتك. 

جلت بنظري أتفحص الغرفة لأصدق أنني خرجت ثانية إلى الحياة، رأيت وجوه أهلي ولم يخف علي التورم في عيون أمي وإيمان. أصواتهم تتداخل بالشكر للطبيب وبتهنئتي بالسلامة، أشرت للطبيب إلى عنقي وأنا أتنحنح، سارع يأمرني: 

- حتى النحنحة ممنوعة. سيزول الألم.

التفت إلى أهلي محذراً:

- لا يجب أن تنبس ولو بهمسة. وأفضل أن تتركوها لترتاح. 

غفوة أخرى أخذتني.. صحوت منها فإذا الغرفة خالية وصامتة. 

هناك ظلال للصمت تتفشى مساحاتها بعمق المكان. تحمل روائح الأمكنة التي وطأتها، تسرب موسيقى، رياح، نسمات ترجفنا، تراقصنا، تحاول اصطياد الرائحة والهمس فلا نقبض على شيء غير الفراغ. يستطيل المكان، يأخذ شكل أنبوبة ناعمة العمق، فجأة أجدني أنزلق بانسياب لذيذ ثم أسقط في قلب دائرة شفافة مغلقة، أسبح في سائل صافٍ له رائحة حليبية. تبدأ بي رحلة أشبه بالحلم المستفيض بتلويناته، أحس جسدي صغيراً، وردياً، ناعماً، عارياً، وبحبل مطاطي يصلني بعنق الدائرة حيث أسمع دقات قلب أمي وزفراتها. كانت الدائرة حنونة، تقلبت فيها، تألفت مع صمتها المضيء وكأنني بداليات تظللني وتسقط الأعناب إلى ثغري. غمرتني راحة وانبعث النور إلى أعماقي وداعبني همس وديع يصب في أذني وعوده الجبارة "ستخرجين إلى الدنيا أنثى جميلة. لا تسقطك الريح ولا يلتهمك البحر". 

صحوت على صوت الباب يفتح ويتسرب منه ضوء الممر الهادئ، دخلت الممرضة واعتذرت لأنها ستزعجني، أدخلت ميزان الحرارة تحت لساني الذي مازال مبللاً بطعم حليب الدائرة، لفت قماشة جهاز الضغط حول ذراعي وقبل أن تغادر تفقدت كيس السلاينز، تمت لي ليلة سعيدة وخرجت. 

وقعت في شراك الصمت الليلي، تأملت الغرفة الصغيرة، كل شيء أبيض يساعد على اتساع المساحة، لكن حلول الصمت مثل دمل فضولي يحول الغرفة رغم اتساعها إلى سجن أحس فيه بأنني سجينة لعدة سجانين: الصمت، الألم، والخرس. أتذكر تحذير الطبيب "إياك أن تتكلمي". أشعر بالقهر وبفضولٍ نافذٍ مشوب بالخوف يلح علي أن أخون الطبيب. أريد أن أسرق صوتي لأتأكد أن الطبيب نجح في مهمته ولم تخطئ يداه وتستأصل أوتاري الصوتية مع ما استأصل من الزوائد. قذفت بتحذيره، اعتدلت في جلستي، استعددت للمهمة الصعبة لمواجهة الواقع الذي، إما يزغرد ببشارته أو ينعق ليفجعني بخرسٍ دائم. قرأت المعوذات بسري وعددت: واحد، اثنان، ثلاثة، و... أطلقت صوتي: نادية... 

ما هذا الذي سمعت؟ 

هل هو صوتي أم صوت جروٍ صغير نسيته أمه ولم ترضعه؟ تحسست عنقي، وجدته بارداً، أجريت له مساجاً سريعاً حتى دفأ. وبجرأة أكبر دفعت بصوتي فإذا بالجرو ثانية يسترحم ثدي أمه. هلعت!!. هذا الصوت الرفيع غير المتصل المذبذب كخيط تائه في الهواء، ليس صوتي ولا حتى يشبهه. لا نبرته، لا بحته، ولا مسحة من جمال تجعلني أتقبله. انفجرت دموعي، ابتلعتها وملحها يحرق حنجرتي وسؤال معذب يسوطني: كيف سأواجه الناس بهذا الصوت الجرواني المفزوع؟ صمت الغرفة يعصف بدمويته يساهم في مضاعفة قهري. فأحسني أسقط في جحيم، أسمع أصوات الطالبات تتفازع إلي بالصراخ الهازئ من صوتي. فتستعر النار أكثر، أكفن نفسي باللحاف الوردي هاربة من اللهب. أغمض عيني، أصارع كي أنام لأوهم نفسي بأن ما أحس به مجرد حلم مفزع. لكني أقع في جحيم أحلام متناثرة لا يقل حريقها عن الواقع. 

حين لمح الطبيب وجهي في الصباح استغرب تورم عيني، سأل متلهفاً عن سر اكتئابي وحزني. أمسكت بالورقة وكتبت: "لقد ضاع صوتي، جربته البارحة وفجعني". 

قطب وجهه وغضب صوته:

- ألم أحذرك؟ لو أعدت المحاولة ستفقدينه إلى الأبد. 

اغرورقت عيناي. لمحت الشفقة سارية من عينيه. انحنى على السرير انحناءة حنونة وقال بصوت واعد: 

- صدقيني.. سيعود صوتك جميلاً. ولا تنسى أنك ستخضعين للتمارين عند الطبيبة المتخصصة. المهم أن تلتزمي الصمت لمدة أسبوعين. 

التفت إلى الممرضة، أعطى تعليماته أن تحرر ذراعي من الإبرة، ثم إلي: 

- تستطيعين أن تأكلي بشكل اعتيادي.. ما عدا الفلفل والمخللات والقهوة. 

كتبت له: "متى أخرج؟" فتح إصبعيه الرفيعتين كعلامة النصر. ابتسم: 

- يومان. 

خرج بعد أن كرر التحذير: "الصمت أسبوعان". 

أسبوعان... 

كيف سيمضيان؟ حين فرض علي العجوز محنة الصمت مارسته وأنا أملك صوتي، كنت أطلقه شجياً حين يغادر القصر، أغني في الحمام الذي يضاعف صداه، أطلقه مغرداً بالحب العصفوري الحبيس مثلي، أطلقه صارخاً وأنا أجادل الخادمات إن أهملن، وأبثه متوسلاً لعطية ليساعدني على الهرب. كان صوتي يتلون بالرنات حسب اللحظة ومن أخاطب. هو الآن مجرد عواء ممزق، لن يسترد عافيته وألقه ورنينه إلا بخضوعي لأمر الطبيب، هل سيكون أسوأ من ذلك الخضوع المر لأمر العجوز؟ 

كان احتفاء عطية بقدومي أشبه بالمفاجأة. حفيف شجته لغيابي يتمازج ورقص أوراقه فرحاً برؤيتي، مثل أمواج دافئة تناثرت لهفته علي. أمسك بكفي يبتلهما ثم يزرع قبلاته على رأسي. أشعر بقلبه يكاد يطفر من مكانه ليغدق على وجهي المصفر. لم أخجل من أمي. في ومضة مشاعري بالامتنان تجاسرت، عانقته عناقاً رؤوفاً وقبلته. ومثل عصفور باشق انطلقت به الفرحة إلى السيارة ليحمل حقيبتي غير مكترث بوجه أمي الذي افترشه الغضب وهمهمت: 

- "ما كان ناقص إلا تبوسيه". 

* * *

 

لصمت النهارات، رغم صعوبته، رنات تبعث حيويتها حولي حين يشق الفجر ستر الظلام، يترجرج عبر الهواء صوت المؤذن الجميل القادم من المسجد القريب ويبدأ دبيب الأقدام البشرية. تموء قطط وينبح كلب الجار. تثير سيارة جمع القمامة فوضاها. تتحرك "سلفات" السيارات. تبدأ عصافيري تغرد مرحبة بالنور وبالشروق. يعزف البحر موسيقاه، بهيج، يتناثر زبده من رؤوس المويجات المنقذقات وصدورها إلى دفء الرمل بشبقي عارم. ونواح الريح يتغلغل من خلال النوافذ الألمنيوم، أحس بأن كل شيء يضاعف صوته ليلقي علي تحيات الصباح. يواسي صمتي، يعدني بوقت لاحق أشاركه فيه الصوت بعد الصمت. 

أجلس وحيدة مقابل البحر وكأنني مستريحة على أرجوحة بلورية. يؤرجحني الصمت دون أن يمسني، لا يخلع عني أثوابي، لا يغير طريقة جلوسي، لا يعبث بأصابعي الناعمة ولا ينزع عن أظافري طلاءها الوردي، لا يشد شعري، ولا يعض شفتي، وحين يأتي صوت أمي يساهم في تجميل الصمت، تضع صينية الإفطار أمامي: 

- "فطورك يا حبة قلبي. كل شيء تشتهيه نفسك". 

يتقاطر حنان صوتها كالربيع المنعش ملوناً كفتات أوراق الأعياد واحتفالات انتخاب ملكات الجمال. أنظر إلى الصينية. 

أسألها بحركة كفي راسمة شكل الغلاية والفنجان. يتحسر صوتها:

- "بكرة بس تتشافي، راح أشبعك قهوة". 

تجلس أمي كل يوم تشاركني فطوري، تحرم نفسها قهوتها كي لا تثير مشاعري وشهيتي، يتراكض صوتها بالحديث والأسئلة ولا أملك غير الإيماء برأسي تارة، والقلم والورقة تارة أخرى. وحين تصر على أن أختار وجبة الغداء فأكتب لها: "أي شيء من عطر أنفاسك وخير يديك". 

هكذا تصهل النهارات. وحدي المهرة التي فقدت صهيلها. في اليوم الأول صمتت عصافيري وكأنها تحترم صمتي وتشاركني فيه. صعب علي أن تخرس مثلي، كنت أحتاج زقزقتها لتشعرني بأن الكون بديع وزاهٍ بما يكفي لإمدادي بالصبر والفرح، جلست أمام الأقفاص. قمت بحركات من يدي. أمسكت الجرس النحاسي أهزه لعل الرنات تستفزها. لكنها تأبت فانفجر بالبكاء، لحظتها فوجئت بها تتقافز، تغرد، كانت كمن تمسك بمناديل من الضوء لتمسح دموعي، وتلون وجهي. فهمت العصافير لغة حزني وتوسلي وأنهت صيامها. كان صوتها مثل المبيد يلاحق الصمت، يهشه، يلمه في كتلة واحدة أحسها تذبل... تذبل متحولة إلى ثؤلولة فارغة تلتصق بالجدار. 

* * *

 

لصمت المساءات وحشة لا تضاهيها غير تلك التي توشحت بها في قصر العجوز، كنت أتوحد في غرفتي بعد أن أغتسل من عرق جسده ودبقه، أشعر وكأن الجدران كلها تتشح بالسواد. تنز صريراً يحث على أعصابي كمن ينشرها، فتتطاير النشارات تتكوم حتى تصير مثل تلال العشب الجاف، تلبد فيها الخنفساءات والديدان. تغمرني الوحشة حد الاختناق فلا أجد وسيلة لتفتيتها وتكسير صمتها غير فتح النوافذ رغم الشتاءات القارسة التي تزج بردها وقطرات مطرها، والصيف اللاهب الذي يدلق رياح السموم بأتربتها. كنت أحتمل لظني أنها ستطرد تلال الوحشة وإحساسي القاهر بها. لكن أكوامها تبقى تتحدى محاولاتي الدائبة لطردها. كنت في تلك الوحشة لا أجد سبيلاً إلى الخلاص غير اللجوء إلى عصفوري الذي أبثه رمادها ورائحتها. وفي الليل ألجأ إلى حلمي الذي كنت أطرزه للحظة الهرب. 

كنت معطلة الشعور والحركة مثل آلة مركونة لا تحركها إلا أوامر العجوز واقتحامه لجسدي الخاضع للقرف والاستياء. لكنني في وحشة صمتي هذه أجد منافذ عدة أتنفس من خلالها سأمي، أقرأ الصحف والكتب، أحل الكلمات المتقاطعة، أستمع إلى الإذاعات تبث برامجها المتنوعة والأغنيات التي أحبها، أفتح التلفاز، أغفو أحياناً وأتركه يواصل عروضه، وأغلب الأماسي كنت أنحدر إلى شقة أمي أنزوي على إحدى الأرائك بلا نطق مثل ضيفة ثقيلة، لكن أمي وأبي لا يتركانني حبيسة هذا الشعور، يتحدثان، ينقلان تفاصيل يومهما بنوادرها وإزعاجاتها، يلقيان النكات فأضحك حارصة أن لا تخرج الضحكة من الحنجرة. وحين يحضر فيصل وإيمان تكون الجلسة أبهج، يصر أخي أن أتباري معه في لعبة البرجيس. أغلبه ولا أستطيع أن أعبر بالصراخ عن انتصاري كما كنت أفعل، يتكوم الصراخ وكأنه فائض من الطعام لأعت به معدتي، أحاول قذفه فأشعر بقبضة قاسية تخنق بلعومي فترتد الأشياء إلى معدتي كالأورام، وحين يحاول أخي مازحاً أن يغش ويحرك الحصان خلسة إلى مربع قريب من "مطبخ اللعبة" أثور فلا أجد صوتي ليعبر عن غضبي، أعفر على السجادة كطفلة خطفوا منها لعبتها الأثيرة، أبعثر البرجيس رغم أنني متفوقة، أبكي وإحساس رهيب بأنه يهزأ من صمتي رغم تآزره مع محنتي. 

كان صمتي يعذبني، أنا التي اعتدت الشرح للطالبات. والكلام مع المدرسات والصديقات حين نجتمع في شقتي لحظات الأنس والتخفف من هموم الأيام، أجدني أخضع لهذا الصمت الشوكي فأكتشف أن لا شيء أصعب من الكلام سوى الصمت. 

كانت أمي بصبر تتولى الرد على المكالمات الواردة من الزميلات وبعض الطالبات اللواتي يسألن عني ويردن زيارتي فأشير إليها "لا أريد". كنت أخشى أن ألمح نظرات الشفقة أو الشماتة، كان يفزعني مجرد التصور أنه سيصدحن بأصواتهن من حولي وأكون أنا مثل تمثال الشمع. أرى، أسمع ولا أتكلم. وحدها تلميذتي عائشة التي تمنيت أن أكلمها، فقد وعدتها، بعدما كشفت لي سرها، أن أصطحبها إلى شقتي ونبحث عن حل لمصيبتها. حين نطقت أني اسمها سارعت إلى الورقة وكتبت: 

"أكدي لها أنني حريصة على لقائها ما إن أستعيد صوتي". شعرت أمي بلهفتي على عائشة. أغلقت السماعة. واجهتني بالسؤال: 

- "شو حكاية عايشة؟".

كتبت باختصار: "طالبة ممتازة تعاني من مشكلة". 

تركتني أمي. سرحت أفكر بهذه الطالبة المتوهجة، كانت ضحكتها لا تغادرها، ذكية مجتهدة تحتل المرتبة الأولى دائماً، محبوبة من كل زميلاتها، غابت يوماً عن المدرسة فاتصلت ببيتها لأستفسر عن سر الغياب كما أفعل مع طالباتي، رد علي صوت حاد: هي مريضة. طال غياب عائشة أسبوعاً كاملاً، لم أتردد خلاله عن الاتصال أكثر من مرة فيجيبني الصوت ذاته بالحدة ذاتها، طلبت أن أكلمها فرفض. ظللت أنتظر عودتها بقلق. 

حين دخلت الفصل لم أعرفها، أين ذلك الوجه البلوري الصادح بالحيوية؟ لم أر سوى وجه أشبه بوجه ميت نبت عليه الحنظل، وذلك الشعر المتناثر قد اختفى تحت حجاب أسود بلون الحزن المكتظ في عينيها، بعد انتهاء الدرس أمسكت بكفها الباردة وانتحيت بها جانباً في الممر. وبلهفة القلق ومفاجأتي بحجابها دحرجت سؤالي: 

- ما الحكاية؟ 

انفرطت في بكاء مر وهي تصرخ:

- لا أقدر أن أقول.

تجمعت بعض الطالبات القلقات عليها فاضطررت أن آخذها إلى غرفة المدرسات التي كانت خالية مما أراحني، أجلستها وهي لا تزال تشهق بدموعها وألمها. 

- قولي يا عائشة ما الذي جد عليك؟ وما هذا الحجاب؟

هبطت برأسها على ذراعيها المستندتين إلى الطاولة:

- لا أستطيع أن أقول. سأكتب لك رسالة. 

انتظرت رسالة عائشة وأنا أتقلب تلك الليلة على جمري أخمن الأسباب التي نقلت تلميذتي من حالها المبتهجة إلى هذه الحال المأساوية المنكسرة، وجدتني أتمسك بسبب واحد مقنع "لقد فرض الأهل عليها الحجاب وهي لا تريد". ما كنت أتصور أن السبب سيكون بشعاً لهذا الحد. حين سلمتني الرسالة ذرفت رجاءها الحار ألا أقرأها في المدرسة، زادني إصرارها خوفاً فاستأذنت الناظرة بحجة موعد للطبيب وطرت إلى شقتي وفتحت الرسالة على عجل. 

أصابني ارتياع خفض رأسي، تصورت أن ما أقرأ مجرد هلوسات لفتاة فرضوا عليها ما تكره. لكنني أعدت القراءة أكثر من مرة لأكون قادرة على استيعاب ما فيها من أمر خطير. 

سافر والداها، تركاها في رعاية الأخ، في الليلة التالية لغيابهما؛ يفاجئها في غرفتها لينتهك العرض المؤتمن عليه. سقطت عائشة الحمامة الوديعة في فخ صيادها المجرم الذي سكن المنكر قلبه معتمراً سلطة ذكورته الفارغة. أصابني ذهول وارتعاش والسؤال الحارق يدق مثل جرس مجنون في رأسي "كيف استبد به مجون الشهوة؟ هل يمكن أن يتحول الأخ ذئباً يفترس لحمه ويشرب دمه؟" لم يرحمها حتى بعدما كسر غضاضة عمرها وفتت زهرة روحها، سجنها في الغرفة ومارس عليها طقوس السجان على السجينة. توسلت إليه أن تعود إلى مدرستها فاشترط أن تتحجب وتبتلع لسانها فلا تشي بفعلته الخسيسة لأحد وإلا سيقتلها، أي حد تصله القسوة؟ حتى القمر إذا فض قلب الغيمة يترك أطرافها تمضي بسلام وتواصل سيرها. وهذا الذئب البشري يريدها فراشة تداري تفتتها بالصمت وبالحجاب. 

أسدل الكون كل سواده حولي واحدودب النهار الثقيل متكئاً على قلبي الذي ظل يمضغ تفرزه ويتقيأ لوعته. صوت عائشة بخرق غلائل وحدتي، ينهش لحمي، يقرش عظمي، وهو يستعطفني لأخرجها من جحيمها فأصير كذلك الفأر الذي جاء ليقرض شبكة الأسد الجريح فما إن خرج حتى التهمه. هكذا سقطت في شراك مصيبتها وقضيت الليل معجونة بأساي وحيرتي، أفكر بالطريقة الواجبة التي أساعد فيها عائشة الواقعة في ظلمة أخطر من وباء، دون أن أعرضها لخطر الذئب ثانية. احتدمت الأفكار في رأسي، فلم أجد غير فكرة واحدة تقود فراشات عقلي إلى حيث والديها لأبلغهما الحقيقة المفجعة. 

تطور حالتي الصحية، واختفاء صوتي، وأسابيع العلاج والعملية، أبعدتني عن المدرسة وعن عائشة، لكن طيفها وصدى جرحها ظلا يهطلان علي دماً متخثراً وصدأ كريهاً. 

* * *

 

كنت في صمتي أجمع آلاف الكلمات بانتظار الإفراج عن صوتي، أعد أيام الأسبوع عشرات المرات حتى يهل موعد الطبيب الذي كنت ملتزمة بنصائحه، طامعة أن يختصر لي صمت الأسبوع الثاني ويطلق صوتي. 

انطلقت إليه قبل موعدي بساعة كاملة، جلست في صالة الانتظار أقطع الوقت بقراءة رواية لكاتبة جريئة أغرمت بها منذ أن قرأت كتابها الأول، كنت أتئد وأنا أذرع السطور وأقلب الصفحات هائمة مع الأحداث، منجذبة لهذا التطريز المتقن ما بين لغة شاعرية وحوارات رشيقة. كانت تجلس أمامي امرأة منقبة حدقت في غلاف الكتاب ثم قامت من مقعدها وجلست على المقعد الملاصق لي، لامست الكتاب بأطراف أصابعها وكأنها تلامس شفة مسلول تخشى عدواه، وبصوت عدائي سألت: 

- ما الذي يعجبك بهذه الكاتبة الفاجرة؟

لحظتها شعرت بثقل محنتي وأنا عقيمة من صوتي، نظرت إليها بغضب ثم قلبت الصفحة الأخيرة الفارغة من الكتاب وكتبت عليها: "هل قرأت شيئاً لهذه الكاتبة؟". زججت الجملة إلى عينيها فجاء ردها وكأنها تنفض حشرة سقطت على أنفها: 

- لا يشرفني ذلك، فقط سمعت عنها.

بحدة سطرت لها جملة أخرى "إذن لا تحكمي عليها". ولم أكتف بذلك، فسطرت لها الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. قرأتها وأخفضت نظرها كأنها خجلت من تسعها ولاذت إلى مكانها، ولا أدري لماذا فاجأني شعور أكيد بأنها ما إن تترك العيادة حتى تسارع إلى أقرب مكتبة وتشتري كتاباً لتلك الكاتبة. 

أسقطت عيني على الكتاب. لكن السطور تغبشت أمامي وقارب أفكاري قد شدني إلى بحر عائشة ومصيبتها التي بالتأكيد أصابت غيرها من البنات المغرر بهن حتى من أقرب الناس إليهن، أخذت أستعرض كل الذي أسمعه ولا أصدقه عن فتيات يخرجن مدعيات لأهلهن بالتزامهن حضور دروس دينية لكنهن يتجهن وجهة أخرى، بعضهن انكشف أمره وبعضهن مازلن يسخرن من غباء الأهل كما سخرت إحدى المدرسات من زوجها وهي تحدثنا: "تصوروا أنني كنت أجلس مع صديق زوجي في مقهى على البحر، فلمحناه يمارس رياضة الركض، اقترب من صديقه وظلا يتحدثان ولم يعرفني!". ردت عليها إحدى الزميلات بصوت لا يخلو من أسف: "كيف سيعرفك ووجهك مستور بالنقاب وبالنظارة السوداء التي تلازمك؟". أعتمت روحي دهاليز الحكايات الغريبة. ولم يشرق الضوء إلا حين سمعت الممرضة تنادي باسمي لأدخل إلى الطبيب الذي بادرني مبتسماً: 

- ها.. كيف صوتك الآن؟ 

لم يستطع أن ينتصر علي بذكائه، سحبت ورقة وكتبت: لم أجربه ثانية. 

- ممتاز.. ممتاز. دعينا نراه بالفحص. 

أمرني أن أسترخي تماماً، مط أنبوب المنظار الرفيع، أدخله في فتحة الأنف وأخذ يزجه على مهل لكنني غمضت وفاجأني العيان لدرجة أوشك فيها على التقيؤ، فسحبه ورجاني أن أحتمل محاولته الثانية ثم الثالثة والأنبوب مثل أفعى تزحف إلى حنجرتي حتى استقرت في الموضع الذي يريد. عيناه تراقبان الجهاز الذي يعكس له صورة الداخل، صوته برقة يطلق كلمات الإعجاب ولا أدري هل كان إطراؤه لالتزامي بالتعليمات أم لبراعته في إجراء العملية. سحب أفعاه تاركاً حنجرتي تهرشني ولا أستطيع حكها. سبقته إلى الكرسي المقابل لمكتبه وسطرت على الورقة: ما دام كل شيء ممتازاً فهل أستطيع الكلام؟ 

ابتسم وفي عينيه شبه اعتذار:

- الأفضل أن تكملي الأسبوع الثاني.

امتعضت. فاغتصب ابتسامة توحي بالملل:

- أقدر وضعك. لكن لابد من الصبر. 

كنت أحس بتعب وجفاف فكتبت له. سحب ورقة الوصفات وكتب عليها اسم الدواء وهو يشرح: 

- حبوب المص ستساعد على إزالة الجفاف، والأخرى ستمنع حدوث أي التهاب. 

خرجت خائبة من عيادته. كممني بأوامره وفرض علي الصمت. اتجهت نحو مكتب السكرتيرة لأدفع الحساب، ابتسمت لي الموظفة وهي تعدل وضع حجابها الذي انزلق، وحين رأتني مازلت أستخدم لغة الإشارة قالت كمن تواسيني "إن شاء الله تكوني أحسن في الزيارة القادمة". لم أطرب لمواساتها بل راودني شعور غريب بأنها تهزأ من صمتي وتتشفى بحالتي، فلربما تطفلت على قراءة ملفي وعرفت أن أحد أسباب علتي هو التدخين.

* * *

 

انحدرت إلى الدور الأسفل وأنا أغط بدمعتي، خرجت من باب العمارة ثم تذكرت الوصفة الطبية فعدت ثانية إلى الصيدلية الأنيقة، لم أهتم بالنظر إلى وجه الصيدلاني وضعت الوصفة على الكاونتر بانتظار أن تتحرك المرأة التي سبقتني، كنت ساهمة مهمومة بثقل الصمت الجائر الذي سأسقط في كمائنه أسبوعاً آخر. أيقظني نداء اسمي فتوجهت غير عابئة برفع بصري إلى الصيدلاني وهو يشرح: 

- هذه حبوب المص، الدواء الآخر غير متوافر، إن شئت لدينا بديل عنه. 

أخرجت ورقتي وقلمي وكتبت: "هل يفي بالغرض ذاته؟". 

أجاب بنعم وأردفها بكلمة سلامتك. 

أسرعت إلى سيارتي، غطست في قلبها الحنون، بحثت بين المحطات عن أغنية تلائم حالتي بعد أن تخثرت أحلامي من أمر الطبيب. حين طرقت باب أمي صافحني وجه أخي، اندفعت إليه، فأطلق صوته: 

- أكيد سمح لك الطبيب بالكلام، هيا أسمعينا صوت البلبل. 

أقبلت أمي وقد التقطت جملته الأخيرة. كادت تزغرد لولا أنني فردت سبعاً من أصابعي وأشرته بها في حركة تعني أن بعد أسبوع. 

تغذيت دون شهية كمن يقوم بواجب مفروض عليه. وصعدت إلى شقتي، تمددت على فراشي وحزني يقطر من عيني وفي داخلي شوق لأن تتراكض الأيام كما الموجات وأصدح بصوتي الأسير. 

رن جرس الباب بخجل. أدركت أنه عطية. فتحت له الباب، حين لمح حزن وجهي أدرك أنني مازلت أسيرة للصمت، حاول أن يستنجد بكلمات بسيطة يواسيني بها، كان صوته يتعربش إلى روحي وكأنه مغموس بالعسل. هززت رأسي أشكره وكفي تحط مثل حمامة رشيقة على كتفه، هبط بعنقه وأسقط على كفي قبل أن أسحبها قبلة ندية فارتعشت. 

* * *

 

كان صمت الأسبوع الثاني أقسي. ولم يكن يهون علي صعوبته غير التفاف أهلي من حولي، حتى صراخ أبناء أخي، أو عراكهم حول لعبة أو قطعة حلوى، لم يكن يزعجني بقدر ما كان يثير البهجة بداخلي وأنا أشاهد مواقفهم الضاحكة، أما عطية فلم يتركني.. كنت ما إن أصعد إلى شقتي حتى يأتي حاملاً دفاتره وكتبه، يجلس بقامته الفاحمة وملابسه النظيفة يقرأ الدروس التي حفظها وأنا أهز رأسي بالرضا الذي يتخلله غضب مصطنع إن أخطأ في القواعد. وحين يغلق الكتاب يبدأ يحدثني عن أحوال المدرسة والزملاء ويقلد بعض كبار السن ممن لا يحفظون، أو يغيرون الكلمات التي لا يفهمونها، وأحياناً كان يشتم بعض المدرسين الذين يهزأون بالدارسين، أو أولئك الذين لا يبذلون جهداً في التدريس ولا يهمهم سوى أن يقبضوا بدل الأوفر - تايم. كان عطية لا ينسى عصافيري التي تحبه، وتزداد زقزقتها حين يأتي ويجلس أمام الأقفاص يصفر لها، أو يغني بصوته الجميل وهو يبدل إناءات الماء والحبوب. جاء مرة وهو يحمل لعبة بلاستيكية ذات دوائر ملونة، أدخل كفه في القفص وعلقها ثم التفت إلي وقال هذه الدوائر حين تهتز من حركة العصافير تصدر موسيقى ناعمة أظنها ستجعلها تغرد أكثر، ومنذ ذلك اليوم ازدادت حركة العصافير وتغاريدها. 

ذات يوم دخل وكنت أتعارك مع مسمار لأدقه في الحائط، كان المسمار يطير كلما طرقت عليه، اقترب ليساعدني، لاصقني وهو يمد ذراعه، وبإصبعيه ذات الأظافر الساطعة أمسك بالمسمار وأشار بأن أضرب عليه، كنت أحس بأنفاسه مثل ريح السموم تخرج من صدره لا لتقذفني بعيداً بل لتمتصني إليها وتؤويني داخل خيمة. اختل توازن كفي.. ضربة.. ضربتان... والثالثة هوت على إصبعه فصرخ متألماً وهو يسحبها ويحشوها داخل فمه ليبرد قدوحه. بأسفٍ شديدٍ نظرت إليه فأدرك أنني أعتذر له. قال وصوته يسيل من قلبه لا من حنجرته: "فداك إصبعي وعمري كله". 

لا أخطئ مشاعر عطية، فالحب مثل عصفور يقفز بين أصابعنا وفوق وجناتنا، يفضحنا رفيفه وغناؤه مهما حاولنا أن نداريه. كنت أفرح بهذا الحب النبيل الذي لا أعرف حدوده عند عطية، وكنت بحدود أعبر له عن مشاعري التي لم أكتشفها بعد أو ربما كنت لا أريد. كانت أحلامي أحياناً تشدني إلى يوم يتفتح فيه قلبي للحب ثانية فأجد من يعوضني عن العجوز وجواد. وكنت أشعر بأنني أبني أحلامي على رمال متحركة، فلم تعد ثقتي بالرجال تمنحني القوة لأوافق على الخطاب من زملاء الجامعة الذين يسعون لأبي وأخي، ولآخرين تعرف أمي عوائلهم الكبيرة من خلال علاقاتها بالبيوت التي عقدت معها صداقات منذ أن جاءت مع أبي من حلب.. والفضل في ذلك يعود لأهل أبي، الذين أحبوها وقربوها من محيطهم ومعارفهم ولم يعاملوها كغريبة دخيلة على بيتهم ومجتمعهم. عاشت أمي مدللة ومحبوبة. لا أذكر أن شجاراً دب يوماً بينها وبين جدتي أو إحدى عماتي. أمي كانت طيبة وذكية تأقلمت بسرعة مع أجواء بيت جدي، جلست على الأرض لتأكل بيدها كما يفعلون، ارتدت العباءة والبوشية ولم تتذمر يوماً من حياتها، كانت تحب أبي وتفعل كل ما يرضيه ويسعده، صادقت النساء الفقيرات والبسيطات كما صادقت نساء العائلات الكبيرة، ومنها ومن أبي تعلم روح التواضع، حتى حين حصل على ثروة العجوز الكبيرة لم يغير هذا شيئاً بداخلي، وعندما حاول جواد ذات يوم أن يجعلني أترفع عن بعض الطالبات "الهيلق" كما كان يسميهن اعترضت عليه وذكرته: "لو لم أتزوج العجوز وأرثه؛ لكن في نظرك هيلقية.. الفلوس لا تصنع النفوس". ظللت أحتفظ بروح أمي السعيدة بإفناء ذاتها في شؤون بيتها، وكان يعجبني وفاؤها لأبي وحرصها عليه واهتمامها بكل ما يخصه، كنت أراها كيف تعد له الحمام وكيف تنتظره حتى يناديها لتفرك له ظهره، وحين يخرج يجدها قد أعدت على السرير ملابسه المكوية، وقبل أن يخرج تتأكد من أناقته وترش العطر على كفيه، وقبل أن يخطو إلى عتبة الباب تكون قد طبعت على وجنتيه قبلاتها ودعاءها. أحببت حنان أمي على أبي رغم أنه كان يثور ويعنف عليها بعض الأحايين، فهي لا تعتبر ثورته إهانة أو قسوة، ويوم أحببت جواد وحلمت به زوجاً كنت أرسم أن أكون مثل أمي، زوجة تتفانى ولا تشكو. لم أكن أرفض فكرة الزواج لذاتها، بل بسبب الخوف والقرف اللذين كبلني بهما العجوز، والشك الذي تركه جواد في داخلي بسبب نواياه وتناقضاته. لم أرتح لكل من تقدم إلي، ولا أدري ما سر ذلك الشعور الذي يلازمني حين أجلس مع أهلي لاستقبال خطيب جديد، كنت أبحث في عيني كل واحد منهم عن مثل تلك النظرة الحانية التي ألمحها في عيني عطية، أبحث عن تلك اللهفة حين يراني، عن خوفه علي، عن مشاركته لي بفرحي وحزني. عطية يريحني، يفهم ما أريد من إشارة أو نظرة. أصبحت أعتمد عليه بأشياء كثيرة وأنا واثقة منه. كان ذلك الشعور الذي يدفعني للمقارنة بين الخطاب وعطية يقلقني ويفتح نحوه مشاعر أعرف أنها مستحيلة. لكنها بدأت تغزوني وتحرك نكوص قلبي فلا أجرؤ أن أبوح بها لأحد. 

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا